رصدها أصبح أكثر صعوبة بعد سقوط النظام العراقي السابق
الخميـس 16 ربيـع الثانـى 1431 هـ 1 ابريل 2010 العدد 11447
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: المنتدى الثقافي
لندن: «الشرق الأوسط»
صدر عن مركز «دراسات عراقية» ببيروت كتاب «لاهوت السياسة.. الأحزاب الدينية المعاصرة بالعراق» (2010) للباحث العراقي رشيد الخيُّون، رصد الكتاب أحزاب ومنظمات الإسلام السياسي من مطلع القرن العشرين إلى هذه اللحظة، ويتضمن بابين: الإسلام الشيعي، والإسلام السياسي السني، مع أنه حسب مقدمته كان محرجا من هذا التمييز، لكن عذره أن لا إسلام سياسيا بلا انتماء للطوائف، وقد أتى على محاولة حزب التحرير الإسلامي في جمع الطائفتين بحزب إسلامي واحد، ولكنها أيام وكل عاد إلى حزب طائفته.
ويرى المؤلف أن بداية النشاط الديني في السياسة العراقية، في مطلع القرن العشرين، كان حالة دفاع عن الخلافة العثمانية، على أساس أنها ممثلة للإسلام في عصرها، وممارسة جهاد الدفع في حالة غزو أو اعتداء، لذا يصعب اعتبار تلك الحركات ضمن الأحزاب الدينية، أو ضربا من ضروب الإسلام السياسي الساعي إلى قيام دولة دينية تحت مبدأ الحاكمية القرآنية أو الإلهية.
مثل هذا النمط من الحركات، ومكانها مدينة النجف وبمشاركة المرجعية أو تبنيها لها مباشرة: «جمعية النهضة الإسلامية»، و«الجمعية الإسلامية» بالكاظمية من مدينة بغداد، وأخرى بكربلاء، وانتهى دور تلك الجمعيات بعد تمكن بريطانيا بالعراق، وظهور الحكم الوطني. أما الجانب السني الرسمي، وكان ممثلا بنقابة الأشراف ببغداد، فلم يعنها الأمر، بل امتثلت لواقع الحال، معتبرة أن الاحتلال هو الاحتلال عثمانيا كان أو بريطانيا، وكان نقيب الأشراف قد أصبح أول رئيس وزراء للعراق، والبلاد ما زالت تحت الاحتلال البريطاني المباشر.
ويرى أن أول نشاط سياسي عقائدي شيعي، نشد قيام دولة إسلامية، بدأ عبر جمعية مثلت الشباب المسلم في مطلع الأربعينات من القرن الماضي. ولهذا أشار مؤسس تلك الجماعة إلى أنه مؤسس الإسلام السياسي العراقي، وكان نشاطه بمعزل عن تنظيم الإخوان المسلمين، الذي كان تأثيره واضحا في أحزاب ومنظمات الإسلام السياسي كافة، بشكل من الأشكال.
وفي الفصل الخاص بحزب الدعوة الإسلامية يرى المؤلف تناقضا حول نشأته، فليس هناك من تعيين تاريخ مؤكد. هناك مَن جعله في نهاية الخمسينات (1957) ومَن اعتبره في الستينات، بل إن هناك من أشار إلى ميلاد الحزب في مطلع السبعينات. كذلك برز خلاف حول دور آية الله محمد باقر الصدر (أُعدم 1980)، الذي يظهر من خلال أدبيات الحزب ونشاطه، أنه هو المؤسس والملهم والقائد الفعلي.
اشتدت ظاهرة الإسلام السياسي بالعراق بعد انتصار الثورة الإيرانية، التي لم يكن بينها وبين اندلاع الحرب بين الدولتين إلا سنة وبضعة شهور (فبراير «شباط» 1979 - سبتمبر «أيلول» 1980)، والحرب التي خدمت تلك الظاهرة الدينية، وما جهز الأحزاب الدينية بالكوادر والأتباع والمسلحين هي عمليات التهجير، التي طالت الشيعة على وجه الخصوص، وفي مقدمتهم طائفة الفيليين الكرد.
فقد تأسس «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» (1982)، وتشكلت «قوات بدر» ذراعه العسكرية بعد عام من تاريخ التأسيس، وهناك أعاد حزب «الدعوة الإسلامية» بناء نفسه، بعد تعرضه لخسائر فادحة في الهجمات الشرسة ضده، من إعدامات واعتقالات، وأجري عليه من انشقاقات قياداته وقواعده، حتى عاد إلى العراق (2003) فاقدا الكثير من أعضائه.
وارتباطا بالتيار الصدري ليس هناك أصعب من رصد تحرك جيش المهدي وتعدد أصحاب القرار فيه، وتعبيره المسلح عن التيار ككل، وأوضح مثال على انفلاق وتشظي هذا الجيش ظهور ما يسمى بـ«عصائب الحق»، التي أبرزتها في الإعلام قضية الجنود البريطانيين المخطوفين من بناية وزارة المالية ببغداد، وما حصلت من مساومة مع هذه الجماعة عليهم. وما يرتبط بهذا التيار، إضافة إلى جيش المهدي، مما نُعرفه بالحركة المهدوية أو المهديين، فأكثر أولئك تجدهم من حاضري دروس السيد محمد محمد صادق الصدر، مع فك الارتباط بالتيار نفسه، حيث لا يوجد الآن ما يمكن أن يطلق عليه بالتيار الأم، وخصوصا بعد اغتيال الصدر نفسه.
هناك حركات لها دور في تاريخ الإسلام السياسي إلا أنها توقفت عن النمو، وتحجمت إلى مستوى الشخصيات والكيانات المحدودة، ولم يكن لها نشاط ملحوظ خارج الإعلام، مثل: «الجماعة الخالصية»، و«جماعة البغدادي»، ومنظمة «العمل الإسلامي» (الجماعة الشيرازية).
في الإسلام السياسي السني رصد المؤلف نشاط الإخوان المسلمين، منذ الأربعينات، من القرن الماضي، وما حصل من تقارب بينهم وبين المرجعية الدينية الشيعية معا ضد فترة حكم عبد الكريم قاسم. وتفرع النشاط السني إلى حزب التحرير، والكتلة الإسلامية بزعامة الشيخ عبد العزيز البدري، الذي كان يحث على العمل من أجل دولة إسلامية، لم يرقه أسلوب الإخوان في التغيير.
ومن الجماعات الحديثة بين السنة تأتي «هيئة علماء المسلمين»، التي تأسست كمرجعية دينية إلا أن السياسة وشعارات المقاومة أخذتها بعيدا، حتى أفصحت عن تبني الجهاد العسكري، بعد قبول الشيخ حارث الضاري تكليف إحدى الجماعات المسلحة أن يكون بمثابة المرشد لها، قد تقترب مهامه من مهام الولي الفقيه، لكن بنسختها السنية، ولا يختلف نشاط الهيئة السياسي عن بقية الأحزاب، إلا أنها لم تعلن عن نفسها كحزب أو حركة، بقدر ما تعبر عن نفسها كمرجعية دينية سياسية.
وإذا كانت هناك صعوبة، في رصد تحولات الإسلامي السياسي بمجمله، فالأصعب من هذا هو البحث في الحركات الجهادية، التي تعلن عن نفسها كمقاومة إسلامية مسلحة، والتي لا تصلح للغالب منها تسمية الحزب ولا التنظيم، فهي عالم غامض سري للغاية، والمعلومات حوله تبدو متناقضة، وجماعاته سريعة التقلب بين شدّ تنظيم القاعدة وترغيب الأميركان. فما إن تتأسس جبهة إلا ونقضت نفسها في جبهة أخرى، وأعلنت الجبهة المنشقة عن عمليات عسكرية مستقلة، تحذر من انتحالها ونسبتها للأولى!
عموما، تأتي عملية رصد التنظيمات السياسية الدينية بعد سقوط النظام أصعب كثيرا منها قبل السقوط، والسبب أن التنظيمات في المعارضة كانت تتحرك خارج العراق بكل حرية، وذلك ضمن الظرف الدولي المضاد للنظام السابق. لذا كانت تعبر عن نفسها ببياناتها وعبر شخوصها وإعلامها علنا، مما وفر المعلومات الكافية عن وجودها ونشاطها، ودراسة تاريخها ورصد يومياتها. أما بعد السقوط فيبدو الغموض والتبدل السريع في المواقف هما سمتي تلك الفترة.
لا يجد لاهوت السياسة عموما، خارج إقناع الناس عبر الرموز الدينية، مصداقية، بعد الأداء الفاشل وهو في قمة السلطة، وفي المقاومة السرية أيضا، حيث تكشف الحال عن أرقام مذهلة من الفساد بالنسبة للسلطة، ومن سفك الدماء بالنسبة لمَنْ في المقاومة. وتبين كم من السهولة ركوب الموجة الدينية، وتحول الولاءات بسرعة فائقة. بل إن الديمقراطية عموما تعرضت إلى انتكاسة بسبب ذلك الأداء، وظهر المائز بين الشعارات الدينية وحقيقة السلوك. بين التدين التقليدي، المبني على الأمانة والخوف من الله واستلهام مثال الإمام علي بن أبي طالب في خشونة العيش والرفعة والنزاهة، والتدين السياسي المكشوف في نفاقه وخيانته للمال العام وفراقه لشعاراته، التي يأخذ بها المؤمنون من على المنبر الحسيني.
وبالتأكيد فإن الانتساب لحزب ديني يضفي على المنتسب طقسا خاصا، بل وتحولا في السلوك، هذا ما رصده المؤلف في حياة أحد الشباب، القريبين منه، فقبل الانتماء الديني السياسي، كان ملتزما إلى حد كبير بالعدالة، وبالصدق، وكان يستمع إلى مقتل الإمام الحسين، وفي الوقت نفسه يستمع لأغاني أم كلثوم، وتتنوع اهتماماته بالموسيقى، ويندفع لمساعدة الغير من دون السؤال عن دين أو مذهب. وكان معجبا بالحسين بن علي وتيشي جيفارا، على حد سواء.
إلا أن الشاب المحب للجميع أخذ يتغير وبسرعة مفرطة، بدأ بالانسحاب من حلقة الأصدقاء وتبدل صلاتها الحميمة بهم إلى مناكدات، وبدأ يتقصد إغلاق الراديو والتلفزيون عند إذاعة موسيقى أو أغنية لأم كلثوم، ويتوجس من طعام أهله وأقربائه، ويسأل، وكأنهم انتسبوا إلى ديانة أخرى وهو من ديانة، يدقق في طريقة ذبح الدجاج، ويحذر من الصلات بين نساء الأقارب ورجالهم، ويحاول منع المصافحة بين النساء والرجال من أولاد العمّ، وأخذ يطول الاستماع إلى أناشيد دينية، وبكائيات بمناسبة أو بلا مناسبة.
واشترط هذا الإنسان على زوجته أن تتحجب بحجاب لم تألفه أمهات العباءات العراقيات من قبل، وقد تزوجها بعد علاقة حب قصيرة من دون أن ينظر حينها، ولا أهله نظروا إلى كونها سنية وهم من الشيعة، حتى والده أعطى رأيه السلبي في الزواج، ذلك لأنه أراد لولده واحدة من بنات أعمامه وممن يمكن التعايش معهن من دون منغصات، حيث الفارق في مستوى الحياة بين الريف القصي وبغداد، ولم يطرح والده حينها أو يسأل: أهي شيعة أم سنية! مع أنها سنية وتتحدر من ناحية الغرب، وهو الشيعي ويتحدر من الجنوب.
أخذ يسأل عن نوع الجلود التي يحتذيها ويتمنطق بها، فلما هدي له حذاء سأل من جلد أي حيوان هذا، وأين ذُبح؟! ورفض استعماله! ولما أراد أخوه شراء جهاز تلفزيون لأهله، بطلب من والدته، قال: «سأقطع عنهم المخصص»! وأخذ يكثر الحديث عن صراعات تاريخية أكل عليها الزمن وشرب، وبات ينتظر انتصار الثورة الإيرانية كي تقوم دولة المهدي! وبالجملة تحول إلى كائن حزين سلبي بعد أن فارقه المرح والتفاؤل!
يجد المؤلف في عنوان الكتاب «لاهوت السياسة» عبيرا عن مرحلة دينية سياسية بكل تفاصيلها، السلطة منها والمقاومة، ونظرة عابرة إلى رايات تلك التنظيمات، تجدها كأنها خرجت من قمقم التاريخ، بنشر راية الرسول ورايات الأئمة والخلفاء الراشدين وصلاح الدين الأيوبي كبطل تحرير. فالأحزاب التي في السلطة، وإن كانت لا تعترف بخضوعها الكلي لهذا اللاهوت، إلا أنها عملت وتعمل عبر المرجعيات واستخدام الرموز الدينية بقوة في الانتخابات، التي أوصلتها إلى السلطة، وهذا ما حقق لها الفوز الكاسح في الانتخابات الأولى، لكن الصورة قد تغيرت خلال انتخابات المحافظات (2008)، وما ينتظر تلك القوى في الانتخابات القادمة من مفاجآت. وبطبيعة الحال لا يعد فوز حزب الدعوة (جماعة المالكي)، في تصويت المحافظات، فوزا لسبب ديني أو مذهبي بقدر ما كان طمعا بتحقيق الشعار المدني «دولة القانون»، وهو اسم قائمة الجماعة المذكورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق