نافذ أبو حسنة
سوف يكون ضروريا توجيه الشكر لزعيم حزب النهضة التونسي، راشد الغنوشي، على التصريحات التي أدلى بها، والمواقف التي أعلنها، في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”. ذلك أنها ببساطة، تضع العرب عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص، في مواجهة وقائع جلية، وتخلصهم من التنقيب في المواقف، والغوص في التأويلات. ومن البقاء في حالة الانتظار القائمة، والترويج إلى أن “الربيع العربي” سوف ينهمر “شتاء مباركا” في فلسطين.
قال الغنوشي أشياء كثيرة، في “معهد واشنطن” وهو للمناسبة أحد أبرز خزانات التفكير للمحافظين الجدد، وجماعات الضغط الصهيوني اليهودي في الولايات المتحدة. وكل ما قاله المدعو إلى العاصمة الأمريكية، من قبل “الإيباك”، بحسب كثير من الروايات، يستدعي النقاش، لكن أهم ما يمكن التوقف عنده في السياق الذي نتحدث فيه، ما ذكره عن أن “الدستور التونسي الجديد لن يتضمن أي مادة تمنع إقامة علاقات مع إسرائيل”. وكذلك قوله:” إن حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، يعود إلى الطرفين. أنا مهتم بتونس. لدي تجربة أريد أن تنجح، فيما الآخرون يهتمون بفلسطين وليبيا. الكل مهتم بمصلحته الخاصة، ومصلحتي هي تونس”.
يعني هذا استعدادا معلنا للتطبيع، وإقامة علاقات مع الكيان الصهيوني، كما يعني أن شعار المرحلة “للنهضة” هو ” تونس أولا”. الموقف المدان من نقطة البدء، يحمل رسالة واضحة، لمن يريد أن يحمّل قوى ما ليس لديها بشأن فلسطين، أو أن يبقي “الحالة الفلسطينية” في ثلاجة الانتظار، ريثما تنجز تلك القوى “البند أولا” من مشروعها، ثم تلتفت لفلسطين وقضيتها. باعتبارها من وجهة نظر هؤلاء، “البند الثاني” الفعلي على جدول الأعمال.
لا شيء في الواقع يشي بمثل هذه التخيلات، وربما الأوهام. والعكس صحيح تماما، فما نلاحظه عدا عن التصريحات والمواقف المعلنة، للتنصل من فلسطين، وقضية الصراع العربي الصهيوني، وإدارة الظهر للمقاومة، سلوكا وفكرا، أن حجم الملفات الداخلية الحقيقية والمفتعلة لدى تلك القوى، سوف يعني أن على من يريد الانتظار، الانضمام إلى “أهل الكهف”.
ولا بأس من التذكير بواقعة ذات دلالة لافتة. فقبل نحو أسبوعين، ومع القرار الصهيوني بهدم جسر المغاربة في القدس، جرت الدعوة إلى تظاهرات مليونية لنصرة القدس، ولكن من جرى العمل على حشدهم أمام الأزهر لم يتجاوزوا بضعة آلاف، واقتصرت مليونية الأردن على آلاف أيضا.
بصرف النظر عن الحقائق المعروفة أو تلك التي ستتكشف من قبل كثيرين ، بشأن الموقف من فلسطين، والصراع العربي الصهيوني، فليس الهدف هنا، ولا يجب أن يكون تشكيكا بموقف الجماهير العربية من قضية فلسطين، أو من تهويد القدس، أو من الانتصار للشعب الفلسطيني، ودعم نضاله العادل. ولكن لا بد من محاولة فهم ما يجري.
لنفترض جدلا، أن تلك القوى، تريد فعلا الالتفات إلى قضية فلسطين، بعد الانتهاء من ترتيب أوضاعها الداخلية، (لم نعدم من يقول: إن الغنوشي يتكتك، ولا يريد استعداء الغرب الآن!!)فهل المطلوب من الفلسطينيين البقاء في حالة الانتظار والترقب لما يحدث؟ ألا يتوجب عليهم إبقاء قضيتهم حية في الوجدان الشعبي، ومركز استقطاب تستحق معه أن تظل في مكانة القضية المركزية للعرب جميعا؟ وأن تظل البوصلة، وأداة القياس؟
وإن كانت هذه القوى ستظل مشغولة، أو متشاغلة بالهموم القائمة، أو التي سوف تستولدها (بعضها حدد أولويته اليوم بحظر روايات نجيب محفوظ المفسدة) فهل سيظل الفلسطينيون في حالة الانتظار أيضا؟
بصراحة شديدة، لقد أدت سنوات من عبث التسوية والمفاوضات، ومن ثم الانقسام المقيت، إلى تآكل كبير في رصيد القضية الفلسطينية، لدى قطاعات واسعة من الجماهير العربية. ولا يزال الإصرار البائس على تلقف كل فرصة للتفاوض، يفعل فعله السلبي تجاه ما تبقى من رصيد للقضية المركزية الأولى. ويقود إلى النتيجة ذاتها الاستمرار في حالة الانتظار والمراقبة، للأوضاع القائمة في الوطن العربي.
إن إعادة وضع القضية الفلسطينية في مكانها المناسب، لا يتحقق دون فعل يعيد الأمور إلى نصابها، ويعيد توجيهها في الاتجاه الصحيح. لن يتحقق ذلك دون استئناف المقاومة النشطة والفاعلة.
والحقيقة أن المراهنة، على تعاطف واهتمام، وإعادة توجه، ينتج عن الاستمرار في الشكوى وإبراز المظالم، وترقب من يلتفت إليها، هي مراهنة فاشلة. من المناسب هنا التذكير بوقائع مهمة، وفيها دلالات لا تخفى: لقد تراجع حضور القضية الفلسطينية بشكل كبير، قبل الانتفاضة الأولى عام 1987. عشية تلك الانتفاضة حذفت قضية فلسطين من بنود جدول أعمال قمة عربية عقدت في عمان. وبعد الانتفاضة، عاد إلى فلسطين وهجها. أيضا، فقد جرت أوسع حالات التفاعل مع فلسطين وكفاح الشعب الفلسطيني، بفضل صمود مخيم جنين عام 2002 أمام آلة القتل الهمجية الصهيونية، وصمود المقاومة في غزة، عامي 2008 – 2009 أمام الآلة ذاتها. وباختصار، فإن جماهير الأمة تتفاعل مع نموذج مقاوم وصامد، ويحمل مع مقاومته وصموده، تباشير النصر. ولعلها اليوم، لا تستطيع أن تفهم غياب المقاومة، مع تغول الاستيطان، واستمرار التهويد، والحصار، والاعتقالات والقتل أيضا.
بوجود المقاومة الفاعلة، لا يستطيع الغنوشي التلفظ بمثل ما قاله في العاصمة الأمريكية، حتى لو أراد. وبوجودها سوف يكون التشاغل عن فلسطين مدويا في سطوعه، وستكشف الأوراق كلها دفعة واحدة.
ختاما، شكرا للغنوشي. أقله، سوف يريحنا كلامه من الاستماع إلى المطالعات عن”الربيع” الذي سنقطف ثماره في فلسطين. وربما يدفع البعض إلى التفكير في الانتقال من الانتظار إلى الفعل. والأهم أن يفعل.
*) إعلامي فلسطيني
عربي برس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق