أبو الكلام آزاد.. والخلافة الإسلامية
محمد حلمي عبد الوهاب *
وحقيقة القول إن تلك الحقبة كانت عامرة بالثورات السياسية في شتى بقاع العالم الإسلامي. فمن جهة، كانت ثورة «تركيا الفتاة» في أوج اشتعالها، كما اندلعت أيضا ثورة «الإصلاح الدستوري» في إمبراطورية القاجار بإيران، وقد اتصل أبو الكلام آزاد ببعض المنتمين إليها فيما هو ببغداد. ومن جهة أخرى، وعلى الصعيد العالمي، اندلعت في الحقبة ذاتها «الثورة الليبرالية» ذات الاتجاه الدستوري، تلك التي هزت إمبراطورية أسرة رومانوف سنة 1905م، عقب الهزيمة البحرية التي أوقعتها اليابان بروسيا.
كانت القاهرة المحطة التالية لبغداد في رحلة أبي الكلام آزاد وقت أن أنشأ الشيخ محمد عبده (توفي 1905م) بها كلية دار العلوم كرد فعل على النزعة المحافظة المتشددة التي نمت بقوة داخل الأزهر الشريف. ففي تلك الأثناء بدأ أبو الكلام آزاد يجري اتصالاته الموسعة مع أعضاء ثورة «تركيا الفتاة» الموجودين بالقاهرة للإشراف على مجلتي «الميزان» و«الترك»، لسان الحركة في مصر آنذاك.
ثم ارتحل بعد ذلك إلى كل من: تركيا وسوريا وباريس. وبينما هو عازم على السفر إلى لندن توفي أبوه فجأة عام 1912، فعاد إلى الهند مرة أخرى. وبعد عودته أسس مجلة «الهلال» التي لاقت نجاحا باهرا، بحيث صارت إحدى أهم المجلات الأوردية من الناحية السياسية وأكثرها حيازة لثقة القراء هناك. وفي الواقع، كان اتجاه مجلة «الهلال» إصلاحيا ليبراليا دستوريا، كما كانت تدعو إلى إحياء فكرة الجامعة الإسلامية في النفوس والواقع معا.
وبطبيعة الحال، كانت فكرة «الجامعة الإسلامية» التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر بمثابة رد فعل تلقائي على سوء الأوضاع السياسية في العالم الإسلامي. لكنها سرعان ما تحولت في شبه القارة الهندية إلى مذهب سياسي قوي ومتماسك، أو بعبارة أخرى إلى «برنامج حركة»، حيث وعت أمة الإسلام هناك الفكرة كدعوة أو رسالة سياسية على النحو الذي تشكلت به في ذهن أبي الكلام آزاد.
ففي حين كان الغرب ينظر إلى تركيا باعتبارها تجسيدا للتهديد الإسلامي للحضارة الأوروبية، كان أنصار الجامعة الإسلامية في شبه القارة الهندية ينظرون إلى تركيا باعتبارها المعقل الرئيسي، أو بالأحرى الحصن الأخير، للحضارة الإسلامية في مواجهة التهديد الغربي. ونتيجة لذلك، كانوا ينظرون إلى الخلافة العثمانية باعتبارها رمزا للأمة الإسلامية المهددة بالأخطار من كل جانب.
وفي السياق ذاته، كانت ثورة «تركيا الفتاة» في ذلك الوقت تبعث الأمل في إمكانية توحد الأمة والوقوف ضد الأخطار الغربية التي تتهدد العالم الإسلامي. ويمكننا بهذا أن نفهم الكثير من الكتابات التي خص بها أبو الكلام آزاد الإصلاحات التركية، حيث كان يبدي إعجابه بكل من: حركة علي باشا، وحركة «التنظيمات» التي ارتبط اسمها باسم سعد الله باشا في عهدي السلطانين محمود وعبد المجيد.
غير أنه كان أكثر إعجابا بالمصلحين الذين اضطهدوا إبان عهدي عبد العزيز وعبد الحميد بصفة خاصة. وعلى رأس هؤلاء: مصطفى فاضل باشا، ومدحت باشا الذي دفع حياته ثمنا لإخلاصه في تحقيق العمل الإصلاحي الليبرالي. وفي المحصلة، كانت ثورة «تركيا الفتاة» في نظر مسلمي الهند بمثابة ثورة تجديدية ليبرالية إصلاحية تعمل على تحقيق وحدة الأمة الإسلامية.
وفي تلك الأثناء دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا وانطلقت الصحف والمجلات الهندية لتأييد هذا الموقف، فتم منعها واحدة تلو الأخرى. فقد تم أولا منع صحيفة «Comrade»، إثر افتتاحية كتبها محمد علي بعنوان «اختيار الأتراك»، ثم تبعتها مجلة «الهلال» التي وضعت مطبعتها تحت الحراسة، مما دفع أبا الكلام آزاد لأن يؤسس جريدة أخرى هي «البلاغ»، والتي سرعان ما منعت هي الأخرى بعد ظهورها بعدة أشهر، وتم طرد مؤسسها آزاد من إقليم البنغال، مثلما منع من الإقامة بعدة مقاطعات هندية أخرى إلى أن جرى اعتقاله في رانجي بمقاطعة بهار حتى وضعت الحرب أوزارها.
وقد سعى أبو الكلام آزاد، إلى جانب كل من محمد علي وشوكت علي بعد الإفراج عنهما، إلى تكوين ما عرف بـ«لجنة الخلافة» لدراسة الآثار المترتبة على هزيمة إمبراطوريتي وسط أوروبا (ألمانيا والنمسا) وحليفتهما تركيا في الخلافة العثمانية وسلامة أراضي تركيا واستقلالها ككيان سياسي.
لكن سرعان ما أسفرت معاهدة «سيفر» عن نتائج خطيرة، مما أثار أكبر عصيان مدني شهدته الهند في تاريخها لصالح استقلالها واستقلال الأقاليم الإسلامية الأخرى التابعة للخلافة العثمانية. في تلك الأثناء اجتمع كل من: أبو الكلام آزاد ومولوي عبد الباري من المعهد الإسلامي بفرنجي محل، المؤسس في القرن السابع عشر، والمهاتما غاندي لوضع خارطة طريق لأسس العصيان المدني في البلاد. وفي الأحوال كلها، تعد فكرتي الخلافة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأفكار الرئيسية في كتابات آزاد الذي ينطلق من التأكيد أن الخلافة الإسلامية لا تخرج في جوهرها عن كونها نظاما جمهوريا تنتخب من خلاله الأمة خلفاءها، كما أن مجتمع المدينة السياسي كان في رأيه عبارة عن ديمقراطية مباشرة يستطيع فيها كل مواطن أن يدخل على الخليفة مباشرة ويناقش معه الشؤون العامة وسبل الإصلاح.. إلخ.
وفي مناقشته مسألة الخلافة الإسلامية أعرب أبو الكلام آزاد عن أن «الجمهورية» تمثل الشكل السوي للخلافة الإسلامية في حين أن «الملكية» مثلت على العكس من ذلك تماما الشكل الفاسد للخلافة. لكنه أكد في المقابل أن الخلافة تبقى مع ذلك نظاما مشروعا حتى تحت الحكم الملكي!! ما دامت في رأيه تضمن وحدة الأمة الإسلامية وتعمل لأجل صالح الأمة وأنه لا يحق للمسلم ساعتئذ أن يخرج عليها!! وهنا يتابع أبو الكلام آزاد المدونة الفقهية التقليدية التي تحرم الخروج على الحاكم حتى ولو كان جائرا! فضلا عن التذرع بوحدة الأمة، وفي الحقيقة لم تكن هذه الوحدة إلا أمرا صوريا فقط، إذ كانت تمثل وحدة القهر السياسي لا التناغم والانسجام بين قوى الحكم والمعارضة، ناهيك عن أن تلك الحجج قد تحولت بدورها، ومع مرور الوقت، إلى ذريعة لتبرير أشد الممارسات السلطوية في تاريخ الإسلام.
صحيح أن آزاد لم يتردد قط في وصف الأمويين بالطغاة ولا حتى في إطلاق هذه الصفة أيضا على السلطانين عبد العزيز وعبد الحميد، رغم أنهما بويعا بالخلافة التي يعترف آزاد بشرعيتها؛ لكن يبقى القول: إنه إن لم يحقق نظام كهذا الهدف من وراء إقامته فلا فائدة منه، فضلا عن عدم ملائمته لظروف العصر الحالية.
وفي دراسة لآزاد بعنوان «شهيد أعظم» يحلل فيها الأحداث الجسام التي وقعت في كربلاء يؤكد آزاد أن الإمام الحسين لم يكن له طموح سياسي شخصي، وأنه لم يكن ينوي الاعتراض على خلافة يزيد، وإنما كان عازما على العودة إلى المدينة المنورة. لكنه إزاء الطغيان المتنامي ليزيد أيقن أن تضحيته بحياته ستضرب أروع المثل للشهادة في سبيل المحافظة الدقيقة على المبادئ الإسلامية. وبالعودة إلى الحديث عن لجنة الخلافة التي ترأسها إمام المسلمين في الهند، أبو الكلام آزاد، يمكن القول: إنها استطاعت في حقبة ما بين الحربين العالميتين أن تحقق أغلب أهدافها، فأيدت بحماس كامل مصطفى كمال للدفاع عن تركيا، وأسهمت في حملة جمع أموال لأنقرة تحت عنوان «Ankara Fund»، كما استقبلت بحماس أشد، النصر العسكري الحاسم الذي أدى إلى إلغاء معاهدة «سيفر» وإبرام معاهدة «لوزان» واسترجاع إسطنبول مرة أخرى.
* كاتب مصري