د. سعد كموني
يرى الدكتور جورج طرابيشي أنّ الحداثة الأوروبية كانت؛ لأنّ الأوروبيين أحدثوا قطيعةً مع النظام المعرفي الديني للقرون الوسطى؛ "وهذه القطيعة هي ما يمكن أن نطلق عليه اسم العلمنة sécularisation التي يمكن لنا أن نعرِّفها بدورنا، بالتضامن مع تعريف مرسيل غوشيه، ولكن بالرجوع هذه المرة إلى مفردات المعجم العربي الإسلامي، على أنها جهاد في سبيل الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة". علماً أن المعجم العربي الإسلامي يقدّم الجهادَ في سبيل الآخرة سبيلاً لبناء الدنيا والآخرة [تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ](القصص:83) والجهاد حرب على العلوّ في الأرض والفساد والفتن والظلم... والمثيرُ في الأمر أنه ـ وهو الباحث الكبير ـ يقدِّمُ تأصيله لمستويات العلمنة الغربية بوصفها سبباً في إنجاز الحداثة الأوروبية، في سياق الكلام على ضرورة التقدّم العربيّ والإسلامي. نعم، التقدم ضرورة؛ غير أنّ التقدّمَ الذي يقتضي قطيعة، يقتضي فهماً عميقاً لأسباب التخلّف، ليرى دعاةُ التقدّم ما الذي ينبغي الانقطاع عنه! مثلما يقتضي تماماً فهماً عميقاً لأسبابِ التقدّمِ عندَ الآخر؛ ليُرى ما الذي ينبغي الانقطاع إليه، وعندها يتحوّل العربيّ المتفهِّمُ لانهيار الماضي، والمتفهِّمُ لتقدّمِ الآخر، إلى حيّزٍ تتفاعلُ فيه عناصر من ماضيه مع عناصر من حداثة الآخر، ليكون خلقاً مختلفاً، يسعى في مجتمعِه للانطلاقِ به نحو مرحلةٍ جديدة، يتمكّنُ فيها من الإسهام الحقيقيّ في الحضارةِ الإنسانية، بما تحتاجه الإنسانيّةُ جمعاء. وهذا جهادٌ في سبيل الآخرة هدفه الدنيا والآخرة، ومؤسَّساً على اجتهادٍ حقيقيّ، يسهم فيه الجيل الجديد الذي صاغته الخبرة والعلم والجرأة في الأمّة. وفوق هذا كلّه، إذا لم يكن هناك شعورٌ بالحاجةِ إلى التقدّم، فكلّ النظريات والاجتهادات لا قيمة لها، والحاجة عندما تكون ملحاحة؛ تؤدّي إلى كشف الطريق الواضحة. وهناك يبدأ الحوار، ويتعزّزُ الاختلاف الذي يفرضُ عقداً جديداً لحمايته. الاختلاف الحقيقي يفرض على المختلفين أن يحتكموا إلى شرعةٍ تحميهم، أوتحمي حقّ كلِّ واحدٍ بأن يختلف عن الآخر. قلنا: "اختلافٌ حقيقي"، ونقصدُ بذلك أن لا يكون بتدبير مدبّر، عبر إثارة غرائز، أو إيهامٍ بوهم، كذلك لا يكون أثراً لانبهار، فالذي يطلب الحرية هو الذي تصطدم أفكاره وأحلامه بالاستبداد الفكري، والاجتماعي فضلاً عن السياسيّ، وليس الذي يقال له أنت بحاجةٍ إلى الحرية، فينبهرُ بما يقول أو بما يتصرّف. ويجعل الدكتور طرابيشي ذلك التقديم لمستويات العلمنة الغربيّة في عشر مستوياتٍ، يقترحها للعَربيِّ كي يستأنسَ بها في سبيله إلى إنجاز حداثة القارة الجيوـ ثقافية العربيّة ـ الإسلامية. أنا لا أنكرُ على الغربِ فتوحاته المعرفيّة، ولا أنكر على قادة الفكر العرب حقَّهم في أن يبدعوا في إطار الإسهام المعرفي؛ على ضوء المصابيح المعرفية الغربيّة. ولكنّ الذي يريبني هو في كوننا فعلاً، نحتاجُ ثورةً تفكيريةً منهجيّة، تخلّصنا مما نحن فيه من هامشيّةٍ حضارية، وأمامنا تجربةُ الغرب الخلاقة، وتجربةُ الإسلامِ التي كانت منذ خمسة عشر قرناً ونيّف؛ فنستدعى إلى قطيعةٍ مع الماضي، واندفاعٍ باتجاه الغرب! هذا ما يريبني ويجعلني حائراً في الأمر. والدكتور طرابيشي، لا يتردد في طرحِ ما يطرح، وهو العربيّ المشبعُ بالثقافةِ والفلسفةِ العربيّتين الإسلاميتين، ما يجعلني أكثر حيرةً لأنني أراه حراً في تفكيره وفي نقده، لا أستطيعُ اتهامه ولا ينبغي لي، كما أني لا أستطيع المضيّ معه، كما يريد. وما يريبني أيضاً في ما يعرِضُ علينا، دعوته العربَ إلى الإسراع في إنجازِ فطامٍ بين العربيّة والإسلام، حتى يتسنى له الدخول في السباق الحضاريّ! والاثنان هذان لا يمكن الفصام بينهما، كما أني أعتقد اعتقاداً راسخاً أنه لا بد منهما في إنجاز تقدّمنا، بينما هو يعتقد أنّهما معاً عائقان يسببان انعداماً حضارياً يستعصي معه العربُ على التقدّم مهما حاولوا ! "فبما أن الإسلامَ يرتبط ارتباطاً تأسيسياً باللغة العربيّة، فإنّ العالم الإسلاميّ العربيّ سيبقى مستبعداً من حلبةِ السباق الحضاريّ أكثر حتى من العالم الإسلامي غير العربيّ، باعتبار صميمية علاقته اللغوية بالإسلام، على عكس حال باقي القارة الإسلامية التي قد تستطيع أن تنجزَ فطامها بسهولةٍ أكبر، كما يشهد على ذلك المثالُ التركي بالأمس والمثال الماليزيّ اليوم" . إنّ العربَ يا دكتور جورج، يعتقدون أنّ الإسلامَ أخرجهم من الظلمات إلى النور، ثمّ مكّنهم من طبع العالم بطابعهم القيمي الأخلاقي، والتفكيريّ، في يومٍ من الأيام، ويعتقدُ كثيرون أنّه بإمكانهم ذلك؛ إذا أعادوا قراءة الإسلام مرّةً أخرى، مستفيدين من الفتوحات العلميّة والمعرفيّة الجديدة، وهم لا يرون في أخلاقيات العلمانية، وما تبيحه من استبدادٍ ماديٍ؛ أخلاقاً صالحةً لهذا العالم، كل العالم. وإذا كان لا بدّ للإسلامِ أن يُفهمَ مرّةً أخرى، فلا بدّ من إتقان اللغةِ العربيّة، إتقاناً عظيماً، يفتحُ أمام متقنيها مغاليق الكنوز الدفينة، ما يجعلُ العربَ حاجةً إنسانية. لا يمكن لأمّةٍ أن تبدع إلا بلغتِها... فالأفضل سحب هذا الهراء من التداول لأنه دعوةٌ واضحةٌ إلى الانتحار، في الوقت الذي تحسبُ نفسك فيه تدعوها إلى الحياة. وإذا كنت تظنّ أن العربيّةَ لغةٌ مقدّسةٌ عند العرب، فهذا خطأ فادح، فالعرب لا يقدّسون لغتهم، لكنهم يحبّون لغتهم، لأنّهم اكتشفوها مبكّراً قبل استنباط قواعد صرفِها ونحوِها، فأبدعوا بها أجمل الأشعار قبل البعثةِ النبوية، وتباروا بها في أسواقهم ومرابدهم. وكان لبعدِهم عن التدوين لأسباب عديدة، أن يجعل هذه اللغةَ وطناً يسكنونَ فيه عن طريق مدخراتهم الثقافيّة المتنوّعةِ بين الموقف من المكان والزمان والإنسان، إضافةً إلى التجارب الفرديّة"الصعلكة" أو الجمعيّة "الغزو"، اغتنت هذه اللغة في أذهانهم لكثرة ما اختزنت من الأداء الفردي"الكلام" والجمعي"الأمثال والحكم"، وإذْ جاءهم الرسولُ العربيّ الكريم بآيةٍ من ربّه، لتدلّ أنّه نبي؛ كانت الآيةُ فناً تعبيرياً، يفوق كلَّ ما توصّلوا إليه من فنون القول التي تغنَّوا بها. فالمسألة لا تتعلّقُ بقداسة اللغة، والعربيّةُ ليست مقدّسة عند العرب، ولكنّها لغةُ ما هو مقدّسٌ في وجدان العرب وحياة العرب، وعندما تكون لغةَ الصلاة، تكتسبُ من الصلاة قيماً ثقافيّة ووجدانية، ويمنحُها القرآن الكريم قيماً تعبيريّة تختصُّ بها من دونِ سائر اللغات من "السلام عليكم" إلى "نعيماً"، وكان لها أن سادت في أنحاء العالم القديم قبل اكتشاف أميركا، تأسيساً على ما منحها القرآن الكريم من قيم جماليّةٍ وفكريّةٍ، ومرجعيّةٍ معياريّة في الحكم على السلوك الذهني والحركي، فانطلقت حركةُ التأليف بواسطتها، لأنّ حركة التفكير كانت أيضاً بواسطتها، فأنت لا تستطيع أن تفكّرَ بلغةٍ، وتخطّ ما تفكّرُ به بلغةٍ أخرى، ولا يتوهّمنّ أحدٌ أنّ التفكير منفصلٌ عن الوسائل المستخدَمة في إنتاجِه. لذلك كما تعلمُ اشترط الرسول العربيّ الكريم العربيّةَ شرطاً للانتساب إلى العروبة، وهذه أوّل مرّة في التاريخ، تخرجُ فيها أمّة على روابط العرق والنسب والحسب، وَقَالَ : " إِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ ، وَالدِّينَ وَاحِدٌ ، وَالْجَزَاءَ بِالأَعْمَالِ ، فَمَنْ قَصُرَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُبْلِغْهُ حَسَبُهُ ، وَإِنَّ الْعَرَبِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَلَكِنَّهَا لِسَانٌ نَاطِقٌ ، فَمَنْ نَطَقَ بِهَا فَهُوَ مِنَ الْعَرَبِ" سنقاربُ بعملنا هذا تلك المستويات بهدف الفهم أولاً، وللتعامل معها سلباً أو إيجاباً ثانياً. لذا؛ سنوردها تباعاً بحرفِها كما أوردها الدكتور طرابيشي في كتابه ، ونقارب كلَّ مستوى على حدة. وما كنا لنفعلَ هذا لولا أنّه اقترحها لنا كي نستأنس بها، ونحن نغالب واقعنا المزري؛ فهي" فاعل أساسي في جدلية التقدم والتخلف". ولو أنّ أستاذنا الكبير اكتفى بتقديمها على أنّها مظاهر التحولات الأوروبية من القرون الوسطى إلى الحداثة والتقدّم، لكان كفانا مغبّة المقاربة هذه، وكنا فهمنا عمله في مظانه الثقافية والعلمية والاجتماعية والدينية، وقلنا فيه ما ينصفه حيث هو. أما وأنّه يريدنا أن نتمثله في سعينا للتحديث، ويدعونا بشكل مباشر وغير مباشر لاعتماده جهاداً في سبيل الدنيا، بديلاً عن الجهادِ في سبيل الآخرة، فهذا ما لا يصحّ أنْ نمرّ عليه من دون تناوله بقدر مستطاعنا على الفهم . يقول:"هذه الجهادية الدنيوية، التي لا نتردد في أن نقول بأنها أحدثت في مسار البشرية انعطافاً بمئة وثمانين درجة، تلبّست شكل عَلْمَنة على مستويات عدة: أولها ـ ومهما بدا ما في ذلك من مفارقة ـ هي العلمنة الدينية. فلوثر، بكسره احتكار الكنيسة الكاثوليكية للإيمان الديني، ردّ هذا الإيمان إلى الشخص البشري، وأوكل إلى عقله المتمتع بالسؤدد الذاتي مهمة تأويل النصوص المقدسة. وقد ترتبت على ذلك نتيجة خطيرة من منظور الحداثة: فالأب الذي صار هو المسؤول ـ لا الكاهن ـ عن التعليم الديني لأولاده، صار ملزماً بأن يتعلم قراءة النصوص المقدسة بنفسه وبأن يعلِّم هذه القراءة لأولاده بدورهم. وهكذا اقترن الإصلاح البروتستانتي بثورة حقيقية على صعيد محو الأمية وتحطيم احتكار رجال الدين لعملية القراءة والكتابة". لا نستطيعُ أن نقولَ بأنَّ رجالَ الدين المسلمين، لا يحتكرون الإيمان الديني كما كان رجالُ الكنيسةِ الكاثوليكيّة يحتكرونه، بحجّةِ أنّ النصَّ القرآنيَّ لم يلحظْ لهؤلاء سلطةً احتكارية تمكّنهم من رقاب الناس وأرزاقهم وأحلامهم، ولا بحجّةِ أنّ مؤسسي المذاهب الإسلاميّةِ كانوا مجتهدين ينشرون اجتهاداتهم بواسطة تلاميذهم، ولسان حالهم يقول بأنّهم يصيبون ويخطئون. فالسلطةُ الدينيّةُ اليوم لا تنكرُ هذا، ومع ذلك تغتصب عقولَ الناس لتحدّ من نشاطها، ولتتمكّن من استتباعها معتزّةً بطاعتها، فتُلقي ـ بلا خجلٍ من أصحاب العقول ـ ما يُضحكُ ويُبكي من الحكايات الغرائبية العجائبيّة، التي لا يمكنُ لعاقلٍ أن يقبلها، وتوهمُ الناس بأنّ الذي يعتلّ على إعجازِها إنما بسببٍ من هذا العلم الدنيوي الذي جاءنا مع الغزاة الكفرة، وغرّرَ بأصحاب العقولِ الضعيفة، فاستكبروا عن طاعةِ الله وتطاولوا على "معجزاتِ" رسوله، وتنطَّحَ البعضُ منهم لتفسيرِ القرآن تأسيساً على ما حصّلَ من علومِ الغرب، ومنجزاته المعرفيّة، فنسوا أنّ القرآنَ الكريم أحاطَ بكلِّ شيءٍ، ولا نحتاجُ معه إلى أيّ علمٍ آخر، غير ذاك العلم الذي ينفعنا في الدنيا والآخرة. وهكذا يصرح أصحابُ السلطة الدينية على مسامع الناس يومياً، زاعمين أنّ المعرفةَ لا تكون إلا عبرَهم، فيطلبون من الناس بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر أن يسخّفوا أصحاب الاختصاص، فلا يلوي عليهم أحدٌ، بحجّةِ أنّهم أقربُ إلى الكفر والزندقة من الإيمان، وبخاصّةٍ إذا توجّه أحدهم بلومٍ لشيخٍ أو بعضِ شيخ، فهذا يعني أنّه حَكَمَ على مكانته الاجتماعيّة بالدونية، ما يجعلُ أقلَّ فتى في المجتمع يتوجّهُ إليه بالنصح والإرشاد، ليعود إلى رشده فيستغفر الله الغفور عن كلّ فكرةٍ راودته بعيداً من طاعة الله، والرسول، وأولي الأمر..... إذن؛ رجال الدين المسلمون لا يحولون بين الناس والقراءة والكتابة، كما كان آباء الكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبا؛ لكنّهم يقولون لهم لا تثقوا بعقولِكم في تحصيل العلم والمعرفة مما تقرأون؛ بل عودوا إلى أهل العلم ليهدوكم سواءَ السبيل! طبعاً، والعلم الذي يعنون، هو العلم اللدنيّ الذي يختصون به من دون سائر البشر، فيزرعون في عقول الناشئة ما يحقّرُ أصحاب الاختصاصات المتنوّعة، والمؤلّفات التي لا تعترفُ بسلطتهم، ويحضّونهم على تلقّي العلم "الحقيقيّ" من أفواه "العلماء" مباشرةً، لكونهم وحدَهم يعلمون ما يرضي الله ورسولَه. والجامعاتُ لا يمكنُها أن تزوّدَ الناس، إلا بالعلمِ الدنيويّ الذي أغنانا كتابُ الله وسنّة رسوله عنه، أو حددا إطاره بشكلٍ نهائيّ، فكتاب الله قد حسم إشكاليةَ الهويّةِ المعرفيّةِ للمسلمين "فهو البيان المصور والمفصل للكون والإنسان، والمجيب عن كل التساؤلات ". والخرّيج من الجامعات هذه، لا يمكنُه أنْ يعرفَ ما تنطوي عليه آي الذّكرِ الحكيم؛ فتندفع ألسنةُ الدعاةِ بتفسير آيات الله تأسيساً على رواياتٍ عجائبيّة، فنرى في مجتمعنا كثيراً من الخرّيجين يردِّدون هذه الخوارق للناموس الكوني على أنها حقائق، فمرّةً يقولون إنّ العين تأخذ حقها من الحجر، ومرّةً يقولون إنّ الحسد يجعل الحقل الأخضر يابساً، كأنهم لم يتعلموا قوانين الطبيعة، أو منطق تفسير الظواهر الطبيعية، ولم يتعرفوا بما حصّلوا من علومٍ، أنّ الطبيعةَ لها ناموس تمضي في سيرورتها وصيرورتها بموجبه! ولا يخفي هؤلاء الخرّيجون أنَّ مصادر معرفتهم هي شيخ الجامع الفلاني، أو المحطة التلفزيونية الفلانية، وإذا عاتبتهم على ذلك مستغرباً كيف لا يقرأون ويبحثون على ضوء علمِهم واختصاصهم؛ فلا ينكرون عدمَ قدرتِهم على فهمِ القرآن الكريم، أو السيرةِ الشريفةِ، إلا بهذه السبيلِ مشبعةً بالمبهر من الخوارق! وهي متاحةٌ لمن شاء أن يطلعَ عليها في مجلّداتٍ يقول أصحاب دور النشر عنها:"إنّها الأكثرُ مبيعاً بين الكتب". هل هذا هو الإسلام، أو هل هذا هو الدين؟ لذلك لا نستطيع أن ندير ظهورنا لما تطرحه العلمانية علينا من ضرورة الابتداء بالعلمنة الدينية، مؤكدين أنّه لا يصحُّ أن نجاري فنعتمدَ النسخةَ "اللوثريّةَ" لإنجاز الإصلاحِ الديني، فنحصل في النهايةِ على آباء يعلمون أبناءَهم أمورَ دينهم! فالإسلامُ أصلاً يدعو الآباء إلى ذلك، بل أكثر من ذلك، الإسلام يدعو إلى استقلال الأبناء عن الآباء مع واجب البرّ، فالنسخة اللوثرية، من شأنها أن تؤدي كما يرى الباحث إلى القضاء على الأمية من جهة، وخصوصية التدين تبعاً لخصوصية العلاقة بين الأب وابنه. ربما يكون هذا ضرورياً في مواجهةِ احتكار الكنيسة للمعرفة الدينية، أما والواقع الديني الإسلامي يسلك فيه رجال الدين سلوكاً سلطوياً، إلاّ أنّه لا يمكنهم أن يزعموا سنداً لسلوكهم هذا لا في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع ولا في القياس. فيعني هذا، أنّ الإصلاحَ الديني يجب أن يكونَ في إطار إصلاحٍ اجتماعي شامل، يعطي للعلم قيمته، وللدين منزلته، وللأخلاق مكانتها. وهنا يجب أن تكون النسخةُ العربيّةُ من هذه العلمنة، إعادة النظرِ بمناهجِ التعليم في المدارس الشرعيّة، ولا يجوز أن يكون هذا تلبيةً لرغبةِ أحدٍ سوى الحاجةِ إلى التحديث، بالتأسيس على التطوّر الذي أحدثته الفتوح المعرفيّةُ الجديدة في العالم، وبالتأسيس على مناهج البحث العلمي الجديدة والمتجدّدة. ويمكن أن نجزمَ بأنّ الأمر سيختلفُ إذا ما عرفنا أنّ القصور المعرفيّ، لا يمكن أن يكون في مجتمعنا بسببٍ من السلطةِ الدينيّة وحدها، ولا بسببٍ من غربةِ المتعلمين عن مجتمعهم وحدها، بل بالتواطؤ بين الغربةِ وهذه السلطة، بقصدٍ أو بغير قصد، حصل كلّ هذا؛ فلا المتعلّمون الحقيقيون استطاعوا أنْ يؤسسوا في بيئاتهم الاجتماعيّةِ تقاليد تفكيريّة جديدة؛ لكونهم حصّلوا علومهم بلغاتٍ غريبةٍ عن مجتمعهم، ومن المستحيلِ أن يرتقي المجتمعُ بلغةٍ غير لغته؛ ولا رجالُ الدين بوسعهم أن يدفعوا عجلةَ التقدّم المتعثّرة إلى الأمام باستبدادهم السائد، باسم الجنّة ترغيباً، والنار ترهيباً، والتكفير سلاحاً وإرهابا. ويمارسون هذا التسلط، وهم يرددون على الدوام[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ](البقرة: 56). إذن؛ لا بدّ من ثورة الترجمةِ والتعمّقِ في الدراسات اللغويّة. حتى نقضي على الأمّيّةِ التفكيريّة المنهجيّة. فنبدعَ آليةً جديدةً للتفكير، تنطلق من تعيين مصالح العباد أوّلاً، أو إعادة تعيينها؛ لكونها تشكّل حاجةً ملحّةً للعباد، وفهمها وتفهمها، والإقرار بأنها تتطورُ أو تتغيّرُ مع الزمن، ليس بفعل الزمن بل بفعل تطور العباد أنفسهم، والانطلاق ثانياً إلى النص لفهمه على ضوء الحاجة، لأنّ النص لا يقول إلا ما نحتاج؛ فهو مثل الكون تماماً لا نعرّفه كما هو، بل كما يبدو لنا، ولماذا يبدو لنا كذلك؟ لأننا لا نراه إلا انطلاقاً من حاجاتنا ومصالحنا. عندها سيختلف تأويل القرآن أو تفسيره، بل سيختلف فهمه، وعندها يستنبط الفقهاء أحكامه من جديد على ضوء الحاجة، لا على ضوء الموروث من الفقه. صحيحٌ أنّ علماء الأصول كانوا قد قرّروا أنّ مقاصدَ إرسال الرسل والأنبياء هي مصالحُ العباد، وقد حددوا تلك المصالح في الضرورات، والحاجات، والتحسينيات، والتكميليات؛ وقرروا الضرورات في حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال؛ فهذه عناوين أساسية، يُشكرون على تأصيلها، غير أنّ الاجتهاد ينبغي أن يكون في هذه العناوين، ولا يمكن للمجتهدِ أن يتقدّم فيها جميعاً بل هذا من شأن علماء النفس، وعلماء الدين، وعلماء الاقتصاد، وعلماء الاجتماع، وعلماء العلم، وعلماء التربية، وعلماء التشريح و............. يصلون إلى ما يصلون إليه في أبحاثهم ودراساتهم، وليقدّروا مصالح العباد من أبحاثهم: هل يجوز ضرب المرأة أو لا يجوز؟ ما السلوكُ الذي يتوافق مع حفظ النفس؟ معاقبة الصغير وتخويفه، أم احترام عقله ومحاولة إقناعه...؟ كيف نداوي مريضاً؟ بالرّقى والتعاويذ! أو بمراجعة الطبيب المختص؟ هل نستمطر السماء بصلوات الاستسقاء التي لم يصح أنّ الرّسول أدّاها؟ هل نلتزم بالآية "للذكر مثل حظّ الأنثيين"، أم نلتزم بمقصدها في العدالة كما أشار نصر حامد أبو زيد؟ (*) الذي يجيب عن هذه الأسئلة وسواها، أهلُ الاختصاص. وإنْ لم يجدوا لجوابٍ آيةً قرآنيةً، أو حديثاً شريفاً، هل نعطّلُ جوابهم؟ هذا نتاجُ علم، نتاج اختبار وتجريبٍ، وإقرارٍ بالتطور؟ ينبغي أن يحصل هذا الاستعداد للتوافق مع منجزاتِ العلم الحديث، في المدارس والكليات الشرعية، ويمكن أن يؤصّلَ هذا السلوك إذا تحرروا من سلطة الفقيه العباسي، أو المملوكي أو العثماني. إنّ أكثر ما يدعو إلى علمنة الدين، يكمن في المشهدِ الذي يقدِّمُ فيه رجالُ الدين أنفسهم حماةً لمصالحِ الناس، إذْ يرفعون أصواتَهم مطالبين بحقوقِ الأتباع، فيتّهم الواحدُ منهمم أبناء الطائفةِ الأخرى بالتآمر عليهم، وتدبير المكائدِ للاستئثار بالثروة، وهكذا إلى أنْ يتهيأ الأمرُ لتذئيب المجتمع، فيصبحُ لسانُ حالِ كل فردٍ يقول: كلانا بها ذئبٌ يحدّثُ نفسه بصاحبه، والجدُّ أتعسَهُ الجدُّ. إنّ شركاءَهم في الوطنِ أعداؤهم، لذا؛ لا يستطيعون أن يحلموا إلا بدولتهم التي يستتبعون فيها هؤلاء الشركاء لهم، ويعِدونهم بالعدالة، مستشهدين بالتاريخ وما ينفّرُ الشركاءَ منهم شيءٌ كالتاريخ! وتستوقفني في هذا السياق أطروحتان للدكتور يوسف القرضاوي، جاء في الأولى: "أما الدولة الدينية "الثيوقراطية" التي عرفها الغرب في العصور الوسطى والتي يحكمها رجال الدين، الذين يتحكَّمون في رِقاب الناس ـ وضمائرهم أيضًا ـ باسم "الحق الإلهي" فما حلُّوه في الأرض فهو محلول في السماء، وما ربطوه في الأرض فهو مربوط في السماء؟ فهي مرفوضة في الإسلام، وليس في الإسلام رجال دين بالمعنى الكهنوتي، إنما فيه علماء دين، يستطيع كل واحد أن يكون منهم بالتعلُّم والدراسة، وليس لهم سلطان على ضمائر الناس، ودخائل قلوبهم، وهم لا يزيدون عن غيرهم من الناس في الحقوق، بل كثيرًا ما يُهضَمون ويُظلَمون، ومن ثَمَّ نُعلنها صريحة: نعم.. للدولة الإسلامية، ولا ثم لا.. للدولة الدينية "الثيوقراطية". ليس هناك من ضرورةٍ لتكرير وجهة نظرِنا حولَ العلماء، إنهم علماء بالدين، لكننا نراهم في كلّ مسجدٍ وعبر غير محطةٍ إذاعية أو تلفزيونيّة، يتكلمون بالفلك، وبالبحار وبالأنواء، وبالسياسة، وهم يعرفون ما لزيّهم من سلطةٍ على العامّة. وما سمعنا من أحدِهم مرّةً يقول :"هذا السؤالُ جوابُه عندَ أهل ذاك الاختصاص أو ذلك"، وما رأيناهم مرّةً يستدعون أهل اختصاصٍ، وبحث، وتجريب، إلا لتوجيههم، وتزويدهم بما يرَوْنَ من مصلحةٍ أو مواقف، وإذا لم يلتزموا بما يملى عليهم فهم خارجون عن الإجماع، إذا لم يخرجوهم من الملّة! هل يعترف علماء الدين يا دكتور بعلم النفس، بالفلسفة، باللسانيات، بالفتوح العلميّةِ المختلفة في مدارس الغرب وجامعاته؟ هل يعترف علماء الدين بعلم الاجتماع وطروحاته بعلم السياسة وضروراته؟ قد يكون جوابك نعم؛ إذن، لماذا لا تكون هذه العلوم المختلفة مجالات مفتوحة أمام رجال الدين ليتخصصوا بها، وليسهموا فيها؟ أم أنّه فعلاً ما قام به الأقدمون يكفينا في السباق الحضاري اليوم؟! إنّ العلاقةَ بين علماء الدين وسائر العلوم علاقة مريبة، فهم لا يرون في هذه الاختصاصات إلا علماً لا ينفع، ويدعون الله أن يقيهم ويقيَ الأمّةَ شرّ ما لا ينفع. فكيف بعد هذا يا صاحب الفضيلة يمكنُ أن تكون الدولةُ الإسلاميةُ مقبولةً؟ فضلاً عن كونِها بحسب رأيك ليست دولةً دينيّة "ثيوقراطية"، ما يعني أنّ الحاكم ليس عالم دين، بل هو كما أفهم منك تابع لعلماء الدين، الذين يستحضرون فقه الماضين من الفقهاء ويجتهدون فيه ليستخرجوا بطريقة براغماتية أصول الحكم!!! وليس للحاكم أن يستفتي رجال الجامعات، هذا إذا بقي جامعات في الدولةِ الإسلامية، غير جامعات علماء الدين. وهل على أبناء الملل الأخرى أن يلتحقوا بها حتى وإن لم يكونوا مقتنعين إلى حينه بالإسلام؟ هل سيسمحُ لهم أهل السنّةِ والجماعة بممارسة التعليم، القضاء، قيادة الألوية في الجيش الإسلامي؟ أم أنّهم سيكونون في ذمّةِ أهل السنّةِ والجماعة؟ أم ستقول لي أنّه سيكون لهم مدارسهم وجامعاتُهم، وقضاؤهم، و........جيشُهم!؟ إذن؛ لا يجوز أنْ ننخدع بأنّ الدولَةَ الإسلاميّةَ المنشودة هي شيءٌ آخر غير الدولةِ الدينيّةِ "الثيوقراطيّة"، قد يكون الفرقُ بينهما في الهويّة وليس في الرتبة، أو هو فارق الزّمن الذي يمنحُ الدولةَ الإسلامية من وسائل وتقنياتٍ لم يكن يمنحها للدولةِ الدينيّة في أوروبا القرون الوسطى. أما الأطروحة الثانية، وهي مغالطة فكريّة خطيرة لجهةِ فهم الواقع الإنسانيّ، فالدكتور القرضاوي يقول:" لم يكن مبدأ الحرية قد جاء نتيجة تطور في المجتمع، أو ثورة طالبت به، أو نضوج وصل إليه الناس، وإنما مبدأ أعلى من المجتمع في ذلك الحين.. جاء مبدأ من السماء، ليرتفع به أهل الأرض، جاء الإسلام ليرقى بالبشرية بتقرير هذا المبدأ، مبدأ حرية الاعتقاد، وحرية التدين.." أنا مثلك يا صاحبَ الفضيلة، أؤمن بالله خالقاً حيّاً قيّوماً، وأؤمنُ أنّ القرآنَ الكريمَ كلامُ الله. ولكن؛ هل تعتقدُ أن الله جلّ وعلا، يرسلُ للعباد ما لا يشكّلُ حاجةً لهم؟ إذنْ، ما هو معنى الهدى؟ وإذْ تقرّرُ الآيةُ الكريمة أنّه "لا إكراه في الدين"؛ إنما ذلك تقريرٌ لحقيقةٍ إنسانيّة ساطعة، هي أنّ الدين موقفٌ إنسانيّ تحدّدُه علاقةُ الإنسانِ بالكون، وما يعجزُ الإنسانُ عن تفسيرِه يدين له تلقائياً، وعندما يحيط به عقلُه؛ يتحللُ من الخضوع له. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فلا إكراه فيه، بل من المستحيل أن يجديَ الإكراه فيه. وإذا كان من شأن التوحيد أن يحرّرَ الإنسانَ من الدينونةِ لما هو دون الخالقِ الأوحد، وإذا كان ذلك التحريرُ يجعلُ الإنسانَ سيّدَ المخلوقات، فإنّ ذلك يعني أيضاً أنّه إذا لم يكن الإنسانُ متضرّراً من عدمِ سيادته، أو من خضوعِه لما هو دونه قيمةً؛ فمن المستحيل أن تجبرَه على التحرّر؛ لأنّ الحاجةَ التي تشكّلُ حافزاً للتحرّر ليست متوافرة. أمّ أنّك فهمت من الآية "لا إكراه في الدين" تضمينَ أمرٍ للمسلمين بأن لا يُكْرِهوا أحداً على اتّباع دينهم! فتبني على ذلك استنتاجاً بأنّ الدولةَ الإسلاميّةَ لن تُكرهَ الآخرين على التزام دينِها؟! ولا أظنك كذلك؛ غير أني أسمع كثيراً من المبشّرين بالدولةِ الإسلاميّة، يقدّمون هذه الآية رشوةً للآخرين حتى يوافقوا على قبول المشروع. فالآيةُ نفيٌ من نوع نفي الجنس، ما يعني أنّها ترمي إلى تأسيس قناعةٍ وترسيخٍ لها عند المتدينين لأيّ دينٍ انتموا بأنّ ما اعتنقتموه كان تجاوباً مع حاجاتِكم، فلا تفترضوا أنّ الآخرين كذلك، ولا تتوهّموا سبيلاً آخرَ غير الحكمةِ والموعظةِ الحسنة. نريدُ دولةً يا صاحب الفضيلة، تحمي فهمك للإسلام، كما تحمي فهمَ المعترضين عليه، كما تحمي الملاحدة. والجميعُ متساوون أمام القانون. هل هذا ممكن؟ كم هو رائعٌ أن تصرّحَ في الغد:" لا نريد دولةً إسلامية، ولن نسمحَ بقيام دولةٍ تفرضُ علينا ما يحولُ بين سلوكنا وقناعاتنا، ويكون مصدر التشريع في هذه الدولة، أشخاصٌ ينتخبهم الشعب" وعندها يتحوّلُ المجتمعُ إلى تحمّلِ المسؤوليّة، إذْ يكون مباحاً لك ولغيرِك أن ينشر ما يفهم، وأن يتنخّلَ المجتمعُ الفهومَ، فيرتقي بحركيّةٍ طبيعيّةٍ يكفلُها القانون. ستقول لي وأنت محقٌّ في قولك، إنّ السّواد الأعظمَ من الشعب رهائن الأمّية وما تجرّ من جهلٍ وسوء تقدير؛ ومن المؤكّد أنّ التخلّصَ من هذه الآفات لن يكون إلا بالحريّة. ما من مرّةٍ في التاريخ استأثرَ فكرٌ أو عقيدةٌ أو جهةٌ ما بالحكم؛ إلا وانتهى الأمر بكارثةٍ على المستأثر والناس بعامّة، وكذلك على مسار التطوّرِ الطبيعي، فحبذا لو يتمّ استرجاعُ نهايات الممالك ومقاتلِ الحكّام . [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ](غافر: 21). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) تقطيع المقال تم أثناء نشر الموضوع بسبب وروده مقطع واحد غير مقطع. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق