بين الفقيه والمثقف - رفيق عبد السلام
بين الفقيه والمثقف
كان الشيخ محمد عبده الضائق ذرعا بالأزهر وأهله، والساخط على أجوائه العلمية قد ذكر في فورة غضب جامح قبل ما يزيد عن قرن مضى، ردا على زميله الشيخ البحيري عضو مجلس إدارة الأزهر في ذلك الوقت، والذي نافح عن سلامة مناهج الأزهر وعدم الحاجة إلى التغيير، بدليل أنه خرج عالما بارعا في العلم مثله (يقصد عبده)، قائلا: «إذا كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر، فإني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من نظافة» (الأعمال الكاملة ج 3 ص 194).
ربما يبدو هذا الحكم الذي أصدره عبده بحق الأزهر وزملائه الأزهريين شديد القسوة، إلا أنه مع ذلك كان يعكس على نحو أو آخر تبرم نخبة من علماء هذه المؤسسة العريقة، مما اعتبروه جمود المؤسسات الدينية والهيئات العامة وعدم قدرتها على مجاراة وتيرة الحياة ومتطلبات العصر.
كان هم هذه النخبة العلمائية التي صدمها هول التحولات من حولها، ووعت شدة وطأتها على بنى الاجتماع والفكر، منصبا على إنجاز مشروع إصلاحي واسع النطاق في إطار الحفاظ على الهوية العامة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ميراث الإسلام المديد، وهذا ما يفسر كيف حمل بعض هؤلاء العلماء النابهين أنفسهم حملا على اكتساب اللغات الأجنبية وفتح دروب الاكتشاف عبر الرحلة، والانخراط في عملية الترجمة سواء بأنفسهم أو بتوسط تلاميذهم ومريديهم الذين استحثوهم على أداء هذه المهمة. ولا شك أن هذا الجيل كان متميزا بسعة اطلاعه ومتانة لغته، وقد اتسم فكره بمنحى توليفي بين التقاليد العلمائية العريقة التي تشبعوا بها وبين الثقافة الحديثة والوافدة. وفعلا لا يمكن فهم شخصيات طريفة وعملاقة مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان ومحب الدين الخطيب وعلال الفاسي والطاهر بن عاشور وغيرهم من أبناء الجيل الأول والثاني من الإصلاحيين الإسلاميين من دون فهم هذا المزيج المركب الذي طبع خطابهم.
مع امتداد موجة التحديث واختناق المؤسسات التعليمية التقليدية، تراجع إلى حد كبير دور العالم أو الفقيه لصالح المثقف أو ما يمكن تسميته بالإنتلجنسيا الإسلامية، بيد أننا نشهد اليوم وفي أجواء صعود الإحيائية الإسلامية، عودة الفقيه أو العالم مجددا إلى الساحة الثقافية العامة، واستعادة بعض مجالات الحضور والشرعية التي افتقدها، وهي عودة تنبعث في الغالب الأعم من طرف القوى التحتية والعميقة للمجتمع، بعيدا عن الدولة وفئة علمائها وبيروقراطييها الخاصين.
يبدو اليوم وكأن الصورة قد انقلبت رأسا على عقب، فبينما كان الفقيه الواقع تحت ضغط الحداثة يجهد نفسه على تحسس روح العصر وفهم لغة العالم الحديث، تبدو الأجيال الجديدة من علماء الدين شديدة الامتلاء بنفسها، وأكثر انجذابا إلى الماضي منها إلى الحاضر أو المستقبل.
ولكن هل يعني هذا أننا هنا إزاء عودة العالم أو الفقيه فعلا إلى تصدر الحلبة الثقافية العربية الإسلامية، واختفاء ما يمكن تسميته بالمثقف أو الإنتلجنسيا الإسلامية؟ وهل هذه العودة تعبر عن اتجاه مستقبلي أم أنها مجرد حنين إلى وضع مدبر وغابر وليس أكثر؟
الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن مسار التحديث بخيره وشره قد فرض واقعا جديدا في الجغرافيا الثقافية الإسلامية، ومن ذلك تفكك التعليم الديني وما يرتبط به من نسيج مجتمعي واقتصادي، لصالح نظام التعليم الحديث الذي تشرف على حظوظه النواة المركزية للدولة، وفي هذا السياق تراجع دور العالم إلى حد كبير لصالح المثقف أو الإنتلجنسيا، خريج المدارس والهيئات التعليمية الحديثة التي أضحت المنتج الأكبر لنظام الرموز والمعاني الإسلامية. صحيح أن الفقيه لم يختف تماما من المشهد الثقافي والإعلامي في العالم العربي والإسلامي، خاصة مع تزايد الطلب على نظام الرموز والقيم الإسلامية، ولكنه بكل تأكي لم يعد «صوت الإسلام» أو على الأقل الصوت الوحيد للإسلام.
الحقيقة أن عالم الدين أو الفقيه ومهما كان حجم الطلب على خطابه لم يعد في الوضع الذي يسمح له بتسيد المشهد الثقافي العام، أو احتكار القول حول الإسلام، فمع تغير نظام المعرفة الحديث باتجاه مبدأي المردودية والنجاعة، أضحت العلوم التجريبية من هندسة وكيمياء وفيزياء وطب وهندسة، ثم بدرجة أقل ما يعرف بالعلوم الإنسانية من علوم اجتماع ونفس واقتصاد وغيرها من علوم «النجاعة» هي التي تحظى بمطلق الأولوية في مجالي التعليم ومشاغل الدول. ولا غرو هنا أن تضطر مؤسسة تعليمية عريقة مثل الأزهر إلى مجاراة الموجة وركوب المركبة، عبر بعث جامعات متخصصة في العلوم الحديثة داخل المجال التعليمي الأزهري.قلة قليلة هم الذين يتجهون اليوم إلى تحصيل التعليم الديني الذي تحول في الكثير من الحالات إلى مجرد أقسام تخصصية في كليات العلوم الإنسانية (يسميها الأتراك بالإلهيات)، كما أن عالم الدين قد فقد النسيج الاجتماعي والاقتصادي الحاضن له من مؤسسات وقفية وأهلية عامة التي باتت تسيطر عليها الدولة بصورة شبه كاملة.
الثابت هنا أن عالم الدين لم يعد بمقدوره تصدر الحقل الثقافي بله احتكاره والنطق باسمه، هذا إذا استثنينا الفضاء الشيعي الذي ما زال يحتفظ بقدر من الحضور نتيجة الموقع الخاص الذي تشغله المراجع الدينية في الاعتقاد الشيعي، كما أنه إذا استثنينا بعض الحالات الخاصة من النبوغ والتميز، فإن السمة الغالبة على طلاب ودارسي العلوم الدينية هو ضعف التكوين ووهن المنهج. فالذين يتجهون لدراسة العلوم الشرعية هم في الغالب الأعم ممن لم يكن لهم حظ وفير في مدارج الجامعات الحديثة. وبحكم حالة التهميش التي تعرضت لها المؤسسات التعليمية التقليدية فقد انقطعت صلة خريجيها بالعالم من حولهم وقلت خبرتهم بالحياة وتقلباتها، وهكذا تراوح وضعهم بين الاندراج ضمن وضع قائم والتحول إلى ما يشبه ترس صغير في آلة ضخمة لا سلطان لهم عليها، وبين الاكتفاء بالتفرج على المحيط والتسخط عليه.ومع كل ما ذكرناه سابقا فإن المشهد الثقافي في الرقعة العربية الإسلامية يبدو أقرب إلى الوصف بالفوضى المعرفية والمؤسسية منها إلى أي شيء آخر، فلا المثقف الحديث أو الإنتلجنسيا امتلكت السلطة والشرعية الكافية التي تؤهلها لتوجيه المشهد الثقافي العام، ولا عالم الدين أو الفقيه استعاد السلطة السابقة التي كان يتمتع بها دون منازع، في مثل هذه الأجواء الفوضوية تمكنت قوى كثيرة من دخول الحلبة. المجموعات العنيفة حاولت تنصيب نفسها ناطقا رسميا باسم الإسلام والمسلمين، في موجة الاجتياحات العسكرية الغربية وصعود لغة المواجهة وصراع الحضارات. ما يسمى بالدعاة الجدد حاولوا الاستجابة للطلب الديني على طريقتهم الخاصة، عبر الاعتماد على ما يمكن تسميته بالصناعة الدينية التي تقوم على المشهد الاستعراضي الشخصي وحسن استخدام الصورة في قالب ديني جذاب، بحيث لم يعد مطلوبا هنا التمرس بمختلف فنون المعرفة الإسلامية والاعتكاف لسنوات طوال في تقليب المدونات والمتون الفقهية والتبحر في علوم اللغة لبلوغ صفة العالم، بل يكفي التزود بشيء من المعرفة الدينية العامة وامتلاك المظهر الجاذب ثم حسن استخدام الصورة حتى يتم بلوغ مرحلة الداعية النجومي.ومع ما ذكرناه آنفا عن تراجع دور العالم أو الفقيه فإن وضع المثقف ليس بأحسن حالا منه، وذلك في ظل غياب النسيج المؤسسي والاجتماعي الذي يحميه ويضمن الحد الأدنى من استقلاليته، ولذلك كثيرا ما يجد هذا المثقف نفسه عاريا أمام مغريات الدولة فتتحرك فيه دوافع المصلحة الخاصة والانتهاز على أي اعتبار آخر.
لكن ما هو مؤكد هنا هو أن الفقيه لم يعد بمقدوره - استنادا إلى الآلة الفقهية الموروثة القائمة على نظام الأقيسة والبحث عن الأشباه والنظائر - أن يقدم الإجابات الكافية والشافية على كل ما يحدث في عصرنا. فالمعرفة عند الفقيه لا تزيد عن كونها مجرد «أحكام وأقضية» واستعادة ما قاله الأقدمون والنبش في مدوناتهم. فقه الأقليات لا يزيد عن البحث في أقوال ابن القيم الجوزية أو ابن رشد الحفيد أو الشيخ الونشريسي وغيرهم، وفقه السياسة والدولة لا يزيد عن النبش في نصوص الماوردي وابن تيمية وما يعرف بفقهاء السياسة الشرعية، بينما نحن نشهد انقلابا في أحوال العصر وبنية الاجتماع السياسي ما عادت تسعف فيه نصوص القدامى وحلولهم.
المعرفة ليست فتوى ولا هي مجرد أحكام شرعية في التحليل والتحريم والندب أو الكراهة على أهمية ذلك في مجال الاعتقاد الإسلامي، بل هي بحث دؤوب وقدح لزناد الفكر مصحوبين بحيرة وقلق، وهي معرفة تبتغي الأسئلة أكثر مما تطمئن إلى الأجوبة الجاهزة. كما أن المعرفة باتت اليوم بالغة التركيب والتفرع وما عاد بمقدور أي شخص مهما أوتي من اتساع الدراية الجمع بين أطرافها المتناثرة، فقد انتفت صورة العالم الموسوعي الذي يمتلك القول الفصل في كل شيء، لتحل محلها المعرفة التخصصية في حقول متشعبة بالغة التبعثر، ولعل أكثر المعضلات التي تطبع عصرنا الراهن غلبة التخصص الفرعي وغياب الرؤية الجامعة نتيجة ما يسميه علماء الاجتماع بتشظي الحقول الاجتماعية والقيمية. وعلى هذا الأساس فإن امتلاك ناصية البلاغة اللغوية وحفظ النوادر الشعرية والطرائف المستطرفة على أهميتها أو قدرتها على شد مسامع الجمهور واستحسان العامة، إلا أنها لا تقوى على سد الفراغ الفكري في الساحة الإسلامية ضحالة التعليم الديني ووهن التعليم الحديث.
نعم للفقيه وظيفته التي لا يمكن التقليل من شأنها، بيد أن المثقف الحديث هو الآخر حالة راسخة لا يمكن تجاوزها أو التهوين من قدرها، هذه حقيقة في حاجة إلى أن يستوعبها الفقيه والمثقف على السواء، ولعلها الخطوة الأولى واللازمة باتجاه استعادة قدر من التوازن المفقود في الساحة الفكرية الإسلامية.
* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق