نقد النسويّة الإسلاميّة الرافضة (1 ـ 3): "نقد النسويّة الإسلاميّة الرافضة (1 ـ 3)"
دفاتر الأيام
نقد النسويّة الإسلاميّة الرافضة (1 ـ 3)
أوراق قليلة اكتسبت مع الزمن لوناً يميل إلى صفرة تشي بالعتق، تقبع منذ أواخر ستينيات القرن الماضي بين أوراقي، دون أن يصيبها الضياع أو يتمكّن منها التّلف.
أوراق قليلة، مستنسخة بطريقة ورق الشّمع القديمة (ستانسيل)، ومطبوعة بآلة كاتبة تآكلت بعض حروفها، أحتفظ بها بين أوراقي منذ سنتي الجامعيّة الأولى، تحمل عنوان "مدخل إلى الفلسفة"، وتحته السؤال الأكاديميّ الأوّل لمادّة الفلسفة: ما الفلسفة؟
هذه الأوراق، مع غيرها، ومنها أجزاء من "جمهوريّة أفلاطون" و"محاورة فيدون"، شكّلت بعض عناصر مساق الفلسفة التي كان أستاذنا للمادة في كليّة الآداب بالجامعة الأردنيّة، الدكتور فهمي جدعان، القادم لتوّه من جامعة السوربون في باريس، قد وزّعها علينا، لتمثِّل، بالنسبة لي (وربما لكثيرين غيري)، أولى المعارف المنهجيّة في الفلسفة، بعد قراءات عشوائيّة سابقة ظلّت تقتصر لديّ على شيء من الوجوديّة، في تجلياتها الأدبيّة خاصّة، وتحديداً عند سارتر وكامو ودي بوفوار، إضافة إلى قراءات عشوائيّة في الماركسيّة.
لقد لاحظتُ، بعد ما يزيد عن أربعة عقود من قراءاتي الأولى لتلك الأوراق، التي لا أتردّد من تكرار الاعتراف بأنني تعلّمت منها أولى مبادئ الفلسفة، إفراطي، آنذاك، في وضع الخطوط تحت سطورها، تارة بقلم الرصاص، وأخرى بالقلم الأحمر، حتى أن سطراً منها لم يتمكّن من الإفلات من اقتحامات تلك الخطوط.
***
بعد هزيمة حزيران، أغوتنا فكرة البحث عن الفلسفة التي لا تجلس على رأسها، وإنما تقف على قدميها (وفق إحدى التعبيرات الماركسيّة). وهي نفسها الفلسفة التي لا تكتفي بتفسير العالم، وإنما تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.. أي إلى العمل على تغييره. ولذلك، كان انحيازنا الأيدولوجي الطبيعي، في الجامعة آنذاك، لما كان يطرحه الدكتور صادق جلال العظم من أفكار، سواء في محاضراته في قسم الفلسفة، التي كنّا نتسلل إليها دون متطلبات منهاجيّة، أو حتى في اللقاءات غير الأكاديميّة.. في الندوات الجامعيّة، أو تحت الأشجار الوارفة، أو في "الكافتيريا" التي كانت تستقطب الطلاب من جميع الكليّات.
على الصعيد الشخصي، لم أجد تناقضاً بين الأسئلة السياسيّة والاجتماعيّة الطبقيّة المثارة في دائرة صادق العظم، ودوائر الهمّ العام وأسئلة واقع ما بعد الهزيمة من جهة، وبين إشاعة روح التفكير الموضوعي والأسئلة العقلانيّة التي ظلّ فهمي جدعان يحرص على إشاعتها وتكريسها.
مؤخراً، اكتشفت وأنا أقرأ كتاب د. فهمي جدعان الذي حمل عنوان "خارج السِّرب: بحث في النسويّة الإسلاميّة الرافضة وإغراءات الحريّة" (الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر ـ بيروت، 2010)، أنني كنتُ أمسك قلم الرصاص، من جديد، لأضع خطوطاً تحت السطور، وأنني أفرطت في ذلك. فالكتاب الأخير للدكتور جدعان، أعادني تلميذاً في سنته الجامعيّة الأولى، لا يتلقى فحسب معلومات جديدة عليه، وإنما يرسِّخ مبدأ في التفكير والبحث والدراسة شبّ عليه مع استاذ الفلسفة لسنته الجامعيّة الأولى، والذي بدا في عمله الأخير أكثر تكثيفاً وتماسكاً وتكريساً للموضوعيّة.
***
لا ينتمي كتاب د. فهمي جدعان الذي بين أيدينا إلى حقل الفلسفة المجرّدة، لكنه وإن بدا ملامساً لحقل الدراسات السوسيولوجيّة التي تقارب قضايا المرأة وهمومها ضمن مجال الدراسات النسويّة، فإنه يقتحم غير منطقة ثقافيّة أخرى: الدين والأدب والفكر، والسياسة التي يمسّها بحذرٍ وعن بُعد. وإن بدا هذا الكتاب على قطيعة مع نتاجات الدكتور جدعان السابقة، كونه يتناول موضوعاً جديداً في أعماله، فإنه في الوقت نفسه يظلّ يتقاطع مع اهتمامات هذا المفكِّر في مجال الفكر عامّة والفكر الإسلامي التنويري على وجه الخصوص، الذي أسهم فيه بغير كتاب.
يتمحور "خارج السِّرب" حول موضوع النسويّة الإسلاميّة والفكر النسوي الإسلامي "المعولم"، التي تتمظهر تجلياته في الأعمال الفكريّة والأدبيّة والفنيّة لعديد من النسويات المسلمات المعنيات بقضايا المرأة المسلمة في أماكن شتى من العالم. وإن ما يجمع بين مجموعة النسويات اللواتي يتناولهن الكتاب، هو كونهن جميعاً ينحدرن من أصول إسلاميّة غير عربيّة، باستثناء الصوماليّة أيان حرسي علي، التي لا تعترف من حيث المبدأ بأصولها العربيّة، ناهيك عن موقفها السلبي من الإسلام نفسه.
ولا يخفي الدكتور جدعان انحيازه الفكري إلى ما أطلق عليه تعبير "النسويّة التأويليّة"، التي تُعنى بإعادة قراءة النّص الديني المقدّس قراءة نسويّة جديدة، تطمح إلى دحض القراءة الذكوريّة للقرآن، بهدف الوصول إلى استنباط حقيقة أن الوضع الراهن السائد في المجتمع البطريركي الإسلامي (الذي يستحوذ فيه الرجال على السلطة والحقوق الاجتماعيّة كافة ويستأثرون على الامتيازات، ويهيمنون على كافة مناحي المجتمع)، ليس أعطية من الله، وإنما جاء نتيجة القراءات الفقهيّة الذكوريّة المتراكمة على امتداد التاريخ الإسلامي بعد الرسول محمد.
غير أن "النسويّة التأويليّة" لا تحتل من الكتاب الذي بين أيدينا سوى فصله الأوّل، يتفرغ بعده الكاتب للتصدي لأسماءٍ بارزة في الحركة النسوية التي تنتمي إلى جذور ثقافيّة وتربويّة إسلاميّة في الأصل، لكنها باتت تُشكِّل ما يمكن أن يُطلق عليه "النسويّة الإسلاميّة الرافضة".
لكن الدكتور جدعان ربما لم ينتبه إلى أن "النسوية الإسلاميّة التأويليّة"، التي تحظى باحترامه وقبوله، تمارس هي الأخرى رفضها بطريقتها. ويتحدّد الرفض هنا بعدم إقرار القرءات الذكوريّة للنصّ المقدّس، والتي يبدو فيها الإسلام، في جوهره، ديناً بطريركياً ذكورياً يقرّ بضعف المرأة وتبعيتها للرجل. وهنّ يصلن إلى اختزال المسألة في جملة بالغة التكثيف تشير إلى أنه: "ليس الإسلام هو الذي يضطهد النساء، وإنما القراءة الذكوريّة له هي التي تفعل ذلك".
هنا، وعند الحديث عن هذا الاتجاه، نعثر على أسماء عديدة لم يولِ الكاتب جهداً كافياً لعرض أفكارها النسويّة ونتائج أبحاثها المعتمدة على المنهج التأويلي للقرآن. ورغم التركيز على ما قامت به أمينة ودود، التي تحدّت المفهوم السائد للقوامة وأمّت صلاة مختلطة لغير مرّة (وهي برأينا حركة شكليّة، وفي أحسن الحالات رمزيّة لم تتكرّس أو تتعزّز أو تتطوّر لجهة العمل على احتلال المرأة المسلمة المراكز المتقدِّمة في القيادة السياسيّة للدولة والمجتمع)، ومن ثم التحدث باختصار عن أفكار أسماء برلاس في تحليلها التاريخي للسلطة والمعرفة (ربما بالاستفادة من أفكار وطروحات ميشيل فوكو)، ورفعت حسن التي تميّزت بجدلياتها حول "الضلع الأعوج" ومسألة خلق حواء من ضلع آدم. تليها إشارات عابرة حول أعمال وأفكار فاطمة المرنيسي، ومارغو بدران، فإن بعض الأسماء الأخرى التي جيء على ذكرها، لم نتعرّف على أفكارها وإنجازاتها بشكل جيِّد وكافٍ في الحقل النسوي الإسلامي التأويلي. نذكر منها: زيبا مير حسيني، ليلى أحمد، سهام إدريسي، عزيزة حبري.. وغيرهن، ممن مرّ ذكرهن دون معرفة كافية بأفكارهن.
يمكن للكاتب أن يرد اعتراضنا على اختزاله الحديث بأنه لم يشأ من كتابه سوى ما أراده العنوان، وهو الحديث عن النساء اللواتي هن "خارج السِّرب". إلاّ أن التعبير الذي حمله عنوان الكتاب، لا ينطوي على مفهوم سلبي بالضرورة. فالذين يحلِّقون خارج السرب هم كالسائرين خارج القطيع، ليسوا دائماً على خطأ. وإذا كان السِّرب يسير مع التأويلات الذكوريّة والفقهيّة البطريركيّة للنصّ القرآني، فإن النسويات التأويليات الإسلاميات، المدافعات عن حقّ المرأة المسلمة في استملاك النّص القرآني وقراءته قراءة استنطاقيّة تتيح لهن الكشف عن المضامين التقدميّة المتعلقة بالمرأة، هو خروج آخر عن سرب القراءات الذكوريّة السائدة.. التي تحتكر، وحدها، تفسير كلام الله!.
wadi49@hotmail.com
فاروق وادي
تاريخ نشر المقال 07 كانون الثاني 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق