Almustaqbal Newspaper - Official Website
شعب يحفر في المستحيل
المستقبل - السبت 22 كانون الثاني 2011 - العدد 3890 -
مراجعة: حسن جابر
يخطئ من يظن أن الكتابة عن الشعب الفلسطيني يمكن أن تتفلت من مشاعر التعاطف الإنساني، فتجربتهم المعاصرة، هي بحق، تجسيد مكثف لمعاناة الإنسانية في دأبها لتلمس شعاع الشمس، وتعبير رمزي عن فجور القوة في مقابل عناد قوة الحق.
وإرادة الحياة لدى الشعب الفلسطيني عموماً، وفلسطينيي الخط الأخضر خصوصاً تشبه، في إصرارها، الشجرة البرية التي كلما حاول محتطبو خشبها تجريدها من الأغصان كلما تطاولت عالياً وازدادت تجذراً في الأرض.
ومن يتابع رحلة آلام فلسطينيي "الداخل" يظن أنهم سيستسملون لليأس، غير أن الواقع يشي بخلاف ذلك، فهؤلاء لم يتمتعوا، يوماً، بحق المواطنة وانما أدرجوا في الدرجة السادسة من السلّم الطبقي الذي يتكوّن منه الاجتماع الإسرائيلي، بعد الشرائع الخمس اليهودية، بل هم أدنى طبقة من المهاجرين اليهود الشرقيين، أي مواليد آسيا أو أفريقيا، ومع ذلك لا يزال لدى فلسطينيي 48 الشعور بالانتماء للهوية العربية، ويعارضون تعريف الكيان الإسرائيلي كدولة يهودية، وعلى الرغم من محاولات طمس الهوية، فإن ثمة مبادرات قامت بها مؤسسات فلسطينية لإعادة وصل ما انقطع مع تاريخهم القديم والحديث، منها على سبيل المثال وضع مشروع خريطة مفصّلة للمقدسات الإسلامية داخل "الخط الأخضر" والتي أشارت الى وجود مئات المعالم ما بين الخالصة وقيسارية.
ويحاول الفلسطينيون مقاومة خطط الحكومات "الإسرائيلية" لبعثرتهم والتعامل معهم بالمفرّق والتمييز بينهم على أساس إثني أو مذهبي فضلاً عن الطائفي، فالعلاقة مع البدو تختلف عن الشركس وهؤلاء تم تمييزهم عن الدروز، وبالتالي عن عرب المدن والقرى من باقي المسلمين أو المسيحيين.
يبلغ عدد البدو، حالياً، نحو 170 ألف نسمة، وقد حظي هؤلاء باهتمام متزايد من قبل الحكومات المتعاقبة وتجري عملية دمجهم في المجتمع الإسرائيلي من خلال التجنيد في الجيش أو العمل في المؤسسات العامة. أما الشركس، الذين يبلغ عددهم نحو 30 ألف نسمة، فيُعمل على الإفادة منهم في الجيش أيضاً فضلاً عن محاولة دمجهم في المجتمع، ولا تختلف العلاقة مع الدروز عن المجموعتين السابقتين لجهة تجندهم في الجيش ودخولهم القطاع العام.
أما المسيحيون، الذين يبلغ تعدادهم نحو 150 ألفاً، فغالبيتهم العظمى من العرب (120 ألف نسمة)، ويتفرعون الى الارثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، وقد شارك المسيحيون اخوانهم المسلمين في الصراع ضد الحركة الصهيونية، وهم، اليوم، لا يختلفون عن المسلمين في اندفاعهم لإبراز الهوية الوطنية والقومية، وقد فشل الإسرائيليون في إثارة المشاعر الطائفية بينهم وبين المسلمين، بدليل وحدة الموقف الذي يظهره العرب ضد واقع الاحتلال.
ويعبّر احتضان الإسرائيليين للطائفة البهائية، وهي أقلية دينية انطلقت من بلاد فارس، وكانت تشكل العصب الرئيسي لإدارة شاه إيران المخلوع وقواه الأمنية، عن طبيعة التفكير الصهيوني، الذي يحاول تثمير كل التناقضات في المنطقة لصالح المشروع الإسرائيلي، ويسكن نحو 600 700 بهائي متطوع من ستين دولة بالقرب من المركز العالي للبهائيين في مدينة حيفا، حيث يقومون بإدارة شؤون الجاليات البهائية في العالم التي يبلغ تعدادها نحو ستة ملايين. ومن الجدير ذكره، أن خلية بهائية تقيم في لبنان كانت قد اعترفت بارتكابها مجزرة بئر العبد سنة 1985م والتي استهدفت يومذاك المرحوم السيد محمد حسين فضل الله.
هذا على المستوى الديمغرافي والتوزع الطائفي والمذهبي، أما الواقع الاقتصادي، فقد مرّ بمراحل مختلفة منذ النكبة والى يومنا هذا.
كان المصدر الرئيسي لمعيشة الفلسطينيين هو الزراعة، إلا أن سياسة مصادرة الأراضي، بعد النكبة، حرمتهم من هذا الرافد، الأمر الذي اضطر العمال العرب للبحث عن فرص عمل بديلة بعنتٍ ومشقة، وتشير الأرقام الى أن المدن والقرى العربية تقع في أدنى سلم الأجور، حيث تصل نسبة العاملين الذين يحصلون على الحد الأدنى للأجور الى حوالى 50%، بينما لا تتعدى هذه النسبة 30% في الوسط اليهودي. ويشير تقرير لاحدى المنظمات المختصة الى أن معدل ناتج الفرد اليهودي في "إسرائيل" كان، في سنة 2005، بحدود 22 ألف دولار، مقابل سبعة آلاف دولار للمواطن الفلسطيني.
أما على مستوى السياسة التعليمية، فقد مارست الدولة تمييزاً بين العرب واليهود، فجعلت للعرب نظاماً مستقلاً يشرف عليه شخص يهودي. وقد حُرم العرب نتيجة لذلك من العديد من أنواع التعليم والخدمات التعليمية، فالعرب محرومون من التعليم الديني، ومن نظم أخرى مثل تعليم "الكيبوتس" و"العالياه" والجيش و"الهستدروت" وتعليم الكبار وأنواع الروضات، وفي مرحلة التعليم الإلزامي تقل، الى أقصى حد، الصفوف الزراعية الأولية التي تقدم تدريباً مهنياً وزراعياً للطلاب، وفي المرحلة الثانوية تنعدم المدارس التي تقدم الدراسات المهنية والزراعية الأولية.
وتعبّر السياسة التعليمية عن رغبة في الحد من نمو المستوى التعليمي في صفوف العرب، وقد عبّر أوري لوبراني عن هذا التوجه بقوله: "حبذا لو بقي العرب في هذه البلاد، حطابين وسقاة ماء، لسهلت قيادتهم"، وهذا ما يفسّر رفض السلطات الإسرائيلية فكرة إقامة جامعة عربية في الناصرة سنة 1980.
وتلتقي السياسات المشار إليها مع محاولات دؤوبة لتهويد الذاكرة الفلسطينية عبر تغيير أسماء المدن والقرى والشوارع، وإصدار خرائط وأطالس عبرانية، وقد صدرت على سبيل المثال، خريطة معّدلة لتلك التي وضعتها حكومة الانتداب البريطاني، استبدلت فيها التسميات العبرية بالتسميات القديمة للأماكن الفلسطينية.
ولم يقف التهويد عند حدود الأسماء وإنما تجاوزها الى البشر، بصورة فاضحة، فقد كانت استراتيجية الكيان قائمة على الاستيطان، على قاعدة ما سمّوه بـ"ملء الفراغ" وخصوصاً في منطقتي الجليل والنقب.
في المقابل، لم يقدم فلسطينيو الداخل وسيلة لحماية وجودهم، وقد خاضوا التجارب السياسية والنقابية عبر مراحل ثلاث:
أ- المرحلة الأولى: امتدت من سنة 1948 حتى سنة 1966، وهي فترة الحكم العسكري، وقد حاول الفلسطينيون المشاركة في الانتخابات من خلال حزبي مباي والحزب الشيوعي الإسرائيلي، وحاولت حركة الأرض المشاركة في الانتخابات في "القائمة الاشتراكية"، لكن المحاولة فشلت بعد أن ألغت السلطات الإسرائيلية الانتخابات لاعتبارها "القائمة" غير قانونية وذلك في سنة 1964.
ب- المرحلة الثانية: امتدت هذه المرحلة من سنة 1966 حتى سنة 1976، وقد تأسس منها عدد من التنظيمات منها لجان الطلاب، واتحاد الطلاب العرب، ولجنة المبادرة الدرزية ثم لجنة الدفاع عن الأراضي.
ج المرحلة الثالثة: وتمتد من سنة 1876 حتى الوقت الراهن، وظهرت فيها عدة أحزاب وقوى وروابط وجمعيات، وقد شاركت بعضها في الانتخابات بصورة مستقلة كالقائمة التقدمية للسلام والحزب الديموقراطي العربي وحركة أبناء البلد ثم الحركة الإسلامية.
ويمكن القول، انطلاقاً مما عرضناه، أن فلسطينيي الداخل باتوا اليوم أكثر تفاعلاً، وفي الوقت عينه، عُرضة لمخاطر أكبر، خصوصاً بعد الإصرار الإسرائيلي على اعتبار كيانهم دولة يهودية، وهذا التوجه يبقي الباب مفتوحاً على الكثير من التحدّيات والمخاطر التي تفترض اليقظة الدائمة والتنبّه المستمر كي لا يلدغ عرب الداخل من الجحر مرتين.
[ الكتاب: فلسطينيون في وطنهم لا دولتهم
[ الكاتب: مأمون كيوان
[ الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق