As-Safir Newspaper - الفضل شلق : المثقف والسياسي صراع على السلطة
المثقف والسياسي صراع على السلطة
في زمن الاختصاص يعمل مثقفون في السياسة، ويحاول رجال السياسة الابتعاد عن الثقافة. يعتبر المثقفون، أو هكذا يبدو، ان عليهم واجباً تجاه مجتمعهم، فالعلوم التي تلقنوها في المدارس والجامعات، بحاجة إلى تطبيق، وهم أجدر من يقوم بذلك. أما رجال السياسة فما يهمهم هو أن يتسنموا مراكز القيادة والوجاهة، ومن أجل ذلك يتوجب عليهم القيام بما يجب من تسويات مع «أولي الأمر» من أجل الفوز في الانتخابات أو نيل حظهم من التعيينات. يبدو ان المثقفين هم الأثبت من وجهة النظر الأخلاقية، كما يبدو ان رجال السياسة ذوو أسس اخلاقية مزعزعة بسبب اضطرارهم إلى التخلي عن المبادئ، إما كلياً أو جزئياً، في سبيل «الوصول». وكل ذلك في نظام رأسمالي قائم على مبدأ الربح وتراكم الثروة، بغض النظر عن مقومات العلم أو الأخلاق. والتشريعات هي دائماً لمصلحة تراكم الربح والثروة على حساب العلم وعلى حساب السياسة. المال يستطيع استخدام الاثنين معاً، أو منفردين، ولا يستطيع رجال الثقافة أو السياسة إلا العمل عند أهل المال.
لكن الإشكالية الأساسية هي في مكان آخر، إذ ان السياسة هي فن الممكن بينما المعرفة هي اكتشاف الحقيقة (والبعض يقول الحقائق). على المثقفين ان يكتشفوا الحقيقة بالملاحظة والتتبع، والاستقراء والاستنباط. عليهم ان يراقبوا الأسباب والنتائج. هم لا يصنعون الحقائق، هم يكتشفونها بالملاحظة والمراقبة. أما السياسيون فهم يصنعون الحقائق بالقرارات التي يأخذونها. عليهم المناورة والمساومة واصطناع التسويات من أجل أخذ القرارات (في نظام ديموقراطي) ومن أجل تحقيق الانجازات. يستند معظم رجال الثقافة إلى معارف يكتشفها غيرهم. ويصنع رجال السياسة تسويات وإنجازات يكتب عنها ويحللها غيرهم.
تصبح الإشكالية مشكلة عندما يختلط الاثنان: المثقف والسياسي في شخص واحد لا يستطيع فصل الاثنين، ولا يستطيع ان يكون شخصيتين في شخص واحد. الشخص الذي لا يستطيع التعدد (والتعددية أساسية لكل منا، وكل منا متعدد الهويات)
لا يستطيع ان يكون مرتاحاً مع نفسه ولا يستطيع الوصول إلى ما يتوخى تحقيقه على صعيد المعرفة أو على صعيد السياسة. ينتهي على سلبية أو خسارة الاثنتين معاً.
ليس ناقد الأخلاق من يساهم في التسويات. تُبنى الدول والمجتمعات على التسويات السياسية. كل مجتمع متعدد الأطراف، والطبقات، والفئات الاجتماعية، والطوائف والاثنيات، كما كل فرد متعدد الهويات. لا بد من تسويات كي ينتظم أمر المجتمع. وما لم ينتظم أمر المجتمع تنعدم الأسس الأخلاقية للمجتمع والأفراد. المجتمع الذي لا ينتظم أو لا يستقيم أداؤه سياسياً يتحول إلى الحرب الأهلية، ولا أسوأ أخلاقياً من الحرب الأهلية في أي مجتمع. الحرب الأهلية فوضى مدمرة. الثورة تنقل المجتمع من مستوى إلى آخر، من وضع لا يطاق إلى وضع أكثر احتمالاً. ربما تحولت الثورة إلى حرب أهلية. ما يمنع حدوث هذا الأمر هو السياسة وتسوياتها التي تبدو للبعض انحرافاً أخلاقياً.
يقود النشاط المعرفي للمثقفين الى رسم نماذج ومثل تقاس الأمور على أساسها. تصير النماذج قيماً، والقيم ذاتها تصير مثلاً عليا متسامية، ويصير كل ما دونها من تسويات أشياء ناقصة أو منحرفة أو فاسدة أو فاسقة. يتعالى المثقفون على السياسيين، ومن حقهم ذلك خاصة في بلد مثل لبنان، حيث أهل السياسة بعض مقتنيات أهل المال.
تُبنى الدولة بتراكم التسويات. تبدأ الدولة بالغلبة وهذا صحيح، لكنها لا تستطيع الاستمرار من دون سلسلة لا تنتهي من التسويات الاجتماعية والسياسية. وهذا الكلام لا يشمل الدول التي ولدت بقرارات أجنبية، وتبقى مستمرة بفعل حماية أجنبية، ودول النفط العربية هي بعض هذه الدول. تنعدم استمرارية الدولة، أي يُقضى على جوهرها، عندما يعتقد كل فريق نال الأكثرية في الانتخابات ان عليه العودة إلى نقطة الصفر من أجل أسباب أخلاقية. بالأصل، لا يستطيع فريق سياسي في بلد ديموقراطي ادعاء التفوق الأخلاقي، كلهم يعملون عند الرأسمالية التي توزع المهمات عليهم. يخطئ في السياسة من يدعي احتكار الأخلاق، يخطئ من يعتبر نفسه «واقفاً على جبل»، متميزاً عن الآخرين، ممسكاً بحبل الاستقامة والأخلاق، مستغنياً عن ضرورة الإنجاز (والتسوية) بحجة الاستقامة.
لا موازنة للدولة منذ سنوات عدة. هي مسألة تستحق الغضب والاحتجاج. هي جوهر النظام حالياً. هي جوهر التعمية التي يمارسها النظام. على المدى المنظور، كل اشكال الاستغلال الطبقي والطائفي تعتمد على هذه التعمية. النهب الشرعي لموارد الدولة والمجتمع يعتمد على هذه التعمية لمصلحةم طبقة تعتمد الجهاز المصرفي كقاعدة لقوتها. حتى السبعينيات اعتمدت هذه الطبقة على التجارة المحلية والدولية. الآن تعتمد على المال ووسائله. الذين ساهموا في هذه التعمية هم جميع الأطراف السياسية. على المثقفين فضح هذه التعمية، وهذا صحيح، وهذا يتطلب نضالاً طويل الأمد. ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.
لا شك في أن كل مرتكب يجب ان يحاكَم. في هذه الحالة يخضع النظام كله للمحاكمة. المحاكمة لن تكون قضائية، نظراً لاتساعها. وستكون الطائفية جاهزة لحماية المرتكبين، كل طائفة تحمي جماعتها من المرتكبين.
ما دام الذين يفهمون المسألة وتعقيداتها، أو الذين يهتمون بالأمر مجرد اهتمام، هم قلة من الناس، أو بالاحرى هم قلة من المثقفين، فإن هؤلاء سوف يُتهمون بالجنون أو انفصام الشخصية. وقد بدأنا الحديث عن ضرورة الانفصام لدى المثقفين، من أجل الحفاظ على التوازن النفسي وحسب.
في هذا الحديث تشاؤم. هو تشاؤم الإرادة والوعي معاً. نعود إلى حديث السياسة على انها فن الممكن. مرجع هذا التشاؤم هو اقتناع غالبية اللبنانيين بنظامهم الطائفي والمالي والسياسي. منشأ هذا الاقتناع هو الوعي الذي دُرّب عليه اللبنانيون منذ أمد طويل. من غير المتوقع ان يتغير هذا الوعي من دون أزمة تهز الوجدان. ستكون الأزمة شديدة وحادة. وعندما تحدث لن تكون هناك حلول إلا ما بدا انه اقتصاص فريق سياسي من فريق آخر. وهذا هو الاسوأ، خاصة ان الجميع مشاركون في صنع الأزمة.
نعود إلى فكرة التراكم في بناء الدولة (تراكم التسويات). حتى الآن حدثت محاولات في هذا المجال. وكل محاولة كان باستطاعة النظام القضاء عليها، إما بالحرب الأهلية أو بالإجهاض. بعض رموز التغيير حالياً لم يساهموا في الحرب الأهلية لكنهم ساهموا في الإجهاض (لنتذكر العام 1998).
سيبقى النظام اللبناني أكثر من إشكالية. هو معضلة. سيبقى معضلة ما دامت فكرة الدولة غائبة عن الوعي. فكرة الدولة تتعلق بالإطار الناظم للمجتمع، تتعلق بالمشترك الذي يتأسس عليه الاجتماع البشري، وتتعلق أيضاً بالاستمرارية وتراكم التجارب.
لكن الإشكالية الأساسية هي في مكان آخر، إذ ان السياسة هي فن الممكن بينما المعرفة هي اكتشاف الحقيقة (والبعض يقول الحقائق). على المثقفين ان يكتشفوا الحقيقة بالملاحظة والتتبع، والاستقراء والاستنباط. عليهم ان يراقبوا الأسباب والنتائج. هم لا يصنعون الحقائق، هم يكتشفونها بالملاحظة والمراقبة. أما السياسيون فهم يصنعون الحقائق بالقرارات التي يأخذونها. عليهم المناورة والمساومة واصطناع التسويات من أجل أخذ القرارات (في نظام ديموقراطي) ومن أجل تحقيق الانجازات. يستند معظم رجال الثقافة إلى معارف يكتشفها غيرهم. ويصنع رجال السياسة تسويات وإنجازات يكتب عنها ويحللها غيرهم.
تصبح الإشكالية مشكلة عندما يختلط الاثنان: المثقف والسياسي في شخص واحد لا يستطيع فصل الاثنين، ولا يستطيع ان يكون شخصيتين في شخص واحد. الشخص الذي لا يستطيع التعدد (والتعددية أساسية لكل منا، وكل منا متعدد الهويات)
لا يستطيع ان يكون مرتاحاً مع نفسه ولا يستطيع الوصول إلى ما يتوخى تحقيقه على صعيد المعرفة أو على صعيد السياسة. ينتهي على سلبية أو خسارة الاثنتين معاً.
ليس ناقد الأخلاق من يساهم في التسويات. تُبنى الدول والمجتمعات على التسويات السياسية. كل مجتمع متعدد الأطراف، والطبقات، والفئات الاجتماعية، والطوائف والاثنيات، كما كل فرد متعدد الهويات. لا بد من تسويات كي ينتظم أمر المجتمع. وما لم ينتظم أمر المجتمع تنعدم الأسس الأخلاقية للمجتمع والأفراد. المجتمع الذي لا ينتظم أو لا يستقيم أداؤه سياسياً يتحول إلى الحرب الأهلية، ولا أسوأ أخلاقياً من الحرب الأهلية في أي مجتمع. الحرب الأهلية فوضى مدمرة. الثورة تنقل المجتمع من مستوى إلى آخر، من وضع لا يطاق إلى وضع أكثر احتمالاً. ربما تحولت الثورة إلى حرب أهلية. ما يمنع حدوث هذا الأمر هو السياسة وتسوياتها التي تبدو للبعض انحرافاً أخلاقياً.
يقود النشاط المعرفي للمثقفين الى رسم نماذج ومثل تقاس الأمور على أساسها. تصير النماذج قيماً، والقيم ذاتها تصير مثلاً عليا متسامية، ويصير كل ما دونها من تسويات أشياء ناقصة أو منحرفة أو فاسدة أو فاسقة. يتعالى المثقفون على السياسيين، ومن حقهم ذلك خاصة في بلد مثل لبنان، حيث أهل السياسة بعض مقتنيات أهل المال.
تُبنى الدولة بتراكم التسويات. تبدأ الدولة بالغلبة وهذا صحيح، لكنها لا تستطيع الاستمرار من دون سلسلة لا تنتهي من التسويات الاجتماعية والسياسية. وهذا الكلام لا يشمل الدول التي ولدت بقرارات أجنبية، وتبقى مستمرة بفعل حماية أجنبية، ودول النفط العربية هي بعض هذه الدول. تنعدم استمرارية الدولة، أي يُقضى على جوهرها، عندما يعتقد كل فريق نال الأكثرية في الانتخابات ان عليه العودة إلى نقطة الصفر من أجل أسباب أخلاقية. بالأصل، لا يستطيع فريق سياسي في بلد ديموقراطي ادعاء التفوق الأخلاقي، كلهم يعملون عند الرأسمالية التي توزع المهمات عليهم. يخطئ في السياسة من يدعي احتكار الأخلاق، يخطئ من يعتبر نفسه «واقفاً على جبل»، متميزاً عن الآخرين، ممسكاً بحبل الاستقامة والأخلاق، مستغنياً عن ضرورة الإنجاز (والتسوية) بحجة الاستقامة.
لا موازنة للدولة منذ سنوات عدة. هي مسألة تستحق الغضب والاحتجاج. هي جوهر النظام حالياً. هي جوهر التعمية التي يمارسها النظام. على المدى المنظور، كل اشكال الاستغلال الطبقي والطائفي تعتمد على هذه التعمية. النهب الشرعي لموارد الدولة والمجتمع يعتمد على هذه التعمية لمصلحةم طبقة تعتمد الجهاز المصرفي كقاعدة لقوتها. حتى السبعينيات اعتمدت هذه الطبقة على التجارة المحلية والدولية. الآن تعتمد على المال ووسائله. الذين ساهموا في هذه التعمية هم جميع الأطراف السياسية. على المثقفين فضح هذه التعمية، وهذا صحيح، وهذا يتطلب نضالاً طويل الأمد. ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.
لا شك في أن كل مرتكب يجب ان يحاكَم. في هذه الحالة يخضع النظام كله للمحاكمة. المحاكمة لن تكون قضائية، نظراً لاتساعها. وستكون الطائفية جاهزة لحماية المرتكبين، كل طائفة تحمي جماعتها من المرتكبين.
ما دام الذين يفهمون المسألة وتعقيداتها، أو الذين يهتمون بالأمر مجرد اهتمام، هم قلة من الناس، أو بالاحرى هم قلة من المثقفين، فإن هؤلاء سوف يُتهمون بالجنون أو انفصام الشخصية. وقد بدأنا الحديث عن ضرورة الانفصام لدى المثقفين، من أجل الحفاظ على التوازن النفسي وحسب.
في هذا الحديث تشاؤم. هو تشاؤم الإرادة والوعي معاً. نعود إلى حديث السياسة على انها فن الممكن. مرجع هذا التشاؤم هو اقتناع غالبية اللبنانيين بنظامهم الطائفي والمالي والسياسي. منشأ هذا الاقتناع هو الوعي الذي دُرّب عليه اللبنانيون منذ أمد طويل. من غير المتوقع ان يتغير هذا الوعي من دون أزمة تهز الوجدان. ستكون الأزمة شديدة وحادة. وعندما تحدث لن تكون هناك حلول إلا ما بدا انه اقتصاص فريق سياسي من فريق آخر. وهذا هو الاسوأ، خاصة ان الجميع مشاركون في صنع الأزمة.
نعود إلى فكرة التراكم في بناء الدولة (تراكم التسويات). حتى الآن حدثت محاولات في هذا المجال. وكل محاولة كان باستطاعة النظام القضاء عليها، إما بالحرب الأهلية أو بالإجهاض. بعض رموز التغيير حالياً لم يساهموا في الحرب الأهلية لكنهم ساهموا في الإجهاض (لنتذكر العام 1998).
سيبقى النظام اللبناني أكثر من إشكالية. هو معضلة. سيبقى معضلة ما دامت فكرة الدولة غائبة عن الوعي. فكرة الدولة تتعلق بالإطار الناظم للمجتمع، تتعلق بالمشترك الذي يتأسس عليه الاجتماع البشري، وتتعلق أيضاً بالاستمرارية وتراكم التجارب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق