الحقول :: "الحقول" تعيد نشر النص الكامل لمذكرات عبد المنعم أبو الفتوح : "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر"
"الحقول" تعيد نشر النص الكامل لمذكرات عبد المنعم أبو الفتوح : "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر"
أحداث سبتمبر واحتدام الصدام
تسارعت الأحداث في مصر، وبدا أن التوتر سيمتد وأن الصدام بين السادات والمعارضة خاصة الإسلامية سيمضي إلى القطيعة... وفي أوائل سبتمبر كنت أزور معسكرا طلابيا إسلاميا في العاصمة الإيطالية روما، وفي يوم الثلاثاء الموافق 3 سبتمبر 1981 كنت بالمعسكر، وذكر لي أحد الأشخاص أن هناك حديثا في دوائر سياسية وأمنية عن أن السادات أعد قائمة اعتقالات سيقوم بها قريبا، وأكد لي أنه من المرجح وجود اسمي بها، وأنه من المرجح أيضا أن السادات سوف يعلن عنها مع الخطاب الذي سيلقيه يوم السبت 7 سبتمبر.
وقد طلب مني بعض الإخوة عدم العودة إلى مصر، ولكنني رفضت وقلت لهم: إن (سجن) أبو زعبل أفضل من البقاء خارج مصر!.
وأتصور أنه كانت هناك اختراقات أمنية في النظام الحاكم تسببت في معرفة أمر هذه القوائم، حتى إن الإخوان في مصر كانوا يعلمون بها، وهو ما سمح بأن يسافر الأستاذ مصطفي مشهور قبل اعتقاله بأيام، وقد قابلته في هذا المخيم- في روما- وكان هو في طريقه إلى فرنسا لإلقاء محاضرة، وقد أخبرني أنه لن يعود إلى مصر في الوقت الراهن استجابة لنصيحة الأستاذ عمر التلمساني نظرًا لتوتر الأوضاع، وأنه سيبقي في فرنسا حيث تقيم ابنته مع زوجها الأخ أحمد نشأت - وكان معيدا وقتها بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية الذي يقضي منحة الدكتوراه هناك.
وحين زرت الأستاذ عمر أكد لي علمه بأن هناك اعتقالات في الأيام المقبلة، وفي ليل يوم الأربعاء 11 سبتمبر كانت قوات من أجهزة الأمن تلقي القبض عليّ من منزلي ضمن نحو 1500 آخرين كانوا ضمن قائمة التحفظ الشهيرة تم اعتقالهم آنذاك.
نقلوني إلى سجن استقبال طرة وهو سجن كبير جدا مكون من مبنيين كل منهما مكون من أربعة أدوار وكل دور به 20 زنزانة سعتها 10 أفراد... وكان سجنا فسيحا ونظيفا بناه السادات في نفس التوقيت الذي تم تصويره وهو يهدم المعتقلات والسجون... وكانت هذه أول اعتقالات يشهدها السجن... وكنّا أول من افتتح هذا السجن.
في البداية لم أكن أعلم بأن هناك معتقلين غيري في المكان نفسه حتى فوجئت بأن هناك العشرات بل والمئات معي من جميع التيارات والرموز السياسية والفكرية في مصر، فرأيت حافظ سلامة وأحمد المحلاوي ومحمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين والأستاذ عمر التلمساني والدكتور عصام العريان،... ورموز السياسة والدين في مصر.
في اليوم التالي لاعتقالنا فتحت الزنازين وكانت المعاملة حسنة، وكان معي في نفس الزنزانة الدكتور محمد حلمي مراد وزير التعليم السابق والأستاذ الشاعر جمال فوزي - رحمه الله - والشيخ حافظ سلامة والأستاذ لاشين أبو شنب والدكتور محمد السيد إسماعيل أستاذ الجراحة بطب عين شمس.
كان الدكتور محمد حلمي مراد رجل قانون بارز فأراد أن يعرف سبب الاعتقال، وكان في حيرة من أمره لأسباب الاعتقال ومبرراته القانونية، فلم تكن مصر قد دخلت وقتها نفق الطوارئ البغيض الذي عاشته طوال عصر مبارك، وكان الدكتور مراد يحاول تفسير الأمر قانونيا خاصة أنه لم يكن هناك قرار من النيابة، وهداه فكره إلى أن استنتج أنه من الممكن أن تقبض الشرطة على أي شخص لمدة أربع وعشرين ساعة، ومن ثم توقع أنه طالما أن اليوم التالي هو الجمعة (أجازة) وأن الرئيس السادات سيخطب يوم السبت، فإنهم سيفرجون عنّا بعد الخطاب مباشرة وسنرجع إلى بيوتنا عصر السبت بعد الخطاب مباشرة خاصة أنه لم يكن هناك إعلان حالة طوارئ حيث كان السادات قد أوقفه قبل ستة أشهر.
كان الدكتور حلمي مراد يتعامل مع الأمر بعقلية قانونية... وكان معنا الأستاذ جمال فوزي الذي قضي سنوات عمره مع الإخوان في السجون فكان يداعبه قائلا: يا دكتور خلي بالك إذا كنت هنا معنا فلا تفكر في الخروج إلا بعد 20 سنة!
النجدة، وكان رجلا مهذبًا يمرّ بنفسه على المعتقلين يتفقدهم ويسلم عليهم فردا فردا، وقد سأله الدكتور حلمي مراد – آنذاك - بأي تهمة تم اعتقالنا؟. فرد عليه بطيبة: والله يا دكتور حلمي أنا عامل زي أمين المخزن يأتون لي بأشياء ويطلبون مني أن أحفظها فيه!... فقد جاؤوا بكم وأنتم أمانة عندي حتى يأتي جديد، ولكني لا أدري لماذا جئتم هنا.
ألقى الرئيس السادات خطابه يوم السبت ولم نسمعه بالطبع بسبب كوننا معزولين تماما عن العالم، وانتظر الدكتور حلمي مراد الخروج الذي لم يحدث. لم نكن نعرف سبب اعتقالنا حتى أخذونا إلى المدعي الاشتراكي، وهناك علمنا أنه قد قبض علينا بموجب قانون المدعي الاشتراكي، وهو قانون حماية القيم من العيب، وعلمنا أننا متحفظ علينا. وبعد حوالي أسبوعين نودي على بعض السياسيين مثل هيكل وفؤاد سراج الدين وحلمي مراد وتم نقلهم إلى ملحق طرة، ونقل الأستاذ عمر التلمساني إلى مستشفي ليمان طره، وكان الغرض تقريبا عزلهم عنا، وظل بقية المعتقلين، وظللنا على تلك الحال حتى يوم السادس من أكتوبر 1981.
اغتيال السادات
استقبل اغتيال السادات استقبالا حافلا وخر الشيخ حافظ سلامة ساجدا فور سماع النبإ، وحدثت حالة هرج ومرج في السجن فحاول بعض المتحفظ عليهم كسر باب السجن والخروج، وكان مأمور السجن يناشدهم الهدوء، فتدخل بعض كبار الإخوان مثل الحاج أحمد حسنين والأستاذ كمال السنانيري لتهدئة الوضع فاستقرت الأمور بعدها.
وبعد حادث الاغتيال بدأت موجة اعتقالات جديدة وبدأت أفواج جديدة تأتي علينا وعلمنا منهم كيف تم الاغتيال، وكان من المعتقلين صاحب مقهى قبض عليه لأنه حين علم بنبإ الاغتيال أخذ يوزع مشروبا على الناس مما عكس فرحة الناس بذهاب السادات...
وكان مما أثار الناس وجعلهم يفرحون باغتياله أن في خطابه سب حلمي الجزار أمير الجماعة الإسلامية وسب الشيخ أحمد المحلاوي الذي قال عنه: هو دلوقتي مرمي (ملقى) في السجن زي الكلب!!. كما قام باعتقال رموز الدعوة الإسلامية المحبوبين بين الناس.
وأعتقد أن مقتل السادات لم يكن عن طريق تنظيم محكم كما قيل، وإنما هو غضب بعض الضباط في الجيش الذين لم يعجبهم صلح السادات مع الصهاينة، فلم يكن تنظيما بمعنى كلمة تنظيم ولكن هم مجموعة متدينة غاضبة، كانت لهم علاقة ارتباط فكري بمحمد عبد السلام فرج صاحب كتاب الفريضة الغائبة الذي يدعو للتغيير بالقوة وكان يؤمن بالعنف، والدليل على أنه لم يكن تنظيما أن بعض الشباب كان يعلم أن السادات سوف يقتل في ذلك اليوم.
مع الظواهري في سجن القلعة
عقب اغتيال السادات تم نقلنا إلى سجن أبو زعبل في الثامن من نوفمبر، وحتى هذا التاريخ لم يكن يسمح لنا بزيارة الأهل أو الاتصال بهم ولا حتى بدخول الملابس أو الأطعمة من خارج السجن ولم يكن يسمح لنا حتى براديو نتابع منه العالم خارج السجن.
وحتى يتم النقل بهدوء أوهمنا المسؤولون في الداخلية أننا سوف نخرج، ولم يخبرونا أننا سننتقل إلى سجن آخر، وكان أبو زعبل ممتلئا بالمعتقلين إثر حادث الاغتيال، وهناك تغيرت المعاملة تماما إلي النقيض فأصبحت بالغة السوء، وكان أول ما صادفنا عند دخولنا أننا وجدنا عمليات تعذيب بشعة للمعتقلين!. ثم عزلنا في زنازين خاصة بنا بعيدا عن معتقلي واقعة الاغتيال.
وبعد فترة قصيرة نقلت من السجن ومعي الأخ عصام العريان، أنا لسجن القلعة وهو إلى سجن استقبال طرة، وظللت شهرًا في القلعة في تعذيب وتحقيقات، وكان سجن القلعة خاصًا بأمن الدولة يتم فيه الاستجواب والتحقيق، ولما لم يتحمل الأعداد الكبيرة، تم إعداد سجن استقبال طرة ليكون هو السجن الخاص بأمن الدولة.
وفوجئت أن الزنزانة المجاورة لي بالقلعة كان بها الدكتور أيمن الظواهري، وكان معنا بالكلية، ولم يكن له أي نشاط ظاهر، كما لم يكن أيضا من الطلاب النشطين أو المشاكسين... كان متدينا هادئا ولم يكن يشارك حتى في المظاهرات التي كانت تعج بها الجامعة وقتها.
كان الحديث محظورًا بين المعتقلين، وكان من يضبطون في حديث يتعرضون لعقاب شديد، فكنا نتحايل على ذلك بأن نحدث بعضنا بعضا بما يشبه تلاوة القرآن، حتى نُعمّي على الشاويشية والسجّانين فيظنون أننا نقرأ القرآن، فمثلا كنت أقول: يا أيها الأخ فلان، ماذا فعلت اليوم في النيابة رضي الله عنك؟! فيجيبني كما لو كان يقرأ القرآن: سألوني عن كذا وكذا والحمد لله رب العالمين...! وهكذا...
وفيما كنت أتحدث مع أيمن الظواهري عن سبب القبض عليه، إذا به يخبرني أنه قبض عليه بسبب كمية كبيرة من السلاح كان يخبئها في منزله بالمعادي!! فكانت تلك مفاجأة كبيرة بالنسبة لي من هذا الرجل هادئ الطباع الذي لا يبدو عليه أي ميل للعنف... وكانت مفارقة أخرى أن الظواهري أنكر في التحقيقات أي علاقة له بالإخوان باعتبار أنهم جماعة مهادنة للسلطة!.
تم التحقيق معنا ضمن آلاف المعتقلين، وفي جلسات التحقيقات الطويلة ظهر أن رجال التحقيق كانوا يحاولون أن يتعرفوا منّا على أمثال أيمن الظواهري هؤلاء المجهولين الذين فجرّوا الأحداث وظهروا فجأة في صدارة المشهد..وكان أيمن الظواهري يرفض هو وزملاؤه في التنظيم أن يتحدثوا مع أحد يعلمون أو حتى يظنون أنه من الإخوان المسلمين.
استمرت التحقيقات معنا وكانت تدور كلها حول أنشطتنا وعلاقاتنا حتى نقلت إلى سجن استقبال طرة في مايو 1982، وفتح باب الزيارة، وكانت فترة تحقيقات واستجوابات قاسية حيث كان السجن يخضع لسيطرة جهاز أمن الدولة، وكانوا يرسلون للنيابة كل من يرون أنه عضو في تنظيم مسلح أو مرتبط به.
استشهاد الأستاذ السنانيري
في سجن استقبال طرة تعرضنا للتعذيب والإساءة كثيرا لكن أكثر ما أصابنا هو قتل الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله، كان رحمه الله من أكبر الإخوان سنًا حين تم القبض علينا في سبتمبر 1981.
وبعد مقتل السادات وزيادة جرعة التعذيب كان الشهيد السنانيري من أكثر من طالهم التعذيب، وكنت أسمعه يصرخ مستجيرا بالله من شدة التعذيب وبشاعته، فقد كانوا يصبون عليه العذاب للضغط عليه ظنًا منهم أنه هو المسؤول عن سفر الشباب المسلم إلى أفغانستان، وقد كان رحمه الله مسؤولا عن ملف القضية الأفغانية.
وفي أحد الأيام – ربما يوم 4/11/1981 - كان الوضع غريبا داخل السجن بما يوحي بحدوث شيء غير عادي، ولم يلبث أن جاءني الشاويش وقال لي: إن الرجل العجوز الذي في الزنزانة المجاورة لك قد مات!. وكان قائد السجن في هذا الوقت فؤاد علام ضابط مباحث أمن الدولة المعروف ورئيس ما كان يعرف بقسم مكافحة النشاط الديني!... ولم يمض إلا وقت قليل حتى أعلنت نتائج تحقيق "وهمي" قال فيها أن السنانيري انتحر!، وفؤاد علام دائما وحتى هذه اللحظة يعلن براءته من قتل السنانيري ويصر على أنه انتحر!... لكنني لا أصدقه ولا يمكن أن أصدقه، فقد كنت في نفس السجن وفي الزنزانة المجاورة له. وقد رأيته بنفسي ورأيت توقيعاته، وحين ذهبت إلى مستشفى السجن في هذا الوقت قابلت قائد المستشفى وهو ضابط، وعلمت منه أنه رأى توقيعات فؤاد علام بخط يده على كل ما كان يحدث في السجن من انتهاكات لحقوق البشر ومن تعذيب وإيذاء نفسي وبدني حقير.
وما قاله فؤاد علام في واقعة استشهاد السنانيري متناقض ويؤكد كذب القول بانتحاره... فهو يقول أحيانا أن السنانيري شنق نفسه بحزام قماش كان يربط به بنطلونه في كوع حوض الماء يغسل فيه يده داخل زنزانته! وهذا كلام لا يقبله عقل فلا يمكن أن ينتحر إنسان بحزام قماش مهترئ وفي حوض ماء ارتفاعه لا يزيد عن متر واحد!... وحين شعر بتهافت روايته قال أنه ربط رقبته بملاءة سرير وعلقها بسيفون كان في أعلى الحوض ووقف على كرسي ثم أزاحه فشنق نفسه ومات! وهذا كلام تافه وساقط أيضاً إذ لم يكن في الزنازين أي سيفون كما يصعب تخيل وجود كراسي داخلها.
ومهما قال فؤاد علام وزبانية التعذيب فلن أصدق أن رجلا مؤمنا زاهدا قوي الإيمان والصبر مثل الأستاذ كمال السنانيري يمكن أن ينتحر فيكفر بالله !... لقد صبر الرجل عشرين عاما في سجون عبد الناصر ولم تفتر له همة ولم تلن له قناة ولم يخضع للطغاة... وأوذي بأشد وأعنت مما لاقاه من تعذيب في السجن الذي مات فيه ولم نسمع أنه اشتكى أو فقد صبره... لقد كان رحمه الله مثالا في الثبات والصبر لإخوانه ولا أتصور مطلقا أن يفقد يقينه بالله وهو الذي قضى عمره كله مجاهدا أسيرا صابرا محتسبا... ما أثق فيه أن الرجل وقع عليه من العذاب الكثير خاصة وأنه كان مسؤولا عن ملف القضية الأفغانية الذي أثار خوف الأجهزة الأمنية، وأنهم لما يئسوا منه قتلوه تحت التعذيب ثم اختلقوا قصة انتحاره. رحمه الله.
حوارات في السجون مع دعاة العنف
كان أول المفرج عنهم من الإخوان المتحفظ عليهم الأستاذ عمر التلمساني والأخ جابر رزق في يناير 1982 في حين بقينا نحن إلى نهاية العام تقريبا، وكان الرئيس مبارك قد تولى الحكم وقام باستقبال كل القوى السياسية في البلاد ولكنه رفض أن يدعو الأستاذ عمر التلمساني لهذا اللقاء... وكان ذلك مؤشرا سلبيًا أكّد لنا أن الدولة لن تتعامل معنا مستقبلا بطريقة جيدة.
وأثناء الاعتقال بدأت الدولة فكرة الحوار مع الشباب الإسلامي المؤمن بالعنف، فكانت تستدعي عددا من العلماء ورجال الأزهر للحوار مع الشباب المعتقلين المتهمين بالانتماء لتنظيمات مسلحة، وأعدت الحكومة جدول محاضرات لهذه الحوارات، لكن معظم هؤلاء العلماء كانوا يسيئون كثيرًا في حديثهم وكانوا رسميين يمثلون وجهة نظر السلطة، ولم يكن له أدنى قبول عند الشباب المعتقل بل كانوا منفرين لهم!.
ومع ظهور سلبية هذه الحوارات ونتائجها العكسية اتصل وزير الداخلية بالأستاذ عمر التلمساني معاتبا بأنه ليس له دور في إصلاح عقول هؤلاء الشباب، فرد عليه الأستاذ عمر مؤكدا أنه على استعداد أن يذهب لهؤلاء الشباب في المعتقل ويتحدث معهم ويحاورهم في قضية العنف... وبالفعل جاء الأستاذ عمر إلى ليمان طرة محاضرًا، والتقى بالشباب من الاتجاهات الإسلامية المختلفة، وكان له أثر كبير فيهم حيث لم يكونوا ينظرون إليه كعالم سلطة أو من المحسوبين عليها خاصة أنه قد سبقهم إلى الاعتقال!.
ورغم تأثيره الكبير في الشباب وربما بسببه أوقفت السلطة زيارة الأستاذ عمر ولقاءاته، ربما خشية أن ينضم هؤلاء الشباب إلى الإخوان، وكانت هذا آخر مرة يلتقي فيها الأستاذ عمر بالمعتقلين من الشباب.
في عنبر واحد مع قتلة السادات!
بعد ذلك نقلت إلى ليمان طرة الذي وصلته ليلا، وكان قائد السجن المقدم محمد مرسي وقد أراد أن يدخلني عنبر "التجربة" وهو عنبر كان محجوزا فيه قتلة السادات. وحين أخبرته أنني من المتحفظ عليهم في قرار التحفظ الشهير وأنني لست محبوسا على ذمة قضية وليس محكوما علي، أصر على إدخالي هذا العنبر، وعاملني بعنف، وقال لي إن الأوامر عنده بذلك، وكنت قد ظننت أنني إذا وضعت معهم في نفس الزنزانة فسوف يفتح التحقيق مرة أخرى في قضية السادات وتتم محاكمتي معهم.
أدخلت عنبر "التجربة" وكان معي في الزنزانة من نزلائه الشيخ عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية، وناجح إبراهيم وكرم زهدي وعبود الزمر وحين علموا بشخصي رحبوا بي ترحيبًا شديدًا.
وظللت معهم في العنبر نحو 20 يومًا، وكان مسؤول هذا العنبر الضابط محمد عوض وقد علمت منهم أنهم ينوون ضربه لأنه كان ممن يعذبونهم أثناء التحقيقات، فحاولت إثناءهم عن هذا العزم الذي سيزيد الأمور سوءا في السجن، ويبدو أن الشيخ عمر عبد الرحمن لم يكن موافقًا على هذا الإجراء العنيف، ولكنهم لم يأخذوا برأيه، ويبدو أيضًا أن المتحمس بينهم كان هو الذي يقود الآخرين إلى أي رأي يتخذونه، فيما يعد من يعارض مثل هذه القرارات متخاذلا، وكانت كل أمورهم تؤخذ بهذا الشكل.
وبالفعل نفذوا ما عزموا عليه، فحين أتى الضابط محمد عوض مساء إلى الزنزانة لأخذ التمام أمسكوا به وأخذوا يضربونه ضربًا عنيفًا، وهو يستغيث حتى جاءته النجدة من مسؤولي السجن والحراس الذين خلصوه من بين أيديهم… وبعد هذه الواقعة تحول العنبر إلى نار الله الموقدة!.
كنا نخرج صباحًا في طابورين ومعنا دلو للبول ودلو آخر للماء النظيف، وكان يفرض علينا أن نذهب إلى دورة المياه ونعود في دقيقتين فقط! وأثناء تلكم الدقيقتين نأخذ وجبة ساخنة من الضرب ذهابًا وإيابًا، وكنت- على الرغم من أنني لم أشاركهم الفعل- لا أستثنى من هذا الضرب إلا عندما يكون الضابط محمد عوض موجودًا، حيث كان يمنع العساكر من ضربي وإهانتي لأنني لم أكن ممن اشترك في موقعة الاعتداء عليه... وظللت على تلك الحال أسبوعًا كاملا حتى انتقلت إلى عنبر المعتقلين الآخرين.
وأثناء وجودي مع معتقلي عنبر (التجربة) حدثت مناقشات وحوارات حول قضية التغيير ومنهج العمل الإسلامي، وكان رأيهم أن العنف هو الطريق الوحيد للتغيير ولا طريق سواه، وأنه لن يمنعهم فشل التجربة من أن يكرروها مرة أخرى.
وأتصور أنه بسبب تلك النقاشات بدأ بعضهم يتراجع عن ذلك الفكر المتشدد، وأذكر منهم الدكتور محمد طارق طبيب الأسنان، وكان يحب الجلوس معي بمفرده كي يتحدث في جدوى ذلك الفكر المتطرف، وقد علمت- بعد ذلك- أنه انفصل عنهم وقضى بقية مدة عقوبته) عشرين عامًا) في سجن مزرعة طرة بعيدًا عنهم.
إعادة بناء تنظيم الإخوان بعد حادث المنصة
قضينا ــ معظم من اعتقلوا من الإخوان وخاصة أبناء جيلي- نحو عام في المعتقل، فلم نخرج إلا في سبتمبر من عام 1982، وكان أول ما شغلنا بعد الخروج من المعتقل هو البدء في إعادة تنظيم جماعة الإخوان من جديد والاهتمام بالبناء الداخلي، وهو ما شرعنا فيه فور الخروج مباشرة، خاصة وأن نظام الرئيس حسني مبارك لم يغلق الباب مباشرة في وجه الإخوان فقد استمر نشاطنا قويا إلى نهاية عقد الثمانينيات تقريبا، وإن كنّا على قناعة - وقت خروجنا - أن عصر السادات لن يعود بما كان فيه من انفتاح وحرية في العمل والتنظيم السياسي.
يمكن القول بأن الدكتور أحمد الملط هو أبرز من حملوا عبء هذه المرحلة وتولّوا عملية إعادة البناء، وكان أول ما فعله -رحمه الله - الاتصال بمجموعتنا التي كانت ناشطة في قيادة الجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية، وكان كلامه واضحا في أن الأولوية هي لإعادة البناء الداخلي وهو ما بدأ العمل فيه على قدم وساق تحت مسؤوليته مباشرة بعد أيام قليلة من خروجنا من المعتقلات، وقد كنت على رأس تلك المجموعة المسؤولة عن إعادة البناء وترتيب صفوف الجماعة التي اهتزت كثيرا بعد أحداث سبتمبر 1981.
وقد أطلق على مجموعتنا (مكتب مصر) تمييزا عن التنظيمات القطرية للإخوان خارج مصر، ووضعنا خطة لتقسيم القطر المصري إلى قطاعات، فكان الأخ ممدوح الدّيري هو مسؤول شرق الدلتا، والأخ إبراهيم الزعفراني مسؤول غرب الدلتا، والأخ أنور شحاتة مسؤول وسط الدلتا والأخ محمد حبيب مسؤول قطاع الصعيد، والأخ السيد عبد الستار المليجي مسؤول القاهرة... ولحق بنا في هذه المجموعة الأخوان جابر رزق وإبراهيم شرف رحمهما الله. ثم بدأنا في ترتيب المكاتب الإدارية للجماعة في كل محافظات مصر والتي تنقسم إلى مناطق وشُعب، مع التركيز على تعميق وتقوية التنظيم ووضع القواعد الإدارية التي تضمن فاعليته وكفاءته وانسجام تكويناته وتراتبيته، وهو عمل استغرق الجهد الأكبر من نشاط الجماعة ما يقرب من سنوات متواصلة، فلم يأت عام 1987 حتى تبلور التنظيم وظهر بشكله الضخم واستقر النظام الإداري للجماعة.
وفي هذه الأثناء كان هناك جهد موازٍ في ترتيب الجماعة على المستوى الخارجي، فبعد تولي مكتب مصر مسؤوليته عن القطر المصري تحت إشراف الدكتور أحمد الملط، تفرغ الأستاذ مصطفى مشهور ـ رحمه الله ـ للتنظيم خارج مصر فكان صاحب الجهد الأكبر في تأسيس التنظيم الدولي وهيكلته ووضع لائحته التي صدرت في مايو من عام 1982، وكان أبرز الإخوة الذين ساهموا في بناء التنظيم الدولي وتنشيط عمله الأستاذ مهدي عاكف المرشد الحالي والمهندس خيرت الشاطر والدكتور محمود عزت، وكانوا جميعا قد خرجوا من مصر قبيل اعتقالات سبتمبر 1981 وبعدها واستمروا في الخارج حتى عام 1986.
استقرار جماعة الإخوان المسلمين
أذهب إلى القول بأن جماعة الإخوان المسلمين لم تستقر فكرًا وتنظيمًا على الصورة التي نراها عليها الآن إلا عام 1989 على الأرجح وهو العام الذي أجريت فيه أول انتخابات لاختيار مسؤولي الجماعة بعدما كانوا يتولون مناصبهم ــ في كل القطاعات تقريبا - بالتعيين، وأن الحسم على المستوى الفكري والتنظيمي بما يرسم الصورة التي عليها الآن مر بعدة محطات وأحداث تاريخية مهمة.
فإذا تكلمنا عن الموقف من التكفير سنجد أنها حسمته مبكرا مع أول فتنة تكفير واجهتها بعد اعتقالات عام 1965، في هذه الفترة الحالكة من تاريخ الجماعة وقعت فتنة التكفير بعدما تعرض كثير من شبابها للظلم والتعذيب والقهر في سجون العهد الناصري، فتغذى بعض الشباب من كتابات الشهيد سيد قطب ثم أضافوا إليها رؤيتهم الخاصة فخرج ما عرف بالتيار القطبي ثم تيار التكفير والهجرة كما تجسدت في تنظيم جماعة المسلمين الذي أسسه الشاب شكري مصطفى الذي كان سجينا مع الإخوان. والحق أن التاريخ سيشهد بفضل الأستاذ المستشار حسن الهضيبي مرشد الجماعة وقتها والذي تعالى على جراح التعذيب والتنكيل وتصدى لفتنة التكفير التي بدأت في السجون، فأصدر كتابه المرجع "دعاة لا قضاة" التي استعاد بها منهج الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا رحمه الله، مؤكدا أن منهج الجماعة هو دعوة الناس وليس القضاء فيهم، وأنها لا تكفر مسلما مهما كان جرمه حتى ولو طالها أذاه مثلما حدث معها في السجون الناصرية، وقد حسم فيها حسن الهضيبي رحمه الله موقف الجماعة نهائيا وللأبد في قضية التكفير، وأحسب أنها كانت القاضية في هذه القضية فتطهر منها الصف الإخواني من دون رجعة.
كان موقف الجماعة من قضية التكفير حازما وحاسما وفوريا بعكس موقفها من قضية العنف والذي تأخر وتم بطريقة تدرجية وعملية وليس بمراجعة أو موقف واضح ونهائي كما في قضية التكفير، ويمكن القول بأن النقاشات التي دارت في بداية عام 1984 تمهيدا لحسم الموقف من المشاركة في الانتخابات البرلمانية كانت مهمة في نقل وجهة الحركة باتجاه التيار السلمي في التغيير الذي تزعمه أستاذنا عمر التلمساني على حساب بعض القادة الذين لم يكن لديهم رفض مبدئي لفكرة استخدام العنف على الرغم من عدم لجوئهم إليه فعليا. وأتصور أن نبذ فكرة استخدام العنف تم داخل الجماعة تدريجيا ومع دخولها في العمل العام حتى انحسرت تماما إلا ــ ربما - في قناعات مستترة لبعض الأفراد القليلين الذين لا يجدون سبيلا لنشرها داخل الجماعة فضلا عن الدعوة إليها علانية، وقد تم هذا الحسم بتدرج وهدوء ولم تضطر الجماعة فيه إلى تكرار ما فعله الأستاذ حسن الهضيبي مع فتنة التكفير في نهاية الستينيات.
أما القطع مع العمل السري وحسم قضية علنية الجماعة ورفضها للسرية فقد تم بشكل رسمي ومكتوب عام 1987، حيث اجتمعت كل قيادات الجماعة من مسؤولي المحافظات إلى أعضاء مكتب الإرشاد وتداولنا هذه القضية وظهر ما يشبه الإجماع على الإقرار بعلنية الجماعة ورفض العمل السري، وخرجنا وقتها بوثيقة رسمية مكتوبة عرفت باسم "جماعة الإخوان جماعة علنية"، أقر بها مكتب الإرشاد وأرسلت إلى كل أقسام الجماعة ومكاتبها الإدارية للالتزام بما جاء فيها.
لقد كان النصف الأول من عقد الثمانينات – في رأيي- امتدادا لعهد السادات؛ عهد الانفتاح وحرية العمل والتنظيم السياسي، فكان حاسما في بناء جماعة الإخوان المسلمين واستقرار منهجها الفكري واستراتيجية عملها وصورتها لدى الرأي العام ولدى قواعدها أيضا، وقد شهدت سنواتها القطع في قضايا كثيرة كانت غير واضحة من قبل مثل الموقف من العنف والعمل السري، كما شهدت وضع القاعدة الصلبة للتنظيم الإخواني وتحديد قواعده الإدارية ومناهج التكوين والتربية ورسم مسار حركته. وهو ما أهل الجماعة للانطلاق بقوة وملأ فراغ العمل العام في مصر والعالم العربي على الرغم من أن عقبات كثيرة بدأت تظهر في الأفق كان من شأنها أن تعرقل سير الجماعة وحركتها.
علماء الجماعة وشيوخها
ومما يجب التوقف عنده كثيرا عند حديثنا عن استقرار رؤية الجماعة ووضوح منهجها الفكري موضوع علماء الجماعة وشيوخها، فعلى خلاف ما يتصوره البعض لم تعرف الجماعة في هذه الفترة ما يمكن أن نسميه بجناح أو تيار المشايخ والعلماء، وإنما كان لدى الجماعة علماء وشيوخ أجلاء ظلوا طوال فترة إعادة بناء الجماعة جزءا من نسيج حركتها وبنيانها الفكري والتنظيمي، ولم نشهد في حركتنا ونقاشاتنا الطويلة التي قضيناها في إعادة البناء خلافات ذات وزن تؤشر إلى أن هناك انفصالا بين الشيوخ والعلماء وبين الحركيين أو إخوان العمل العام. اللهم إلا مواقف قليلة بل ونادرة جدا أشهرها ما حدث مع الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد.
كنّا قد حسمنا أمرنا بالدخول في تحالف مع حزبي العمل والأحرار عرف بـ "التحالف الإسلامي" في الانتخابات البرلمانية عام 1987، وقد رشح حزب العمل على قائمته بإحدى دوائر محافظة الجيزة امرأة هي السيدة عزيزة سند، وكان الموقف المبدئي للإخوان هو الترحيب بهذا الترشيح وعلى أن يضم الإخوان امرأة في قوائمهم لما يعنيه ذلك من مواجهة الاتهامات التي تطلقها التيارات العلمانية وتشيع فيها أن الإخوان أعداء للمرأة وسيقفون ضد مكاسبها، لكن الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد وهو أستاذ للتفسير في جامعة الأزهر من قدامى الإخوان وكان عضوا بمكتب الإرشاد وقتها رفض الأمر تماما وبقوة، وساق جميع الآراء الشرعية التي تعارض مشاركة المرأة بالبرلمان.
والحقيقة أن ما ساقه فضيلة الشيخ عبد الستار في المسألة كان أقرب لرأي شرعي يقبل المراجعة، فهو غير مجمع عليه كما أن كثيرا مما طرحه من حجج شرعية كان مردودًا عليها. وكنت ممن عارضوا رأي فضيلته، فعرض عليه الإخوان في مكتب الإرشاد تكوين لجنة من علماء الشريعة تدرس القضية ثم تخرج بعدة آراء يختار منها مكتب الإرشاد ما يراه مناسبًا للجماعة، إلا أن فضيلته رفض الاقتراح وقال إن الرأي الراجح الذي ستراه اللجنة هو الذي يجب أن يلتزم به مكتب الإرشاد وأنه سيكون ملزما للجماعة، وهو ما قوبل بالرفض.
كنت ممن عارضوا رأي الشيخ عبد الستار فتح الله، وكان من أشد معارضيه ومن تولى الرد عليه الأستاذ المستشار مأمون الهضيبي رحمه الله وكان مشرفا على القسم السياسي وقتها (تولي منصب المرشد السادس للجماعة)، كنّا نرى أن جماعة الإخوان ليست ملزمة بمذهب فقهي أو برأي شرعي محدد لا تتجاوزه إلى غيرها؛ بل يسعها ما يسع الإسلام، وأن الأفضل في قضية ترشيح المرأة للبرلمان أو عملها بالسياسة أن نوسع المسألة ونعرضها على فقهاء وعلماء من هيئات ومؤسسات دينية معتبرة حتى من خارج الجماعة، ونسمع لما تراه في القضية المثارة ثم نأخذ بما يناسبنا طالما وسعه الشرع. ولكن الشيخ عبد الستار فتح الله رفض رأينا وأصر على موقفه بل وتطور الأمر إلى أن قدم استقالته من مكتب الإرشاد!. وقد ظل - حفظه الله - متمسكا برأيه مخلصا له، وتجددت معارضته حين رشح الإخوان الأخت جيهان الحلفاوي (زوجة الأخ إبراهيم الزعفراني) في الانتخابات البرلمانية عن دائرة الرمل بمحافظة الإسكندرية عام 2000، ثم عاد مجددا لينتقد هذا الموقف حين رشح الإخوان الأخت مكارم الدّيري (زوجة المرحوم الأخ إبراهيم شرف الذي عمل سكرتيرا للمرشد) في الانتخابات الأخيرة 2005 عن دائرة مدينة نصر بالقاهرة، وانتقد بحدة هذا العمل حتى في خطبة الجمعة بالمسجد الذي يؤم الناس فيه، على الرغم من أنه مازال واحدا من جماعة الإخوان وأن استقالته كانت من مكتب الإرشاد فقط وليس من عضوية الجماعة.
وقد كانت الواقعة مهمة جدا في تأسيس منهج للتعامل مع القضايا التي يختلط الشرعي بالسياسي فيها، فحين بدأنا النقاش عام 1994 لإصدار الوثيقة الشهيرة عن موقف الإخوان من الشورى والتعددية الحزبية وعمل المرأة في السياسة، وكان المستشار مأمون الهضيبي وقتها مسؤولا عن القسم السياسي، انتهينا في مكتب الإرشاد إلى دعوة مجموعة من علماء الشرع لحضور مناقشات القسم السياسي في الجماعة مع عدد من أعضاء مكتب الإرشاد وإدارة حوار موسع حول هذه القضايا خاصة قضية التعددية وإمكانية قبول الجماعة بالتعددية الحزبية، وقد دام هذا الحوار وقتًا طويلا نوقشت فيه قضايا أخرى مثل قضية الأقباط وكان ممن حضروه فضيلة الشيخ طه ريان عميد كلية الشريعة آنذاك مع الإخوة من القسم السياسي عصام العريان وعبد الحميد الغزالي (الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة).
(1) نشرت هذه المذكرات في جريدة الشروق المصرية في شهر تموز/يوليو 2009. ونشرها موقع الحقول كاملة يوم 2 ايلول/سبتمبر 2009. ونعيد اليوم (13 آذار /مارس 2012) نشرها بسبب الإقبال الكثيف على قراءة هذه المذكرات، الذي سجل في موقع الحقول بواسطة Google Analytics خلال الشهر المنصرم. وبهذه المناسبة لا بد أن نذكر الجهد الذي بذله سكرتير التحرير في الحقول المناضل السياسي والإجتماعي الزميل علي يوسف الموسوي من لبنان، الذي توفي بعد سنة من تاريخ نشر هذه المذكرات للمرة الأولى. كما لا بد أن نذكر الباحث حسام تمام الذي تولى تحرير هذه المذكرات وتحضيرها للنشر. وقد توفي في السنة الماضية. فرحمة الله عليهما. لن نضيف كثيرا لكن هذه المذكرات لا تلحظ "خروج" الدكتور أبو الفتوح من حزب "الإخوان" بعد ثورة يناير المصرية، وهو أمر لا يبدل من تقديرنا العلمي والتاريخي والسياسي للرجل ومذكراته.
ملاحظة : نشر عصام العريان وهو قيادي في "جماعة الإخوان المسلمين" في مصر، تعليقا على مذكرات أبو الفتوح يوم 2 أيلول/سبتمبر 2009، وذلك على الرابط التالي :
http://www.al-khbar.com/ar/node/154693
"الحقول" تعيد نشر النص الكامل لمذكرات عبد المنعم أبو الفتوح : "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر"
تنطوي مذكرات عبدالمنعم أبوالفتوح(1) رئيس اتحاد الأطباء العرب، وعضو مكتب إرشاد "جماعة الإخوان المسلمين"، وقائد التيار الإصلاحى فيها، على قيمة تاريخية وفكرية كبيرة، لما حملته من مراجعة جريئة للنظرة "الإخوانية" التقليدية إلى التجربة الناصرية، ومن عرض نقدي للتحولات العاصفة في تجربة الإسلاميين المصريين.
في هذه المذكرات التي نشرت تحت عنوان : "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر"، وقدم لها المفكر العربي البارز طارق البشرى، وحررها (المرحوم) حسام تمام الباحث فى شؤون الحركات الإسلامية، نرى "الشاهد" أبو الفتوح، رغم بعض الحذر المشروع، يعيد، بجهد واضح، قراءة قضيتين كبيرتين :
أولا : مقاربة الأسئلة الكبيرة التي تواجه كل الباحثين والسياسيين الذين يرغبون في التعلم والإعتبار من تاريخ العلاقة الصراعية بين التيارين الإسلامي والقومي العربي.
ثانيا : تأسيس رواية تاريخية بشأن موقف "الإخوان" من السلطة والعنف السياسي، ومصادرهم الفكرية، لا سيما الوهابية والباكستانية، وموقفهم من "الجهاد الأفغاني"، والثورة الإيرانية، وكيفية صوغهم لرؤية معاصرة إلى مسائل الحكم والنظام السياسي.
هذه المذكرات هي "شهادة" أيضا، تذكرنا بأهمية التاريخ الشفهي في الكتابة التاريخية. فهناك الكثير من القادة السياسيين والإجتماعيين والعسكريين العرب الذين رحلوا، من دون أن يتمكنوا من تدوين مذكراتهم بأنفسهم، أو بمساعدة من غيرهم، وفي ذلك خسران فادح للذاكرة التاريخية العربية.
في هذه المذكرات التي نشرت تحت عنوان : "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر"، وقدم لها المفكر العربي البارز طارق البشرى، وحررها (المرحوم) حسام تمام الباحث فى شؤون الحركات الإسلامية، نرى "الشاهد" أبو الفتوح، رغم بعض الحذر المشروع، يعيد، بجهد واضح، قراءة قضيتين كبيرتين :
أولا : مقاربة الأسئلة الكبيرة التي تواجه كل الباحثين والسياسيين الذين يرغبون في التعلم والإعتبار من تاريخ العلاقة الصراعية بين التيارين الإسلامي والقومي العربي.
ثانيا : تأسيس رواية تاريخية بشأن موقف "الإخوان" من السلطة والعنف السياسي، ومصادرهم الفكرية، لا سيما الوهابية والباكستانية، وموقفهم من "الجهاد الأفغاني"، والثورة الإيرانية، وكيفية صوغهم لرؤية معاصرة إلى مسائل الحكم والنظام السياسي.
هذه المذكرات هي "شهادة" أيضا، تذكرنا بأهمية التاريخ الشفهي في الكتابة التاريخية. فهناك الكثير من القادة السياسيين والإجتماعيين والعسكريين العرب الذين رحلوا، من دون أن يتمكنوا من تدوين مذكراتهم بأنفسهم، أو بمساعدة من غيرهم، وفي ذلك خسران فادح للذاكرة التاريخية العربية.
الحلقة الأولى
على سبيل البدء
ولدت فى الخامس عشر من أكتوبر عام 1951 لأسرة متوسطة الحال فى حى المنيل بمنطقة مصر القديمة، كان ترتيبى الثالث بين خمسة إخوة كلهم ذكور. تفتح وعيى والمشروع الناصرى فى أوجه. كان جمال عبدالناصر بالنسبة لنا المثل الأعلى والزعيم المخلص، كان حضوره يملأ حياة الناس ويحجب غيره، وكانت صورته دائما أمام عينى وعين الأطفال والناشئة من أبناء جيلى، فقد كان رمزا لكل شىء جميل وكان رمزا للفخر والاعتزاز حتى كنّا ـ ونحن أطفال ـ إذا تفاخر علىّ أحد زملائى أرد عليه مستنكفا فأقول له : هو أنت أبوك جمال عبدالناصر؟!.
كان الناس يعشقون «ناصر» حتى كانوا يحفظون خطبه، فقد كان الرجل ـ بالفعل ـ صاحب فضل على كثير من الناس، حتى إن أبى كان يعتبر تعليمى المجانى من فضائل جمال عبدالناصر ومكارمه، وكان قد استفاد قبلها من قانون الإصلاح الزراعى، فقد كان من أسرة فقيرة من مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية وسط الدلتا ثم تحسنت أحوالها وأصبح كل واحد من أعمامى يملك خمسة أفدنة بعدما كانوا لا يملكون شيئا.
كانت لجمال عبدالناصر مكانة كبيرة لدى أسرة والدى، بل أستطيع القول إنه كان سببا فى التقريب بين عائلة أبى وأمى، فقد كانت أمى من عائلة إقطاعية كبيرة قبل الإصلاح الزراعى، ولم يكن ممكنا أن تتوطد العلاقة بين العائلتين لولا قانون الإصلاح الزراعى... وإن كانت عائلة أمى تضررت كثيرا من إصلاحات جمال عبدالناصر فأصبحت متوسطة الحال... لكن أحدا من الذين تضرروا لم يكن قط يجرؤ على الكلام فى هذا الأمر أو انتقاده.
زلزال النكسة وانهيار حلم الثورة
فى الخامس من يونيو عام 1967، كانت الحرب وكنت وقتها لا أفارق جهاز الراديو فلم يكن لدينا جهاز تلفزيون مثلنا مثل كثير من الناس رقيقى الحال، كنت لا أرفع الراديو عن أذنى، أستمع إلى صوت المذيع الشهير الثائر أحمد سعيد الذى لا يتوقف عن نقل وقائع الانتصارات الباهرة!! أو إحصاء عدد طائرات العدو التى تتساقط كل يوم بل كل ساعة وربما كل دقيقة!! وانتصار قواتنا الباسلة، بقينا أياما نعيش انتصارات وهمية، ثم إذا بنا أمام الهزيمة لنكتشف أن كل ما عشناه من انتصارات كان كاذبا وملفقا، وأننا بدل أن نحتفل بالنصر الكاسح فإننا تجرعنا علقم الهزيمة المنكرة.
ومن الإنصاف أن نقول إن جيشنا لم يهزم، فهو لم يحارب أصلا بسبب حالة الفساد والانهيار التى كان يعيش فيها بفعل القيادات السياسية والعسكرية الفاسدة حتى انتهى الأمر بهذا الوضع المؤلم.
ذقنا مع الهزيمة ــ ربما لأول مرة ــ مشاعر الذل والانكسار؛ انكسار الحلم والثورة. وأصاب الناس زلزال شديد ليس بسبب الهزيمة وإنما بسبب مشاعر العزة والقوة التى كانوا يعيشونها وبسبب حالة النشوة والطموح الكبير التى أوجدها جمال عبدالناصر ومشروعه الثورى الذى كان يسعى لتغيير وجه مصر والمنطقة بل والعالم كله، ولا ننسى سطوة الإعلام المصرى وقتها والذى نجح فى أن يجعل من «ناصر» الزعيم الملهم لكل مصر بل ولكل الأمة العربية، وكذلك إبرازه لعدد من المشروعات الكبرى التى جعلت الناس يحبونه بصدق.
وبقدر ما كان الحلم كبيرا بقدر ما كان إنكساره مؤلما وكانت «النكسة» صدمة عنيفة للناس. ولدت حالة من الرجوع إلى الله وجعلت الناس تتجه إلى ارتياد المساجد واللجوء إلى التمسك بالدين والعودة العميقة إلى الله، وفى هذه الفترة كنت أواظب على الصلاة بحكم نشأتى فى أسرة متدينة تدينا فطريا، وكنت وقتها طالبا فى المرحلة الثانوية وكنت أواظب على أدائها فى المسجد المجاور لمنزلى، وكان يتبع للجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة. أتذكر وقتها أن عدد المصلين كان قليلا، ولكنه بدأ يتزايد بعد النكسة، ربما تعبيرا عن حالة الحزن والانكسار.
عودة الدروس للمساجد
لم يكن فى هذه الفترة أثر أو إشارة إلى أى مظاهر لنشاط إسلامى سياسى، فقط كانت هناك بعض الأنشطة التقليدية مثل دروس الفقه والتفسير أو التعريف بالتراث، وكانت تخضع لرقابة صارمة. وكانت هذه النشاطات لجمعيات وأفراد ممن يهتمون بتعليم الناس العبادات ويحثونهم على التزام الأخلاق وتزكية النفس، وكان من أهمها الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، وجماعة أنصار السنة، وعدد قليل من الجمعيات الدينية لم تطلها حملة النظام الناصرى على الإسلاميين.
لم يكن أحد ـ وقتها ـ يستطيع أن يتعرض للنظام بنقد، حتى إنه لما وقعت الكارثة وهزمنا فى 5 يونيو لم يستطع أحد أن ينتقد ما حصل من هزيمة وما سبقها من خداع وتضليل، ظل ذلك حتى قام طلاب الجامعات بمظاهرات 1968 الشهيرة التى طالبوا فيها علانية بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة.
وكان من آثار الهزيمة أن بدأ النظام الناصرى فى تخفيف قبضته الأمنية الشديدة عن الناس، فبدأت الدروس الدينية فى الانتشار، وبزغ عدد من العلماء الذين نشطوا فى هذه الفترة من أواخر الستينيات واستقطبت دروسهم الجماهير. وفى مقدمة هؤلاء العلماء كان فضيلة الشيخ محمد الغزالى الذى كان خطيبا بمسجد عمرو بن العاص أقدم مسجد فى إفريقيا، ثم الشيخ سيد سابق الذى بدأ يعود للحياة العامة بقوة فى أوائل السبعينيات، وانتعشت المساجد بعد أن ارتفعت عنها القبضة الأمنية أكثر حين مات الرئيس جمال عبدالناصر فى سبتمبر عام 1970.
بداية التعرف على الإخوان
بعد انهيار الحلم الناصرى فى نفوس الجماهير حلت حالة من عدم اليقين أو الثقة فى كل ما له صلة بالنظام، وبدأنا نفكر فى أن كل من كان ضد جمال عبدالناصر كان على صواب وعلى حق. وأعتقد أن هذه كانت البداية فى التعرف على الإخوان المسلمين.
على المستوى الشخصى، كنت فى أوائل المرحلة الثانوية أثناء نكسة 1967 وكنت مثل غيرى أقرأ فى الصحف وأسمع فى الإذاعة كل ما هو سيئ عن الإخوان المسلمين، وكنا نصدق هذه الدعايات؛ فالإخوان كانوا ضد الزعيم البطل الذى نعتز به ونحبه، كما لم تكن حولى دائرة إخوانية ولم يكن أبى من الإخوان.
ولكن نكسة 1967 أحدثت تغييرا جذريا جعلتنا نقول إن هذا البطل الذى ثبت أن أحلامه ومشروعاته كانت وهما يمكن أن يكون قد خدعنا فيما قاله عن الإخوان، وكانت دعايات الإعلام الناصرى وقتها تروج أن الإخوان كانوا يدبرون لهدم القناطر الخيرية وقتل أم كلثوم... وتنسب لهم تهم بدت لنا فيما بعد مضحكة وشديدة البهتان... فلماذا يهدم الإخوان القناطر الخيرية؟ وما الفائدة التى يمكن أن يحصلوها من قتل أم كلثوم التى كانت تحظى بشعبية هائلة ومحبة بين الشعب المصرى؟!
لقد تراجعت قدرة الدعاية الناصرية بعد نكسة 1967 بشكل كبير فبدأ الناس يعيدون التفكير ويراجعون الكثير مما كان شائعا، وقد ساعد على تلك المراجعات حالة العودة إلى الدين ورفع الدولة يدها عن المساجد، وبدأت تتغير الصورة عن الإخوان وصارت قناعة تترسخ يوما بعد يوم أن ما كان يقال فى حق الإخوان هو محض كذب وافتراء وأنهم أناس شرفاء لهم أغراض نبيلة دفعوا ثمنا باهظا بسبب خلافهم مع جمال عبدالناصر... وبدأت صورة جديدة تنتشر عن الإخوان لم يكن يمكن التفكير فيها قبل نكسة 1967.
أتذكر أن شيئا من هذا حدث على مستوى المسجد الذى كنت أصلى فيه فى جمعية أنصار السنة بعابدين، فقد تغيرت نظرتنا للإخوان إلى الأفضل. كان البعض ممن يعرفون الإخوان أو سبق لهم التأثر بهم أو حتى كانوا إخوانا أفلتوا من قبضة النظام ولم يعتقلوا ــ كانوا قد بدأوا يتحدثون ويعلون صوتهم يوما فيوم فتراجعت الصورة السلبية التى حاول النظام الناصرى غرسها فى نفوس الشباب نحوهم.
دور الجمعية الشرعية
كان الشيخ البحيرى شيخ مشايخ الجمعية الشرعية أبرز من أسهموا فى تغيير صورة الإخوان إلى الأفضل فى هذه الفترة على الأقل فيما يتصل بالمحيط الذى كنت أنتمى إليه وأتحرك فيه... لقد بدأ الرجل يدافع عن الإخوان ويقول عنهم إنهم أناس طيبون أرادوا بناء مصر وأرادوا الخير لشعبها لكنهم اصطدموا بجمال عبدالناصر.
تغيرت صورة الإخوان فى خيالى على نحو انقلابى، وصاروا نموذجا للتضحية والفداء من أجل الوطن، ولكن صورة الإخوان كأصحاب مشروع للنهضة تأخرت إلى ما بعد دخولى الجامعة فى بداية 1971 حين أصبحت مهموما بالوطن، والطريف أننى دخلت إلى الإخوان المسلمين عبر البوابة الوطنية، وقد كان أول من تعرفت عليه من الإخوان رجل صوفى (أستاذى الدكتور عبدالمنعم أبو الفضل)، ورغم تلمذتى عليه فلم يكن تكوينه الصوفى متفقا مع تكوينى، كان ــ رحمه الله ــ إخوانيا متصوفا ولكننى قبلت إخوانيته ورفضت صوفيته.
نشأت نشأة بسيطة فى عائلة متواضعة كان لها دور فى مواجهة الإقطاع بقرية قصر بغداد فى مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية، كان الإقطاع فى قريتنا ممثلا فى شخص اسمه أبو الفتوح فودة وكان أحد كبار الإقطاعيين الذين يثيرون الرعب فى قلوب الفلاحين، وكان يركب «الحنطور» ويسير فى القرية فلا يجرؤ أحد على الظهور حتى يمر موكبه، ولكن كان لى عم جرىء وشجاع ــ أصغر إخوته ــ يرفض أن يجرى كما يجرى الآخرون ولا يختبئ كما يختبئون، وكان دائم التعبير عن سخطه على هذا الإقطاعى ورفضه لظلمه، وكثيرا ما كانت تحدث احتكاكات بينه وبين هذا الرجل صاحب الجاه والسلطان على الرغم من كون عمى رجلا بسيطا ليس لديه الجاه... من هذا ربما ورثت كراهية الظلم والجبروت والاستعلاء على الناس.
وأذكر أننى تأثرت بعمى هذا كثيرا فى طفولتى، وقد تعلمت منه ألا أخاف من سطوة الكبار ولا أتردد فى مواجهتهم، ورغم أننى كنت ممن خرجوا فى المظاهرات بعد النكسة وخطاب التنحى يطالبون الزعيم جمال عبدالناصر بالبقاء إلى حد أننى بكيت خوفا من ذهابه، إلا أننى سرعان ما صرت غاضبا منه حانقا عليه بمجرد أن اكتشفت الوهم الكبير الذى كنا نعيش فيه، وفى أول زيارة لى إلى قريتنا كنت أصلى الجمعة فما إن وقع بصرى على صورة للزعيم ناصر معلقة بالمسجد حتى انتفضت غاضبا ورفعتها رغما عن معارضة أهالى القرية وكبارها الذين هالهم أن أتجرأ على جمال عبدالناصر.
صراع ناصر والإخوان سياسيًا
ورغم أن نظرتى تغيرت تماما عن جمال عبدالناصر فلم تصل يوما إلى تكفيره، فقد كنت أرى أنه من الصعب أن نقول إن جمال عبدالناصر كان ضد الإسلام أو عدوا له كما كتب البعض، ومازلت أرى أن الصراع بينه وبين الإخوان كان صراعا سياسيا فى الأساس بدليل أنه استعان بالعديد من رجالهم فى بداية الثورة كوزراء مثل الشيخ الباقورى والدكتور عبدالعزيز كامل... أما ما قيل عن عدم التزامه الدينى فيبقى كلاما غير موثق.
وحتى بعد وفاة جمال عبدالناصر وفى النصف الثانى من السبعينيات لم أكن أتابع ما تنشره المجلات والصحف التى فتحت ملف كراهية عبدالناصر للإسلام وما كان يحدث فى المعتقلات من تعذيب، كنت لا أحب ذلك رغم قناعتى بأنه ظلم الإخوان ورغم تقديرى لمعاناة الإخوان وما لاقوه من عنت واضطهاد وتفهمى لمشاعرهم تجاه الرجل... وكنت أرى أنه من الطبيعى أن أسمع قول أحد أساتذة الجامعة الإخوان بعد خروجه من المعتقل: لو تمكنت من عبدالناصر لمزقته بأسنانى!... بل وأعذر هذا الفصيل الذى خرج على الأستاذ حسن الهضيبى فى عام 1965 وكفّر جمال عبدالناصر وجعله خارجا على الإسلام.
لم يكن لأسرتى نشاط سياسى ومن ثم لم يقع عليها ظلم سياسى كالذى عاناه الإخوان، لكنهاــ أسرتى ــ عانت نوعا من الظلم الاجتماعى والطبقى وتصدت له، وكان أبى ــ رحمه الله ــ يعمل فى وظيفة فنى أسنان بالقاهرة، وكان يحمل لى محبة خاصة ويحمل أيضا خوفا دائما علىّ، وإن لم يصل إلى حد منعى من العمل السياسى، كان خوف أبى علىّ خوفا طبيعيا فى جزء منه مثل خوف كل أب على ابنه، ولكن جزءا منه كان خاصا بى وأكثر من خوفه على بقية إخوتى، ويرجع هذا إلى ما حدث لى وأنا صغير فى سن الثالثة أو الرابعة من إغماء ظن معه والدى ووالدتى أننى قد مت فبدآ فى تجهيزى للدفن ولكننى أفقت فجأة من حالة الإغماء... فظل أبى يخاف علىّ وكان من فرط خوفه أنه لا يعاقبنى مثلما قد يفعل مع بقية إخوتى حتى ولو كنا شركاء فى الخطأ.
وكانت علاقتى مع أبى نموذجية فهو يهتم بى ويحيطنى بعنايته ولكن دون أن يتدخل فى تفصيلات حياتى بما يلغى شخصيتى أو يضيق على. لذا نشأت بيننا علاقة متميزة؛ فكان ــ مثلا ــ شديد الاهتمام بقضية المذاكرة والتفوق فى الدراسة وأنا من ناحيتى لم أشعره يوما بتقصيرى فى ذلك، فظللت محافظا على تفوقى فى كل سنوات الدراسة (كنت أحصل على تقدير جيد جدا) مهما كان انشغالى بالعمل العام، وقد ساعد على ذلك عدم وجود اعتقالات فى السبعينيات ولا مضايقات أمنية مقارنة بما كان يحدث فى الستينيات.
النشاط الإسلامى فى الجامعة
فى العام نفسه الذى مات فيه ناصر ــ عام 1970 ــ كان التحاقى بالجامعة، كنت قد حصلت على مجموع كبير فى الشهادة الثانوية، وكانت رغبة والدى أن أصبح طبيبا فالتحقت بكلية طب قصر العينى بجامعة القاهرة، وأتذكر وقتها أنها كانت تخلو من أى نشاط إسلامى.
كنا نتلقى محاضراتنا فى السنة الإعدادية فى كلية العلوم، وكان الطلاب لا يرتادون مسجد الكلية، وأذكر أننى كنت أصلى مع زميل لى من المنيا اسمه عبدالشافى صاوى على حصيرة متهالكة، فكنت أؤذن للصلاة وكان هو الذى يؤمنى فيها لأنه كان أحفظ منى للقرآن الكريم، وكان دائما يتساءل: لماذا لا يأتى أحد للصلاة معنا؟!. ولكننا حين انتقلنا إلى كلية الطب فى السنة الأولى صار مسجد الكلية (مسجد الشافعى) يمتلئ بالطلاب، وتلقى فيه كلمة بعد صلاة الظهر، ولكن رغم ذلك لم يكن هناك أى نشاط إسلامى إلا اجتماع بعض الطلاب على قراءة القرآن الكريم بعد الصلاة.
فى هذه الفترة كانت التيارات القومية والناصرية واليسارية هى التى تسيطر على الجامعة واتحادات الطلاب فيها، وكانت أفكار هذه التيارات خاصة اليسارية بمثابة الصدمة لى ولأمثالى من الشباب البسيط المتدين.
كانت مفاجأة لنا أن مجلات الحائط التى يعلقها اتحاد الطلاب كانت تنتقد الإسلام وتخوض فيه بجرأة ولم يكن يسلم من نقد بعضها بل وسخريته من أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم، وأذكر أننى حين كنت أقرأ هذه المجلات وما فيها من سب للإسلام كنت أشعر بالحزن وكنت أبكى، وكنت أتساءل هل هذه هى الجامعة المصرية؟!
كان هذا مما حفزنى وأمثالى من البسطاء والمتدينين على أن نرد على هذا السب بتعليق مجلات نبين فيها الحرام والحلال، وكان أن تصادمنا مع اليساريين والشيوعيين فى حوارات كنا الذين ننال الهزيمة فيها غالبا، نظرا لثقافتنا القليلة السطحية وعدم خبرتنا بالحوار والجدل النظرى، فلم تكن لدينا القدرة على الرد أمام القضايا التى كان يثيرها هؤلاء الطلاب المثقفون المدربون جيدا على مثل هذه المناقشات، كما كان طلاب الاتحاد يمزقون لنا المجلات التى كنا نعلقها وكانت حجتهم أننا لم نستأذن منهم فى تعليقها وهم الطلاب المنتخبون لإدارة النشاط.
نصيحة الشيخ الغزالى
وقد حفزنا ذلك على أن نقرأ فى القضايا التى كانوا يثيرونها مثل ادعائهم أن الإسلام غير صالح للحكم، فبدأنا نبحث عن الكتب التى تناقش هذه القضية، وكنا إذا أعيانا البحث توجهنا إلى العلماء والشيوخ نطلب منهم النصيحة وكان أقربهم إلينا الشيخ محمد الغزالى الذى كان يوجهنا وينصحنا بقراءة كتب إسلامية معينة يرى أنها تساعدنا على الرد على الشبهات التى تنال من الإسلام، وفى هذه الفترة عرفنا الطريق إلى المكتبات الإسلامية، فكنا نذهب للبحث عن الكتاب الإسلامى فى مكتبات شارع الجمهورية مثل مكتبة المتنبى ومكتبة وهبة ومكتبة التراث الإسلامى، لكن كانت دائما تصادفنا فى اقتناء هذه الكتب عقبة أوضاعنا المادية الصعبة، فغالبيتنا من أصول فقيرة أو متوسطة ليس لديها «ترف» اقتناء الكتب، فكنا نلجأ إلى التعاون والتنسيق حيث كان الثلاثة منا يشتركون معا ويشترون كتابا واحدا.
ومع الوقت بدأنا نتجه إلى تنظيم حلقات قراءة القرآن الكريم وحفظه فى مسجد الكلية، تعرفت وقتها على مجموعة من الطلبة المتدينين صاروا فيما بعد رموزا وقيادات للعمل الإسلامى فى الجامعة أذكر منهم: محمد يوسف وحسن عبدالفتاح وسناء أبو زيد وعبدالرحمن حسن... وفى هذه الفترة بدأ ينمو لدينا الاتجاه إلى تنظيم العمل بيننا.
وفى أول إجازة صيف بعد السنة الإعدادية بكلية الطب اجتمعنا معا لنتناقش فيما ينبغى أن نعمله فى العام الدراسى المقبل… وكانت أهم العقبات أننا من مدن ومحافظات مختلفة ومتباعدة، بعضنا من أقصى الصعيد وبعضنا من شمال البلاد… فتراسلنا بيننا للقاء فى القاهرة لبحث قضية العمل الإسلامى... وأذكر أننى اضطررت وقتها لأن أرسل بخطاب للأخ سناء أبو زيد وكان من مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية فى دلتا مصر لكى يلحق بنا فى ذلك الاجتماع.
وكان أول اجتماع لنا فى جمعية رعاية مرضى القلب والروماتيزم التى كان يرعاها أستاذنا الدكتور عبدالمنعم أبو الفضل الذى يمكن أن نعده ــ من دون أى مبالغة ــ من أهم من تولوا رعاية الحركة الإسلامية الوليدة، فقد كان بمثابة الأب الروحى لنا، وكانت اجتماعاتنا كلها بعلمه وبإذنه.
ولدت فى الخامس عشر من أكتوبر عام 1951 لأسرة متوسطة الحال فى حى المنيل بمنطقة مصر القديمة، كان ترتيبى الثالث بين خمسة إخوة كلهم ذكور. تفتح وعيى والمشروع الناصرى فى أوجه. كان جمال عبدالناصر بالنسبة لنا المثل الأعلى والزعيم المخلص، كان حضوره يملأ حياة الناس ويحجب غيره، وكانت صورته دائما أمام عينى وعين الأطفال والناشئة من أبناء جيلى، فقد كان رمزا لكل شىء جميل وكان رمزا للفخر والاعتزاز حتى كنّا ـ ونحن أطفال ـ إذا تفاخر علىّ أحد زملائى أرد عليه مستنكفا فأقول له : هو أنت أبوك جمال عبدالناصر؟!.
كان الناس يعشقون «ناصر» حتى كانوا يحفظون خطبه، فقد كان الرجل ـ بالفعل ـ صاحب فضل على كثير من الناس، حتى إن أبى كان يعتبر تعليمى المجانى من فضائل جمال عبدالناصر ومكارمه، وكان قد استفاد قبلها من قانون الإصلاح الزراعى، فقد كان من أسرة فقيرة من مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية وسط الدلتا ثم تحسنت أحوالها وأصبح كل واحد من أعمامى يملك خمسة أفدنة بعدما كانوا لا يملكون شيئا.
كانت لجمال عبدالناصر مكانة كبيرة لدى أسرة والدى، بل أستطيع القول إنه كان سببا فى التقريب بين عائلة أبى وأمى، فقد كانت أمى من عائلة إقطاعية كبيرة قبل الإصلاح الزراعى، ولم يكن ممكنا أن تتوطد العلاقة بين العائلتين لولا قانون الإصلاح الزراعى... وإن كانت عائلة أمى تضررت كثيرا من إصلاحات جمال عبدالناصر فأصبحت متوسطة الحال... لكن أحدا من الذين تضرروا لم يكن قط يجرؤ على الكلام فى هذا الأمر أو انتقاده.
زلزال النكسة وانهيار حلم الثورة
فى الخامس من يونيو عام 1967، كانت الحرب وكنت وقتها لا أفارق جهاز الراديو فلم يكن لدينا جهاز تلفزيون مثلنا مثل كثير من الناس رقيقى الحال، كنت لا أرفع الراديو عن أذنى، أستمع إلى صوت المذيع الشهير الثائر أحمد سعيد الذى لا يتوقف عن نقل وقائع الانتصارات الباهرة!! أو إحصاء عدد طائرات العدو التى تتساقط كل يوم بل كل ساعة وربما كل دقيقة!! وانتصار قواتنا الباسلة، بقينا أياما نعيش انتصارات وهمية، ثم إذا بنا أمام الهزيمة لنكتشف أن كل ما عشناه من انتصارات كان كاذبا وملفقا، وأننا بدل أن نحتفل بالنصر الكاسح فإننا تجرعنا علقم الهزيمة المنكرة.
ومن الإنصاف أن نقول إن جيشنا لم يهزم، فهو لم يحارب أصلا بسبب حالة الفساد والانهيار التى كان يعيش فيها بفعل القيادات السياسية والعسكرية الفاسدة حتى انتهى الأمر بهذا الوضع المؤلم.
ذقنا مع الهزيمة ــ ربما لأول مرة ــ مشاعر الذل والانكسار؛ انكسار الحلم والثورة. وأصاب الناس زلزال شديد ليس بسبب الهزيمة وإنما بسبب مشاعر العزة والقوة التى كانوا يعيشونها وبسبب حالة النشوة والطموح الكبير التى أوجدها جمال عبدالناصر ومشروعه الثورى الذى كان يسعى لتغيير وجه مصر والمنطقة بل والعالم كله، ولا ننسى سطوة الإعلام المصرى وقتها والذى نجح فى أن يجعل من «ناصر» الزعيم الملهم لكل مصر بل ولكل الأمة العربية، وكذلك إبرازه لعدد من المشروعات الكبرى التى جعلت الناس يحبونه بصدق.
وبقدر ما كان الحلم كبيرا بقدر ما كان إنكساره مؤلما وكانت «النكسة» صدمة عنيفة للناس. ولدت حالة من الرجوع إلى الله وجعلت الناس تتجه إلى ارتياد المساجد واللجوء إلى التمسك بالدين والعودة العميقة إلى الله، وفى هذه الفترة كنت أواظب على الصلاة بحكم نشأتى فى أسرة متدينة تدينا فطريا، وكنت وقتها طالبا فى المرحلة الثانوية وكنت أواظب على أدائها فى المسجد المجاور لمنزلى، وكان يتبع للجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة. أتذكر وقتها أن عدد المصلين كان قليلا، ولكنه بدأ يتزايد بعد النكسة، ربما تعبيرا عن حالة الحزن والانكسار.
عودة الدروس للمساجد
لم يكن فى هذه الفترة أثر أو إشارة إلى أى مظاهر لنشاط إسلامى سياسى، فقط كانت هناك بعض الأنشطة التقليدية مثل دروس الفقه والتفسير أو التعريف بالتراث، وكانت تخضع لرقابة صارمة. وكانت هذه النشاطات لجمعيات وأفراد ممن يهتمون بتعليم الناس العبادات ويحثونهم على التزام الأخلاق وتزكية النفس، وكان من أهمها الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، وجماعة أنصار السنة، وعدد قليل من الجمعيات الدينية لم تطلها حملة النظام الناصرى على الإسلاميين.
لم يكن أحد ـ وقتها ـ يستطيع أن يتعرض للنظام بنقد، حتى إنه لما وقعت الكارثة وهزمنا فى 5 يونيو لم يستطع أحد أن ينتقد ما حصل من هزيمة وما سبقها من خداع وتضليل، ظل ذلك حتى قام طلاب الجامعات بمظاهرات 1968 الشهيرة التى طالبوا فيها علانية بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة.
وكان من آثار الهزيمة أن بدأ النظام الناصرى فى تخفيف قبضته الأمنية الشديدة عن الناس، فبدأت الدروس الدينية فى الانتشار، وبزغ عدد من العلماء الذين نشطوا فى هذه الفترة من أواخر الستينيات واستقطبت دروسهم الجماهير. وفى مقدمة هؤلاء العلماء كان فضيلة الشيخ محمد الغزالى الذى كان خطيبا بمسجد عمرو بن العاص أقدم مسجد فى إفريقيا، ثم الشيخ سيد سابق الذى بدأ يعود للحياة العامة بقوة فى أوائل السبعينيات، وانتعشت المساجد بعد أن ارتفعت عنها القبضة الأمنية أكثر حين مات الرئيس جمال عبدالناصر فى سبتمبر عام 1970.
بداية التعرف على الإخوان
بعد انهيار الحلم الناصرى فى نفوس الجماهير حلت حالة من عدم اليقين أو الثقة فى كل ما له صلة بالنظام، وبدأنا نفكر فى أن كل من كان ضد جمال عبدالناصر كان على صواب وعلى حق. وأعتقد أن هذه كانت البداية فى التعرف على الإخوان المسلمين.
على المستوى الشخصى، كنت فى أوائل المرحلة الثانوية أثناء نكسة 1967 وكنت مثل غيرى أقرأ فى الصحف وأسمع فى الإذاعة كل ما هو سيئ عن الإخوان المسلمين، وكنا نصدق هذه الدعايات؛ فالإخوان كانوا ضد الزعيم البطل الذى نعتز به ونحبه، كما لم تكن حولى دائرة إخوانية ولم يكن أبى من الإخوان.
ولكن نكسة 1967 أحدثت تغييرا جذريا جعلتنا نقول إن هذا البطل الذى ثبت أن أحلامه ومشروعاته كانت وهما يمكن أن يكون قد خدعنا فيما قاله عن الإخوان، وكانت دعايات الإعلام الناصرى وقتها تروج أن الإخوان كانوا يدبرون لهدم القناطر الخيرية وقتل أم كلثوم... وتنسب لهم تهم بدت لنا فيما بعد مضحكة وشديدة البهتان... فلماذا يهدم الإخوان القناطر الخيرية؟ وما الفائدة التى يمكن أن يحصلوها من قتل أم كلثوم التى كانت تحظى بشعبية هائلة ومحبة بين الشعب المصرى؟!
لقد تراجعت قدرة الدعاية الناصرية بعد نكسة 1967 بشكل كبير فبدأ الناس يعيدون التفكير ويراجعون الكثير مما كان شائعا، وقد ساعد على تلك المراجعات حالة العودة إلى الدين ورفع الدولة يدها عن المساجد، وبدأت تتغير الصورة عن الإخوان وصارت قناعة تترسخ يوما بعد يوم أن ما كان يقال فى حق الإخوان هو محض كذب وافتراء وأنهم أناس شرفاء لهم أغراض نبيلة دفعوا ثمنا باهظا بسبب خلافهم مع جمال عبدالناصر... وبدأت صورة جديدة تنتشر عن الإخوان لم يكن يمكن التفكير فيها قبل نكسة 1967.
أتذكر أن شيئا من هذا حدث على مستوى المسجد الذى كنت أصلى فيه فى جمعية أنصار السنة بعابدين، فقد تغيرت نظرتنا للإخوان إلى الأفضل. كان البعض ممن يعرفون الإخوان أو سبق لهم التأثر بهم أو حتى كانوا إخوانا أفلتوا من قبضة النظام ولم يعتقلوا ــ كانوا قد بدأوا يتحدثون ويعلون صوتهم يوما فيوم فتراجعت الصورة السلبية التى حاول النظام الناصرى غرسها فى نفوس الشباب نحوهم.
دور الجمعية الشرعية
كان الشيخ البحيرى شيخ مشايخ الجمعية الشرعية أبرز من أسهموا فى تغيير صورة الإخوان إلى الأفضل فى هذه الفترة على الأقل فيما يتصل بالمحيط الذى كنت أنتمى إليه وأتحرك فيه... لقد بدأ الرجل يدافع عن الإخوان ويقول عنهم إنهم أناس طيبون أرادوا بناء مصر وأرادوا الخير لشعبها لكنهم اصطدموا بجمال عبدالناصر.
تغيرت صورة الإخوان فى خيالى على نحو انقلابى، وصاروا نموذجا للتضحية والفداء من أجل الوطن، ولكن صورة الإخوان كأصحاب مشروع للنهضة تأخرت إلى ما بعد دخولى الجامعة فى بداية 1971 حين أصبحت مهموما بالوطن، والطريف أننى دخلت إلى الإخوان المسلمين عبر البوابة الوطنية، وقد كان أول من تعرفت عليه من الإخوان رجل صوفى (أستاذى الدكتور عبدالمنعم أبو الفضل)، ورغم تلمذتى عليه فلم يكن تكوينه الصوفى متفقا مع تكوينى، كان ــ رحمه الله ــ إخوانيا متصوفا ولكننى قبلت إخوانيته ورفضت صوفيته.
نشأت نشأة بسيطة فى عائلة متواضعة كان لها دور فى مواجهة الإقطاع بقرية قصر بغداد فى مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية، كان الإقطاع فى قريتنا ممثلا فى شخص اسمه أبو الفتوح فودة وكان أحد كبار الإقطاعيين الذين يثيرون الرعب فى قلوب الفلاحين، وكان يركب «الحنطور» ويسير فى القرية فلا يجرؤ أحد على الظهور حتى يمر موكبه، ولكن كان لى عم جرىء وشجاع ــ أصغر إخوته ــ يرفض أن يجرى كما يجرى الآخرون ولا يختبئ كما يختبئون، وكان دائم التعبير عن سخطه على هذا الإقطاعى ورفضه لظلمه، وكثيرا ما كانت تحدث احتكاكات بينه وبين هذا الرجل صاحب الجاه والسلطان على الرغم من كون عمى رجلا بسيطا ليس لديه الجاه... من هذا ربما ورثت كراهية الظلم والجبروت والاستعلاء على الناس.
وأذكر أننى تأثرت بعمى هذا كثيرا فى طفولتى، وقد تعلمت منه ألا أخاف من سطوة الكبار ولا أتردد فى مواجهتهم، ورغم أننى كنت ممن خرجوا فى المظاهرات بعد النكسة وخطاب التنحى يطالبون الزعيم جمال عبدالناصر بالبقاء إلى حد أننى بكيت خوفا من ذهابه، إلا أننى سرعان ما صرت غاضبا منه حانقا عليه بمجرد أن اكتشفت الوهم الكبير الذى كنا نعيش فيه، وفى أول زيارة لى إلى قريتنا كنت أصلى الجمعة فما إن وقع بصرى على صورة للزعيم ناصر معلقة بالمسجد حتى انتفضت غاضبا ورفعتها رغما عن معارضة أهالى القرية وكبارها الذين هالهم أن أتجرأ على جمال عبدالناصر.
صراع ناصر والإخوان سياسيًا
ورغم أن نظرتى تغيرت تماما عن جمال عبدالناصر فلم تصل يوما إلى تكفيره، فقد كنت أرى أنه من الصعب أن نقول إن جمال عبدالناصر كان ضد الإسلام أو عدوا له كما كتب البعض، ومازلت أرى أن الصراع بينه وبين الإخوان كان صراعا سياسيا فى الأساس بدليل أنه استعان بالعديد من رجالهم فى بداية الثورة كوزراء مثل الشيخ الباقورى والدكتور عبدالعزيز كامل... أما ما قيل عن عدم التزامه الدينى فيبقى كلاما غير موثق.
وحتى بعد وفاة جمال عبدالناصر وفى النصف الثانى من السبعينيات لم أكن أتابع ما تنشره المجلات والصحف التى فتحت ملف كراهية عبدالناصر للإسلام وما كان يحدث فى المعتقلات من تعذيب، كنت لا أحب ذلك رغم قناعتى بأنه ظلم الإخوان ورغم تقديرى لمعاناة الإخوان وما لاقوه من عنت واضطهاد وتفهمى لمشاعرهم تجاه الرجل... وكنت أرى أنه من الطبيعى أن أسمع قول أحد أساتذة الجامعة الإخوان بعد خروجه من المعتقل: لو تمكنت من عبدالناصر لمزقته بأسنانى!... بل وأعذر هذا الفصيل الذى خرج على الأستاذ حسن الهضيبى فى عام 1965 وكفّر جمال عبدالناصر وجعله خارجا على الإسلام.
لم يكن لأسرتى نشاط سياسى ومن ثم لم يقع عليها ظلم سياسى كالذى عاناه الإخوان، لكنهاــ أسرتى ــ عانت نوعا من الظلم الاجتماعى والطبقى وتصدت له، وكان أبى ــ رحمه الله ــ يعمل فى وظيفة فنى أسنان بالقاهرة، وكان يحمل لى محبة خاصة ويحمل أيضا خوفا دائما علىّ، وإن لم يصل إلى حد منعى من العمل السياسى، كان خوف أبى علىّ خوفا طبيعيا فى جزء منه مثل خوف كل أب على ابنه، ولكن جزءا منه كان خاصا بى وأكثر من خوفه على بقية إخوتى، ويرجع هذا إلى ما حدث لى وأنا صغير فى سن الثالثة أو الرابعة من إغماء ظن معه والدى ووالدتى أننى قد مت فبدآ فى تجهيزى للدفن ولكننى أفقت فجأة من حالة الإغماء... فظل أبى يخاف علىّ وكان من فرط خوفه أنه لا يعاقبنى مثلما قد يفعل مع بقية إخوتى حتى ولو كنا شركاء فى الخطأ.
وكانت علاقتى مع أبى نموذجية فهو يهتم بى ويحيطنى بعنايته ولكن دون أن يتدخل فى تفصيلات حياتى بما يلغى شخصيتى أو يضيق على. لذا نشأت بيننا علاقة متميزة؛ فكان ــ مثلا ــ شديد الاهتمام بقضية المذاكرة والتفوق فى الدراسة وأنا من ناحيتى لم أشعره يوما بتقصيرى فى ذلك، فظللت محافظا على تفوقى فى كل سنوات الدراسة (كنت أحصل على تقدير جيد جدا) مهما كان انشغالى بالعمل العام، وقد ساعد على ذلك عدم وجود اعتقالات فى السبعينيات ولا مضايقات أمنية مقارنة بما كان يحدث فى الستينيات.
النشاط الإسلامى فى الجامعة
فى العام نفسه الذى مات فيه ناصر ــ عام 1970 ــ كان التحاقى بالجامعة، كنت قد حصلت على مجموع كبير فى الشهادة الثانوية، وكانت رغبة والدى أن أصبح طبيبا فالتحقت بكلية طب قصر العينى بجامعة القاهرة، وأتذكر وقتها أنها كانت تخلو من أى نشاط إسلامى.
كنا نتلقى محاضراتنا فى السنة الإعدادية فى كلية العلوم، وكان الطلاب لا يرتادون مسجد الكلية، وأذكر أننى كنت أصلى مع زميل لى من المنيا اسمه عبدالشافى صاوى على حصيرة متهالكة، فكنت أؤذن للصلاة وكان هو الذى يؤمنى فيها لأنه كان أحفظ منى للقرآن الكريم، وكان دائما يتساءل: لماذا لا يأتى أحد للصلاة معنا؟!. ولكننا حين انتقلنا إلى كلية الطب فى السنة الأولى صار مسجد الكلية (مسجد الشافعى) يمتلئ بالطلاب، وتلقى فيه كلمة بعد صلاة الظهر، ولكن رغم ذلك لم يكن هناك أى نشاط إسلامى إلا اجتماع بعض الطلاب على قراءة القرآن الكريم بعد الصلاة.
فى هذه الفترة كانت التيارات القومية والناصرية واليسارية هى التى تسيطر على الجامعة واتحادات الطلاب فيها، وكانت أفكار هذه التيارات خاصة اليسارية بمثابة الصدمة لى ولأمثالى من الشباب البسيط المتدين.
كانت مفاجأة لنا أن مجلات الحائط التى يعلقها اتحاد الطلاب كانت تنتقد الإسلام وتخوض فيه بجرأة ولم يكن يسلم من نقد بعضها بل وسخريته من أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم، وأذكر أننى حين كنت أقرأ هذه المجلات وما فيها من سب للإسلام كنت أشعر بالحزن وكنت أبكى، وكنت أتساءل هل هذه هى الجامعة المصرية؟!
كان هذا مما حفزنى وأمثالى من البسطاء والمتدينين على أن نرد على هذا السب بتعليق مجلات نبين فيها الحرام والحلال، وكان أن تصادمنا مع اليساريين والشيوعيين فى حوارات كنا الذين ننال الهزيمة فيها غالبا، نظرا لثقافتنا القليلة السطحية وعدم خبرتنا بالحوار والجدل النظرى، فلم تكن لدينا القدرة على الرد أمام القضايا التى كان يثيرها هؤلاء الطلاب المثقفون المدربون جيدا على مثل هذه المناقشات، كما كان طلاب الاتحاد يمزقون لنا المجلات التى كنا نعلقها وكانت حجتهم أننا لم نستأذن منهم فى تعليقها وهم الطلاب المنتخبون لإدارة النشاط.
نصيحة الشيخ الغزالى
وقد حفزنا ذلك على أن نقرأ فى القضايا التى كانوا يثيرونها مثل ادعائهم أن الإسلام غير صالح للحكم، فبدأنا نبحث عن الكتب التى تناقش هذه القضية، وكنا إذا أعيانا البحث توجهنا إلى العلماء والشيوخ نطلب منهم النصيحة وكان أقربهم إلينا الشيخ محمد الغزالى الذى كان يوجهنا وينصحنا بقراءة كتب إسلامية معينة يرى أنها تساعدنا على الرد على الشبهات التى تنال من الإسلام، وفى هذه الفترة عرفنا الطريق إلى المكتبات الإسلامية، فكنا نذهب للبحث عن الكتاب الإسلامى فى مكتبات شارع الجمهورية مثل مكتبة المتنبى ومكتبة وهبة ومكتبة التراث الإسلامى، لكن كانت دائما تصادفنا فى اقتناء هذه الكتب عقبة أوضاعنا المادية الصعبة، فغالبيتنا من أصول فقيرة أو متوسطة ليس لديها «ترف» اقتناء الكتب، فكنا نلجأ إلى التعاون والتنسيق حيث كان الثلاثة منا يشتركون معا ويشترون كتابا واحدا.
ومع الوقت بدأنا نتجه إلى تنظيم حلقات قراءة القرآن الكريم وحفظه فى مسجد الكلية، تعرفت وقتها على مجموعة من الطلبة المتدينين صاروا فيما بعد رموزا وقيادات للعمل الإسلامى فى الجامعة أذكر منهم: محمد يوسف وحسن عبدالفتاح وسناء أبو زيد وعبدالرحمن حسن... وفى هذه الفترة بدأ ينمو لدينا الاتجاه إلى تنظيم العمل بيننا.
وفى أول إجازة صيف بعد السنة الإعدادية بكلية الطب اجتمعنا معا لنتناقش فيما ينبغى أن نعمله فى العام الدراسى المقبل… وكانت أهم العقبات أننا من مدن ومحافظات مختلفة ومتباعدة، بعضنا من أقصى الصعيد وبعضنا من شمال البلاد… فتراسلنا بيننا للقاء فى القاهرة لبحث قضية العمل الإسلامى... وأذكر أننى اضطررت وقتها لأن أرسل بخطاب للأخ سناء أبو زيد وكان من مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية فى دلتا مصر لكى يلحق بنا فى ذلك الاجتماع.
وكان أول اجتماع لنا فى جمعية رعاية مرضى القلب والروماتيزم التى كان يرعاها أستاذنا الدكتور عبدالمنعم أبو الفضل الذى يمكن أن نعده ــ من دون أى مبالغة ــ من أهم من تولوا رعاية الحركة الإسلامية الوليدة، فقد كان بمثابة الأب الروحى لنا، وكانت اجتماعاتنا كلها بعلمه وبإذنه.
الحلقة الثانية
على مفترق طرق إسلامية
التقينا في إجازة الصيف الأول لنا بالجامعة لننسق لعملنا في العام المقبل، وحين بدأنا العام الجديد كنا أفضل حالا من سابقه، ولكن ظل النشاط بسيطا لبساطة خبرتنا وإمكاناتنا... كان أبرز نشاطنا إقامة حلقات تلاوة القرآن الكريم، وكتابة بعض التوجيهات الدينية ونشرها في مجلات الحائط، ثم تطورنا فطبعنا أوراقًا بها أحاديث نبوية أو توجيهات ونصائح وكنا نوزعها على الطلاب، ثم تطورنا أكثر فصرنا نكتب الأحاديث النبوية على سبورات المدرجات ثم بدأنا نكتب بعض الحكم السياسية التي كانت تشير إلى ظلم الحاكم ومسؤوليته بين يدي الله... أو نسرد بعضا من المواقف للسلف فيها إسقاط على الحكام وخاصة من مواقف سيدنا عمر بن الخطاب الذي كان في وعينا ومازال رمزا للحاكم العادل... ثم تفاعلا مع أجواء حرب الاستنزاف التي كانت تعيشها البلاد بدأنا ندعو في خطابنا للصمود أمام الصهاينة وتحرير فلسطين.
كنا دائما ما نصطدم في نشاطنا هذا باتحاد الطلاب وقيادته المنتخبة التي كانت ترفض هذا الشكل البسيط من أشكال النشاط الديني في الجامعة وكانت تريد احتكار النشاط الطلابي... وقد سعينا وقتها إلى الالتزام بالشكل القانوني فصرنا نعمل تحت لافتة (لجنة التوعية الدينية) التي أسسها أستاذنا الدكتور عبد المنعم أبو الفضل وكانت تابعة للجنة الثقافية في الاتحاد.
وأذكر أننا كنا إذا طلبنا من طلاب الاتحاد بعض الأوراق لكتابة الأحاديث والتوجيهات الدينية كانوا يرفضون أي طلب لنا متحصنين بسلطتهم... فكنا ندفع من جيوبنا قروشا قليلة ولكنها كانت "تُضلعنا" وتجهدنا ماديا لأننا كنا فقراء أو ضعيفي الحال ولا نتحمل ذلك "العبء" المالي رغم قلته، كان أفضلنا حالا يأتي للجامعة – في بعض الأحيان- سيرا على الأقدام توفيرا لـ (تعريفة) أجرة الأوتوبيس... ولم يكن لدى أي منا سيارة أو حتى دراجة.
لم يكن لدى أي منا وقتها تصور معين أو رؤية دينية محددة... كنت – وكل مجموعتنا تقريبا – من المتدينين بالفطرة وبحكم النشأة الاجتماعية المتدينة... نزعتي للتدين كانت تأثرا بوالدي – رحمه الله - الذي كان متدينا بفطرته، وكذلك أمي التي كانت مثل أمهاتنا جميعا بسيطة أمية لا تقرأ ولا تكتب لكنها متدينة بفطرتها، وعنهما ورثت التدين الفطري كالتزام الحلال واجتناب الحرام والمحافظة على الصلاة والعبادات والتمسك بالعادات والقيم الطيبة.
كما أنني مدين في تديني للجمعية الشرعية التي نشأت في أحد مساجدها المجاورة لبيتنا... فقد كان المنتمون للجمعية الشرعية يحسنون تربية الناس على الأخلاق الطيبة والمحافظة على العبادات، وكذلك جماعة أنصار السنة التي كنت أذهب إليها دائما مع والدي وأواظب معه علي حضور الدروس الدينية التي يلقيها الشيخ حامد الفقي في مسجد الهدّارة بحي عابدين... وكان والدي عضوا بجماعة أنصار السنة وكان حريصا على دفع اشتراكها شهريا... كان رحمه الله يحب المواظبة على هذه الدروس وذكر لي أنه كان يحضر دروس الإخوان ولكنه لم يعجب بهم!!
في هذه الفترة كان ذكر كلمة الإخوان محظورًا، فقد نجح الإعلام في أن يصورها للناس على أنها جماعة دينية لها أغراض سياسية للسيطرة على الحكم وأن وسائلهم في ذلك هي العنف والقتل، وكان والدي مقتنعا بذلك وكان يردد هذا الكلام على مسامعي وأنا صغير... ولم يكن للناس في ذلك الوقت أي مصدر للمعلومات غير الدولة وإعلامها، وكان لجمال عبد الناصر كاريزما تجعلهم يصدقون كل ما يقوله بحق خصومه وفي مقدمتهم الإخوان.
أول لقاء بالإخوان المسلمين
كان من تداعيات موت الرئيس جمال عبد الناصر وتولي الرئيس أنور السادات السلطة أن سمح للمرضى من معتقلي الإخوان بالانتقال للعلاج خارج السجن، فجيء بهم للعلاج في المعتقل السياسي في كلية طب قصر العيني (مستشفى المنيل الجامعي) ولم يكن يسمح بذلك من قبل إلا للسياسيين من غير الإخوان المسلمين.
كان يسمح لنا بالدخول مع الأطباء للمنيل الجامعي باعتبارنا طلابا في كلية الطب، فكنا نرى بعضا من المعتقلين السياسيين مثل الصحفي الشهير مصطفى أمين مؤسس أخبار اليوم الذي كان مسجونا بعد اتهام النظام الناصري له بالتجسس لأمريكا، لكننا لم نقابل مساجين الإخوان ومعتقليهم إلا لاحقا، فقد كان الإخوان يعاملون أسوأ معاملة في السجون، ومن كان يمرض منهم يترك في السجن إلى أن يموت. ومع تولي السادات للسلطة تحسنت أوضاع الإخوان وبدأ السماح لهم بالعلاج، وكان ذلك ما بين عامي 1971 و 1972 على ما أتذكر، وكان من أوائل من رأيتهم من الإخوان الذين يعالجون الأستاذ فتحي رفاعي الذي اقتربت منه كثيرا في فترة علاجه وكذلك الأستاذ عمر التلمساني الذي ظل شهرًا تقريبًا في المستشفى.
كان بالنسبة إلي حلما أن التقي شيوخ الإخوان الذين كنا نسمع عنهم قصصا تثير الرعب والخوف، وحين رأيناهم وتحدثنا معهم وجدناهم أناسا آخرين غير الذين سمعنا عنهم من إعلام العهد الناصري. وجدنا مجاهدين ضحوا بأنفسهم من أجل دعوتهم ورفضوا المساومة عليها حتى لو كان مصيرهم السجن والتعذيب بل والقتل... وكانت سعادة ما بعدها سعادة لقاء هؤلاء والحديث معهم والاستماع إليهم، وقد سعينا للاقتراب منهم والتعرف عليهم.
وفي إحدى زياراتنا له استطاع الأستاذ فتحي رفاعي أن يسرب إلينا رسالة التعاليم وفيها الجزء الخاص بواجبات الأخ العامل، وكان قد أعاد صياغة ذلك الجزء تحت عنوان" واجبات الأخ المسلم" وحذف منه كل ما يشير إلى التنظيم، وكتبها بخط اليد. كان هذا أول لقاء لي وربما لجيلي مع كتابات الإمام الشهيد حسن البنا، فأخذنا نتداولها بيننا على أنها إحدى كتابات الأستاذ البنا وكنا سعداء ونحن نقرأ تلك المعاني العظيمة، ثم طبعناها بنفس العنوان الجديد لها، ووزعناها على الطلاب في الكلية، وكان لها تأثير كبير.
في هذا الوقت كان ذكر الإخوان محظورا، وكانت كتبهم كذلك محظورة. وكانت الكتب المنتشرة في ذلك الوقت هي كتب أنصار السنة والجمعية الشرعية، وكتب أبي الأعلى المودودي وكانت من الكتب التي أثرت فينا سياسيًا وفكريًا، والتي رأينا فيها المفهوم الشامل للإسلام ولكن بالشكل المتشدد، كما كانت هناك أيضًا كتب الاتجاه السلفي التي كانت منتشرة بغزارة، وكانت توزع علينا مجانًا في الجامعة، وكنا نسعد بها لأنها كتب دينية ولكننا لم نكن نعلم ما وراءها من الفكر المتشدد، وكانت هناك –أيضًا- كتب الأزهر الشريف، وكان من أشهر الكتب وقتها " فقه السنة" الذي كان مسموحًا به في ذلك الوقت مثله مثل كتب العبادات والأخلاق والفقه.
الدخول في الاتحادات الطلابية
كان عملنا في السنتين الأوليين تحت اسم (لجنة التوعية الدينية)التي أسسها أستاذنا الدكتور عبد المنعم أبو الفضل لكننا اصطدمنا بكون هذه اللجنة تخضع لسيطرة اتحاد الطلاب ومن ثم تضييق مسؤوليه من المنتمين للتيار اليساري، فقررنا أن نستقل باللجنة ونطلق عليها اسم "الجمعية الدينية" رغم أنف الاتحاد واصطدمنا بهم بسبب ذلك، في الوقت الذي كانت القبضة الأمنية قد بدأت تخف كثيرًا.
كنا قد بدأنا ننتشر بين الطلاب أكثر فأكثر رغم معارضة الاتحاد والقوى اليسارية لنا، وكان أن ترتب على ذلك أننا صرنا نشتبك معهم فكريا وثقافيا، بل وكثيرا ما كنا نتبادل الضرب بالأيدي داخل الكلية حين تحتد المناقشات ويبدأ أحدهم في سب الإسلام أو السخرية من تعاليمه.
لم يكن الدخول في الاتحاد جزءا من همّنا في هذه الفترة، كان هدفنا الواضح والوحيد هو الوصول بدعوتنا للطلاب، وهو ما كان اتحاد الطلاب يسعى للحيلولة دونه، لذلك قررنا في عام 1973 - لأول مرة -خوض الانتخابات الطلابية ردا على الموقف المتعنت. وكان أول اتحاد قررنا دخوله اتحاد كلية طب قصر العيني باعتبارها معقل ومركز العمل الإسلامي وقتها، فترشحنا لجميع لجان الاتحاد الست!
كانت حركتنا قد اتسعت وصارت محل جذب للطلاب والطالبات، وكان الإقبال علينا واسعا بما يطمئننا على الفوز بالانتخابات، لكن كانت هناك عقبة كبيرة أمامنا تتمثل في صعوبة خوض الانتخابات في اللجنة الفنية، إذ لم تكن لدينا أي علاقة بالفن، إلا علاقة الرفض باعتباره رجسًا من عمل الشيطان!!
لم يكن لنا أي تصور عن الفن يسمح لنا بخوض انتخابات من أجل السيطرة على اللجنة التي تديره وتوجهه… ولكننا فعلناها وقررنا خوض الانتخابات في هذه اللجنة… فقط لوقف ذلك الفساد الذي كان يعني الفن نفسه!!.
الطريف أننا رشحنا لتلك اللجنة الأخ حسن عبد ربه، وكان أخا ريفيًا بسيطًا لم يسبق له الخروج من قريته والنزول إلى القاهرة إلا عندما التحق بكلية الطب! في حين ترشح أمامه عدد من الشباب اليساري والناصري كانت لهم علاقة وثيقة بالفن هواية وممارسة. وحتى يوقعونا في الحرج جاءنا أحدهم وسألنا أمام تجمع من الطلاب: أين مرشحكم في اللجنة الفنية حتى أناقشه؟ وما برنامجه في اللجنة؟. كان حسن عبد ربه وقتها يقف خلفي مباشرة، ولما كنت واثقا أنه لا يعرف في الفن شيئا، وأنه لن يصمد أمامه لحظة واحدة، فقد قلت له: اذهب وابحث عنه!.
كان الفن أبرز نقاط ضعفنا ومن ثم كانت نقطة الضعف الكبرى في هذه الانتخابات ولزمن طويل بعدها هي اللجنة الفنية، ورغم ذلك استطعنا أن نفوز فيها وفي أربع لجان أخرى من اللجان الست، ولم نخسر إلا في لجنة الجوالة التي فاز فيها طلاب آخرون لم يكن لهم اتجاه فكري محدد ولكنهم كانوا مهذبين وغير معادين لنا، ومن ثم أصبحت قيادة الاتحاد معنا.
وحين فزنا باللجنة الفنية في الاتحاد لم يكن لدينا أي رؤية عن الفن سوى أنه حرام ومن ثم لم يكن لدينا أي تصور عن إدارة هذه اللجنة سوى إيقاف عملها تقربا إلى الله! ولا أتذكر لها نشاطا يذكر لسنوات حتى بدأنا من خلال الجماعة الإسلامية نتبنى مفهوم الفن الهادف والفن الإسلامي الذي بدأ وقتها بالأناشيد الثورية والجهادية وكان عام 1973 أول عام ندخل فيه الاتحادات الطلابية لنفوز بمجالسها في كلية طب القصر العيني التي أصبح أول رئيس لاتحاد طلابها من الجماعة الإسلامية ومنها انطلقنا إلى بقية جامعات مصر.
من قصر العيني إلى جامعات مصر
كان الفوز بمجلس اتحاد كلية طب القصر العيني عام 1973 بداية قوية أعطتنا دفعة هائلة للعمل داخل جامعة القاهرة ومنها للجامعات الأخرى، في السنوات التي تلتها، فقد تحول مبنى اتحاد كلية طب قصر العيني (وكان مبنى ضخمًا وله ساحاته وملاعبه الخاصة) إلى المركز العام للنشاط الإسلامي لجامعات مصر كلها، حيث كان يأتيه الطلاب المتدينون من كل مكان في الجمهورية، فصارت كلية طب قصر العيني بحق هي الرائدة في العمل الإسلامي في الجامعة، وقد جاء ذلك كله بفضل الله وحده في صورة تلقائية قبل أن يصبح عملا منظما.
وكان معنا في نفس الدفعة سناء أبو زيد رحمه الله وكان قارئًا مثقفًا وظل حتى وفاته عام 2008 من خيرة الإخوان علما وعملا، ومحمد يوسف (يعمل أستاذا للباطنة في السعودية) وكانت دفعتنا هي التي بدأت النشاط الإسلامي الفعلي، ولكن كانت هناك بدايات لهذا التوجه موجودة قبلنا كان من رموزها عبد الرحمن حسن (ويعمل طبيبا في التأمين الصحي وأظن أن علاقته انقطعت بالعمل الإسلامي)، وأحمد اللبان (أستاذ جراحة).
ثم جاءت الدفعة التي تلينا وكانت متميزة ونشيطة ومن أبرز رموزها عصام العريان ومحمد عبد اللطيف، وكانا أبرز اثنين في الدفعة. وكان معهما محمد يوسف وهشام الصولي... ثم توالت الدفعات حتى كانت مجموعة أقوى وهي دفعة عام 1979 التي كان أشهر رموزها حلمي الجزار ومجموعته ومن أبرز أعضائها محمد مسعد وعبد الناصر صقر وأحمد سليم وإبراهيم مصطفى...وغيرهم.
لقد كانت هذه الفترة من أكثر فترات الحركة الطلابية في مصر نشاطا... وهي التي أخرجت معظم رموز العمل السياسي والنشاط العام في مصر... ولا أعني الرموز الإسلامية فقط بل أذكر أيضا أن من رموز التيارات الأخرى غير الإسلامية في جيلي... ففي العام التالي لهذه الانتخابات (عام 1974) كانت قد تبلورت في الحركة الطلابية في مصر ثلاثة تيارات أساسية، غير الطلاب التابعين للنظام، وكانت التيارات الرئيسية هي:
التيار الناصري وكان يمثله نادي الفكر الناصري.
وتيار الفكر الاشتراكي ويمثلهم اليساريون والشيوعيون وكان يمثله نادي الفكر الاشتراكي.
التيار الإسلامي والذي تحول اسمه إلى الجماعة الإسلامية سنة 1973.
كان من أشهر الطلاب اليساريين عادل فتحي وأشرف صادق وعايدة سيف الدولة بنت الأستاذ عصمت سيف الدولة المفكر القومي المعروف، وكان بعضهم يتطاول على الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم ويصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي.
كما ظهر من التيار الناصري حمدين صباحي الصحفي والنائب البرلماني ووكيل مؤسسي حزب الكرامة حاليا, الذي كان رئيسا لاتحاد كلية الإعلام ثم اتحاد الجامعة، وسامح عاشور نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب الذي كان رئيس اتحاد الحقوق سنة 1974، وكان قريبا من هذا التيار زياد عودة الذي كان رئيسا لاتحاد كلية الآداب بجامعة القاهرة وهو ابن الشهيد عبد القادر عودة القطب الاخواني... وأتذكر أيضا من طلاب التيار الوطني القريب من الدولة عدلي الملط رئيس اتحاد كلية العلوم.
في هذه الفترة التي بدأ فيها العمل الإسلامي بالظهور داخل الجامعة كانت البلاد على عتبات الحرب، وكانت قضية الحرب هي المسيطرة على وعي الطلاب واهتماماتهم... وقد كنا كطلاب إسلاميين نعيش هذه القضية كبقية الطلاب فنتكلم بين الطلاب عن ضرورة الثأر والانتقام من إسرائيل وتحرير الأرض... وكنا نصدر نشرات وبيانات عن المعركة الفاصلة بيننا وبين اليهود... وأذكر أننا كنا نشارك في التظاهرات التي تجتاح الجامعة وقتها... وأذكر أنني حضرت بعضا من مظاهرات الطلاب التي كان يقودها القائد الطلابي اليساري أحمد عبد الله رزة والذي كان يكبرني بعامين؛ خاصة المؤتمر الذي عقد في القاعة الرئيسية للجامعة... ولما بدأت الحرب بدأنا – خاصة في كلية الطب- في نشاط التبرع بالدم للجرحى.
لكن مما يسجل في هذه الفترة أن التيار اليساري كان هو المسيطر على الجامعة وقتها فيما كنا كطلاب إسلاميين- خاصة في عامي 1970 و 1971- مازلنا نخطو خطواتنا الأولى في العمل الطلابي لذلك كان الصوت اليساري في هذه الفترة هو الأعلى... لذلك لم تجمعنا معهم فعاليات مشتركة خاصة مع حالة العداء الفكري بيننا وحالة التنابذ والصراع... كما أن كثيرا من فعالياتهم من أجل الحرب كانت تخرج عن أهدافها المعلنة لتصب في حالة المواجهة بينهم وبين النظام في قضايا لا صلة لها بالحرب.
كان دخولنا اتحاد الطلاب فرصة لزيادة نشاطنا في الجامعة، فازداد عدد الندوات حتى وصل إلى ندوة أسبوعيًا، كما كان له أثر كبير في الخدمات التي كنا نقدمها للطلاب، حيث تضاعفت قدرتنا على تقديم الخدمات نظرًا للميزانية الكبيرة لاتحاد الجامعة، وقد يسرت لنا تلك الميزانية أن ننشر زي الحجاب بين الطالبات وذلك ببيعه لهن، كما سمحت لنا بإصدار وطبع سلسلة كتيبات "صوت الحق" التي كانت منبرا لنشر أهم الأدبيات الإسلامية التي شكلت وعينا، وصدر منها "رسالة المؤتمر الخامس" للإمام الشهيد حسن البنا، "المصطلحات الأربعة" و"نظرية الإسلام السياسية" لأبي الأعلى المودودي، و"هذا الدين" و"المستقبل لهذا الدين" للشهيد سيد قطب وكذلك فصولا من كتبه أو بعض رسائله مثل "لا إله إلا الله منهج حياة"، و"الطريق إلى الله" للشيخ محمد متولي الشعراوي، و"تفسير سورة الفاتحة" للإمام ابن القيم، و"حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" للشيخ ناصر الدين الألباني.
وكان الأخ محمود غزلان الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق وعضو مكتب الارشاد الآن صاحب دور كبير في إصدار السلسلة سواء في اختيار الموضوعات أو صياغتها وتلخيصها في بعض الأحيان.
وقد كنت أعرف الأخ محمود غزلان قبل التحاقنا بالجامعة من مسجد الجمعية الشرعية الذي كنت أصلي فيه في منطقة الملك الصالح بمصر القديمة، وكان بيننا ارتباط صداقة ومحبة كبيرة، وقد كان يميل للقراءة والثقافة أكثر من الحركة، لذلك لم يكن نشيطًا حركيًا في كلية الزراعة حين كان طالبًا فيها، والتي كان المسؤول فيها الأخ يونس فهمي.
كما كان لدخولنا في اتحاد الطلاب أكبر الأثر في التوسع في إقامة المخيمات الطلابية في الصيف والشتاء، وقد كان لهذه المخيمات أكبر دور في الحشد والتربية للأفراد، وكان يصل العدد للآلاف حيث كانت كل مباني المدينة الجامعية تمتلئ عن آخرها بالطلاب لمدة أسبوعين كاملين صيفًا.
وكانت المخيمات الطلابية فرصة كبيرة لنشر دعوتنا بين الطلاب لوجود عدد من الكبار والمؤثرين الحريصين على الحضور معنا مثل الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوى الذين كان لهم دور توجيهي تثقيفي كبير، فضلا عن قيام الليل والمحافظة على الصلوات الخمس والأذكار، والنشاط الرياضي وتعلم النظام والانضباط ، فكانت هذه المخيمات محضنًا تربويًا كبيرًا للطلاب في ذلك الوقت وفي أغلب الأحوال كنا نقيم المخيمات الجامعية في المدينة الجامعية المخصصة لسكن الطلاب.
وأذكر أن الدكتور أحمد كمال أبو المجد – وكان وقتها وزيرا للشباب والإعلام- حضر معنا أول مخيم جامعي يقام على مستوى جامعة القاهرة كلها، كان ذلك عام 1973، وقد تكرر هذا في العام التالي فأقمنا المخيم عام 1974 في المدينة الجامعية بعدما زاد عددنا وتضخم، وحضر المخيم من العلماء الشيخ محمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي… وبعد ذلك صارت كل كلية تقيم مخيمًا صيفيًا إسلاميًا.
وقد كانت المخيمات ميدانا لصنع القيادات الطلابية الإسلامية بطريقة عفوية وطبيعية، وكنت شخصيًا لا أشعر بأي عقبة في إدارة تلك المخيمات والتجمعات على الرغم من أنها كانت تجمع خليطا من الأفكار والاتجاهات الإسلامية، وقد كانت مسألة الطاعة شبه العمياء للأمير تسيطر على الجميع فتساعد القائد في إدارة المخيم من دون صعوبات كبيرة، هذا كله مع نضوج مسألة الشورى بيننا تدريجيا حيث كانت المناقشات تدور بيننا في جو من الاحترام والود.
التقينا في إجازة الصيف الأول لنا بالجامعة لننسق لعملنا في العام المقبل، وحين بدأنا العام الجديد كنا أفضل حالا من سابقه، ولكن ظل النشاط بسيطا لبساطة خبرتنا وإمكاناتنا... كان أبرز نشاطنا إقامة حلقات تلاوة القرآن الكريم، وكتابة بعض التوجيهات الدينية ونشرها في مجلات الحائط، ثم تطورنا فطبعنا أوراقًا بها أحاديث نبوية أو توجيهات ونصائح وكنا نوزعها على الطلاب، ثم تطورنا أكثر فصرنا نكتب الأحاديث النبوية على سبورات المدرجات ثم بدأنا نكتب بعض الحكم السياسية التي كانت تشير إلى ظلم الحاكم ومسؤوليته بين يدي الله... أو نسرد بعضا من المواقف للسلف فيها إسقاط على الحكام وخاصة من مواقف سيدنا عمر بن الخطاب الذي كان في وعينا ومازال رمزا للحاكم العادل... ثم تفاعلا مع أجواء حرب الاستنزاف التي كانت تعيشها البلاد بدأنا ندعو في خطابنا للصمود أمام الصهاينة وتحرير فلسطين.
كنا دائما ما نصطدم في نشاطنا هذا باتحاد الطلاب وقيادته المنتخبة التي كانت ترفض هذا الشكل البسيط من أشكال النشاط الديني في الجامعة وكانت تريد احتكار النشاط الطلابي... وقد سعينا وقتها إلى الالتزام بالشكل القانوني فصرنا نعمل تحت لافتة (لجنة التوعية الدينية) التي أسسها أستاذنا الدكتور عبد المنعم أبو الفضل وكانت تابعة للجنة الثقافية في الاتحاد.
وأذكر أننا كنا إذا طلبنا من طلاب الاتحاد بعض الأوراق لكتابة الأحاديث والتوجيهات الدينية كانوا يرفضون أي طلب لنا متحصنين بسلطتهم... فكنا ندفع من جيوبنا قروشا قليلة ولكنها كانت "تُضلعنا" وتجهدنا ماديا لأننا كنا فقراء أو ضعيفي الحال ولا نتحمل ذلك "العبء" المالي رغم قلته، كان أفضلنا حالا يأتي للجامعة – في بعض الأحيان- سيرا على الأقدام توفيرا لـ (تعريفة) أجرة الأوتوبيس... ولم يكن لدى أي منا سيارة أو حتى دراجة.
لم يكن لدى أي منا وقتها تصور معين أو رؤية دينية محددة... كنت – وكل مجموعتنا تقريبا – من المتدينين بالفطرة وبحكم النشأة الاجتماعية المتدينة... نزعتي للتدين كانت تأثرا بوالدي – رحمه الله - الذي كان متدينا بفطرته، وكذلك أمي التي كانت مثل أمهاتنا جميعا بسيطة أمية لا تقرأ ولا تكتب لكنها متدينة بفطرتها، وعنهما ورثت التدين الفطري كالتزام الحلال واجتناب الحرام والمحافظة على الصلاة والعبادات والتمسك بالعادات والقيم الطيبة.
كما أنني مدين في تديني للجمعية الشرعية التي نشأت في أحد مساجدها المجاورة لبيتنا... فقد كان المنتمون للجمعية الشرعية يحسنون تربية الناس على الأخلاق الطيبة والمحافظة على العبادات، وكذلك جماعة أنصار السنة التي كنت أذهب إليها دائما مع والدي وأواظب معه علي حضور الدروس الدينية التي يلقيها الشيخ حامد الفقي في مسجد الهدّارة بحي عابدين... وكان والدي عضوا بجماعة أنصار السنة وكان حريصا على دفع اشتراكها شهريا... كان رحمه الله يحب المواظبة على هذه الدروس وذكر لي أنه كان يحضر دروس الإخوان ولكنه لم يعجب بهم!!
في هذه الفترة كان ذكر كلمة الإخوان محظورًا، فقد نجح الإعلام في أن يصورها للناس على أنها جماعة دينية لها أغراض سياسية للسيطرة على الحكم وأن وسائلهم في ذلك هي العنف والقتل، وكان والدي مقتنعا بذلك وكان يردد هذا الكلام على مسامعي وأنا صغير... ولم يكن للناس في ذلك الوقت أي مصدر للمعلومات غير الدولة وإعلامها، وكان لجمال عبد الناصر كاريزما تجعلهم يصدقون كل ما يقوله بحق خصومه وفي مقدمتهم الإخوان.
أول لقاء بالإخوان المسلمين
كان من تداعيات موت الرئيس جمال عبد الناصر وتولي الرئيس أنور السادات السلطة أن سمح للمرضى من معتقلي الإخوان بالانتقال للعلاج خارج السجن، فجيء بهم للعلاج في المعتقل السياسي في كلية طب قصر العيني (مستشفى المنيل الجامعي) ولم يكن يسمح بذلك من قبل إلا للسياسيين من غير الإخوان المسلمين.
كان يسمح لنا بالدخول مع الأطباء للمنيل الجامعي باعتبارنا طلابا في كلية الطب، فكنا نرى بعضا من المعتقلين السياسيين مثل الصحفي الشهير مصطفى أمين مؤسس أخبار اليوم الذي كان مسجونا بعد اتهام النظام الناصري له بالتجسس لأمريكا، لكننا لم نقابل مساجين الإخوان ومعتقليهم إلا لاحقا، فقد كان الإخوان يعاملون أسوأ معاملة في السجون، ومن كان يمرض منهم يترك في السجن إلى أن يموت. ومع تولي السادات للسلطة تحسنت أوضاع الإخوان وبدأ السماح لهم بالعلاج، وكان ذلك ما بين عامي 1971 و 1972 على ما أتذكر، وكان من أوائل من رأيتهم من الإخوان الذين يعالجون الأستاذ فتحي رفاعي الذي اقتربت منه كثيرا في فترة علاجه وكذلك الأستاذ عمر التلمساني الذي ظل شهرًا تقريبًا في المستشفى.
كان بالنسبة إلي حلما أن التقي شيوخ الإخوان الذين كنا نسمع عنهم قصصا تثير الرعب والخوف، وحين رأيناهم وتحدثنا معهم وجدناهم أناسا آخرين غير الذين سمعنا عنهم من إعلام العهد الناصري. وجدنا مجاهدين ضحوا بأنفسهم من أجل دعوتهم ورفضوا المساومة عليها حتى لو كان مصيرهم السجن والتعذيب بل والقتل... وكانت سعادة ما بعدها سعادة لقاء هؤلاء والحديث معهم والاستماع إليهم، وقد سعينا للاقتراب منهم والتعرف عليهم.
وفي إحدى زياراتنا له استطاع الأستاذ فتحي رفاعي أن يسرب إلينا رسالة التعاليم وفيها الجزء الخاص بواجبات الأخ العامل، وكان قد أعاد صياغة ذلك الجزء تحت عنوان" واجبات الأخ المسلم" وحذف منه كل ما يشير إلى التنظيم، وكتبها بخط اليد. كان هذا أول لقاء لي وربما لجيلي مع كتابات الإمام الشهيد حسن البنا، فأخذنا نتداولها بيننا على أنها إحدى كتابات الأستاذ البنا وكنا سعداء ونحن نقرأ تلك المعاني العظيمة، ثم طبعناها بنفس العنوان الجديد لها، ووزعناها على الطلاب في الكلية، وكان لها تأثير كبير.
في هذا الوقت كان ذكر الإخوان محظورا، وكانت كتبهم كذلك محظورة. وكانت الكتب المنتشرة في ذلك الوقت هي كتب أنصار السنة والجمعية الشرعية، وكتب أبي الأعلى المودودي وكانت من الكتب التي أثرت فينا سياسيًا وفكريًا، والتي رأينا فيها المفهوم الشامل للإسلام ولكن بالشكل المتشدد، كما كانت هناك أيضًا كتب الاتجاه السلفي التي كانت منتشرة بغزارة، وكانت توزع علينا مجانًا في الجامعة، وكنا نسعد بها لأنها كتب دينية ولكننا لم نكن نعلم ما وراءها من الفكر المتشدد، وكانت هناك –أيضًا- كتب الأزهر الشريف، وكان من أشهر الكتب وقتها " فقه السنة" الذي كان مسموحًا به في ذلك الوقت مثله مثل كتب العبادات والأخلاق والفقه.
الدخول في الاتحادات الطلابية
كان عملنا في السنتين الأوليين تحت اسم (لجنة التوعية الدينية)التي أسسها أستاذنا الدكتور عبد المنعم أبو الفضل لكننا اصطدمنا بكون هذه اللجنة تخضع لسيطرة اتحاد الطلاب ومن ثم تضييق مسؤوليه من المنتمين للتيار اليساري، فقررنا أن نستقل باللجنة ونطلق عليها اسم "الجمعية الدينية" رغم أنف الاتحاد واصطدمنا بهم بسبب ذلك، في الوقت الذي كانت القبضة الأمنية قد بدأت تخف كثيرًا.
كنا قد بدأنا ننتشر بين الطلاب أكثر فأكثر رغم معارضة الاتحاد والقوى اليسارية لنا، وكان أن ترتب على ذلك أننا صرنا نشتبك معهم فكريا وثقافيا، بل وكثيرا ما كنا نتبادل الضرب بالأيدي داخل الكلية حين تحتد المناقشات ويبدأ أحدهم في سب الإسلام أو السخرية من تعاليمه.
لم يكن الدخول في الاتحاد جزءا من همّنا في هذه الفترة، كان هدفنا الواضح والوحيد هو الوصول بدعوتنا للطلاب، وهو ما كان اتحاد الطلاب يسعى للحيلولة دونه، لذلك قررنا في عام 1973 - لأول مرة -خوض الانتخابات الطلابية ردا على الموقف المتعنت. وكان أول اتحاد قررنا دخوله اتحاد كلية طب قصر العيني باعتبارها معقل ومركز العمل الإسلامي وقتها، فترشحنا لجميع لجان الاتحاد الست!
كانت حركتنا قد اتسعت وصارت محل جذب للطلاب والطالبات، وكان الإقبال علينا واسعا بما يطمئننا على الفوز بالانتخابات، لكن كانت هناك عقبة كبيرة أمامنا تتمثل في صعوبة خوض الانتخابات في اللجنة الفنية، إذ لم تكن لدينا أي علاقة بالفن، إلا علاقة الرفض باعتباره رجسًا من عمل الشيطان!!
لم يكن لنا أي تصور عن الفن يسمح لنا بخوض انتخابات من أجل السيطرة على اللجنة التي تديره وتوجهه… ولكننا فعلناها وقررنا خوض الانتخابات في هذه اللجنة… فقط لوقف ذلك الفساد الذي كان يعني الفن نفسه!!.
الطريف أننا رشحنا لتلك اللجنة الأخ حسن عبد ربه، وكان أخا ريفيًا بسيطًا لم يسبق له الخروج من قريته والنزول إلى القاهرة إلا عندما التحق بكلية الطب! في حين ترشح أمامه عدد من الشباب اليساري والناصري كانت لهم علاقة وثيقة بالفن هواية وممارسة. وحتى يوقعونا في الحرج جاءنا أحدهم وسألنا أمام تجمع من الطلاب: أين مرشحكم في اللجنة الفنية حتى أناقشه؟ وما برنامجه في اللجنة؟. كان حسن عبد ربه وقتها يقف خلفي مباشرة، ولما كنت واثقا أنه لا يعرف في الفن شيئا، وأنه لن يصمد أمامه لحظة واحدة، فقد قلت له: اذهب وابحث عنه!.
كان الفن أبرز نقاط ضعفنا ومن ثم كانت نقطة الضعف الكبرى في هذه الانتخابات ولزمن طويل بعدها هي اللجنة الفنية، ورغم ذلك استطعنا أن نفوز فيها وفي أربع لجان أخرى من اللجان الست، ولم نخسر إلا في لجنة الجوالة التي فاز فيها طلاب آخرون لم يكن لهم اتجاه فكري محدد ولكنهم كانوا مهذبين وغير معادين لنا، ومن ثم أصبحت قيادة الاتحاد معنا.
وحين فزنا باللجنة الفنية في الاتحاد لم يكن لدينا أي رؤية عن الفن سوى أنه حرام ومن ثم لم يكن لدينا أي تصور عن إدارة هذه اللجنة سوى إيقاف عملها تقربا إلى الله! ولا أتذكر لها نشاطا يذكر لسنوات حتى بدأنا من خلال الجماعة الإسلامية نتبنى مفهوم الفن الهادف والفن الإسلامي الذي بدأ وقتها بالأناشيد الثورية والجهادية وكان عام 1973 أول عام ندخل فيه الاتحادات الطلابية لنفوز بمجالسها في كلية طب القصر العيني التي أصبح أول رئيس لاتحاد طلابها من الجماعة الإسلامية ومنها انطلقنا إلى بقية جامعات مصر.
من قصر العيني إلى جامعات مصر
كان الفوز بمجلس اتحاد كلية طب القصر العيني عام 1973 بداية قوية أعطتنا دفعة هائلة للعمل داخل جامعة القاهرة ومنها للجامعات الأخرى، في السنوات التي تلتها، فقد تحول مبنى اتحاد كلية طب قصر العيني (وكان مبنى ضخمًا وله ساحاته وملاعبه الخاصة) إلى المركز العام للنشاط الإسلامي لجامعات مصر كلها، حيث كان يأتيه الطلاب المتدينون من كل مكان في الجمهورية، فصارت كلية طب قصر العيني بحق هي الرائدة في العمل الإسلامي في الجامعة، وقد جاء ذلك كله بفضل الله وحده في صورة تلقائية قبل أن يصبح عملا منظما.
وكان معنا في نفس الدفعة سناء أبو زيد رحمه الله وكان قارئًا مثقفًا وظل حتى وفاته عام 2008 من خيرة الإخوان علما وعملا، ومحمد يوسف (يعمل أستاذا للباطنة في السعودية) وكانت دفعتنا هي التي بدأت النشاط الإسلامي الفعلي، ولكن كانت هناك بدايات لهذا التوجه موجودة قبلنا كان من رموزها عبد الرحمن حسن (ويعمل طبيبا في التأمين الصحي وأظن أن علاقته انقطعت بالعمل الإسلامي)، وأحمد اللبان (أستاذ جراحة).
ثم جاءت الدفعة التي تلينا وكانت متميزة ونشيطة ومن أبرز رموزها عصام العريان ومحمد عبد اللطيف، وكانا أبرز اثنين في الدفعة. وكان معهما محمد يوسف وهشام الصولي... ثم توالت الدفعات حتى كانت مجموعة أقوى وهي دفعة عام 1979 التي كان أشهر رموزها حلمي الجزار ومجموعته ومن أبرز أعضائها محمد مسعد وعبد الناصر صقر وأحمد سليم وإبراهيم مصطفى...وغيرهم.
لقد كانت هذه الفترة من أكثر فترات الحركة الطلابية في مصر نشاطا... وهي التي أخرجت معظم رموز العمل السياسي والنشاط العام في مصر... ولا أعني الرموز الإسلامية فقط بل أذكر أيضا أن من رموز التيارات الأخرى غير الإسلامية في جيلي... ففي العام التالي لهذه الانتخابات (عام 1974) كانت قد تبلورت في الحركة الطلابية في مصر ثلاثة تيارات أساسية، غير الطلاب التابعين للنظام، وكانت التيارات الرئيسية هي:
التيار الناصري وكان يمثله نادي الفكر الناصري.
وتيار الفكر الاشتراكي ويمثلهم اليساريون والشيوعيون وكان يمثله نادي الفكر الاشتراكي.
التيار الإسلامي والذي تحول اسمه إلى الجماعة الإسلامية سنة 1973.
كان من أشهر الطلاب اليساريين عادل فتحي وأشرف صادق وعايدة سيف الدولة بنت الأستاذ عصمت سيف الدولة المفكر القومي المعروف، وكان بعضهم يتطاول على الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم ويصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي.
كما ظهر من التيار الناصري حمدين صباحي الصحفي والنائب البرلماني ووكيل مؤسسي حزب الكرامة حاليا, الذي كان رئيسا لاتحاد كلية الإعلام ثم اتحاد الجامعة، وسامح عاشور نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب الذي كان رئيس اتحاد الحقوق سنة 1974، وكان قريبا من هذا التيار زياد عودة الذي كان رئيسا لاتحاد كلية الآداب بجامعة القاهرة وهو ابن الشهيد عبد القادر عودة القطب الاخواني... وأتذكر أيضا من طلاب التيار الوطني القريب من الدولة عدلي الملط رئيس اتحاد كلية العلوم.
في هذه الفترة التي بدأ فيها العمل الإسلامي بالظهور داخل الجامعة كانت البلاد على عتبات الحرب، وكانت قضية الحرب هي المسيطرة على وعي الطلاب واهتماماتهم... وقد كنا كطلاب إسلاميين نعيش هذه القضية كبقية الطلاب فنتكلم بين الطلاب عن ضرورة الثأر والانتقام من إسرائيل وتحرير الأرض... وكنا نصدر نشرات وبيانات عن المعركة الفاصلة بيننا وبين اليهود... وأذكر أننا كنا نشارك في التظاهرات التي تجتاح الجامعة وقتها... وأذكر أنني حضرت بعضا من مظاهرات الطلاب التي كان يقودها القائد الطلابي اليساري أحمد عبد الله رزة والذي كان يكبرني بعامين؛ خاصة المؤتمر الذي عقد في القاعة الرئيسية للجامعة... ولما بدأت الحرب بدأنا – خاصة في كلية الطب- في نشاط التبرع بالدم للجرحى.
لكن مما يسجل في هذه الفترة أن التيار اليساري كان هو المسيطر على الجامعة وقتها فيما كنا كطلاب إسلاميين- خاصة في عامي 1970 و 1971- مازلنا نخطو خطواتنا الأولى في العمل الطلابي لذلك كان الصوت اليساري في هذه الفترة هو الأعلى... لذلك لم تجمعنا معهم فعاليات مشتركة خاصة مع حالة العداء الفكري بيننا وحالة التنابذ والصراع... كما أن كثيرا من فعالياتهم من أجل الحرب كانت تخرج عن أهدافها المعلنة لتصب في حالة المواجهة بينهم وبين النظام في قضايا لا صلة لها بالحرب.
كان دخولنا اتحاد الطلاب فرصة لزيادة نشاطنا في الجامعة، فازداد عدد الندوات حتى وصل إلى ندوة أسبوعيًا، كما كان له أثر كبير في الخدمات التي كنا نقدمها للطلاب، حيث تضاعفت قدرتنا على تقديم الخدمات نظرًا للميزانية الكبيرة لاتحاد الجامعة، وقد يسرت لنا تلك الميزانية أن ننشر زي الحجاب بين الطالبات وذلك ببيعه لهن، كما سمحت لنا بإصدار وطبع سلسلة كتيبات "صوت الحق" التي كانت منبرا لنشر أهم الأدبيات الإسلامية التي شكلت وعينا، وصدر منها "رسالة المؤتمر الخامس" للإمام الشهيد حسن البنا، "المصطلحات الأربعة" و"نظرية الإسلام السياسية" لأبي الأعلى المودودي، و"هذا الدين" و"المستقبل لهذا الدين" للشهيد سيد قطب وكذلك فصولا من كتبه أو بعض رسائله مثل "لا إله إلا الله منهج حياة"، و"الطريق إلى الله" للشيخ محمد متولي الشعراوي، و"تفسير سورة الفاتحة" للإمام ابن القيم، و"حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" للشيخ ناصر الدين الألباني.
وكان الأخ محمود غزلان الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق وعضو مكتب الارشاد الآن صاحب دور كبير في إصدار السلسلة سواء في اختيار الموضوعات أو صياغتها وتلخيصها في بعض الأحيان.
وقد كنت أعرف الأخ محمود غزلان قبل التحاقنا بالجامعة من مسجد الجمعية الشرعية الذي كنت أصلي فيه في منطقة الملك الصالح بمصر القديمة، وكان بيننا ارتباط صداقة ومحبة كبيرة، وقد كان يميل للقراءة والثقافة أكثر من الحركة، لذلك لم يكن نشيطًا حركيًا في كلية الزراعة حين كان طالبًا فيها، والتي كان المسؤول فيها الأخ يونس فهمي.
كما كان لدخولنا في اتحاد الطلاب أكبر الأثر في التوسع في إقامة المخيمات الطلابية في الصيف والشتاء، وقد كان لهذه المخيمات أكبر دور في الحشد والتربية للأفراد، وكان يصل العدد للآلاف حيث كانت كل مباني المدينة الجامعية تمتلئ عن آخرها بالطلاب لمدة أسبوعين كاملين صيفًا.
وكانت المخيمات الطلابية فرصة كبيرة لنشر دعوتنا بين الطلاب لوجود عدد من الكبار والمؤثرين الحريصين على الحضور معنا مثل الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوى الذين كان لهم دور توجيهي تثقيفي كبير، فضلا عن قيام الليل والمحافظة على الصلوات الخمس والأذكار، والنشاط الرياضي وتعلم النظام والانضباط ، فكانت هذه المخيمات محضنًا تربويًا كبيرًا للطلاب في ذلك الوقت وفي أغلب الأحوال كنا نقيم المخيمات الجامعية في المدينة الجامعية المخصصة لسكن الطلاب.
وأذكر أن الدكتور أحمد كمال أبو المجد – وكان وقتها وزيرا للشباب والإعلام- حضر معنا أول مخيم جامعي يقام على مستوى جامعة القاهرة كلها، كان ذلك عام 1973، وقد تكرر هذا في العام التالي فأقمنا المخيم عام 1974 في المدينة الجامعية بعدما زاد عددنا وتضخم، وحضر المخيم من العلماء الشيخ محمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي… وبعد ذلك صارت كل كلية تقيم مخيمًا صيفيًا إسلاميًا.
وقد كانت المخيمات ميدانا لصنع القيادات الطلابية الإسلامية بطريقة عفوية وطبيعية، وكنت شخصيًا لا أشعر بأي عقبة في إدارة تلك المخيمات والتجمعات على الرغم من أنها كانت تجمع خليطا من الأفكار والاتجاهات الإسلامية، وقد كانت مسألة الطاعة شبه العمياء للأمير تسيطر على الجميع فتساعد القائد في إدارة المخيم من دون صعوبات كبيرة، هذا كله مع نضوج مسألة الشورى بيننا تدريجيا حيث كانت المناقشات تدور بيننا في جو من الاحترام والود.
الحلقة الثالثة
ولادة الجماعة الإسلامية من رحم الجمعية الدينية
في هذه الفترة بدأ الحديث في مسألة السمع والطاعة لأمير الجماعة الإسلامية، وهو المسؤول الأعلى في الجماعة؛ إذ لم نكن نسمي مسئول الجماعة الإسلامية بالرئيس بل بالأمير، وفي قضية الأسماء- مثل غيرها من القضايا- كانت تصرفاتنا عفوية وفطرية إلى حد كبير، فقد برز مصطلح (الجماعة الإسلامية) لأول مرة عام 1973 وكنت وقتها رئيس اتحاد طلاب كلية الطب، وكان اختياره عفويا ومن دون قصد وكنا متأثرين في اختياره بقراءة كتب الأستاذ أبي الأعلى المودودي وكتب السيرة القديمة... وما أتذكره أننا كنا نوقع على السبورة التي نكتب عليها الآيات والأحاديث باسم الجمعية الدينية ... وأذكر ذات مرة أنني وعبد الرحمن حسن كنا نكتب على السبورة آية أو حديثا بتوقيع الجمعية الدينية فسألنا أنفسنا – وكانت السنة الثالثة من العمل الإسلامي- لماذا نكتب الجمعية الدينية ولا نكتب الجماعة الإسلامية ؟... وقررنا مباشرة تغيير الاسم... وكنا متأثرين – كما أسلفت- بأبي الأعلى المودودي الذي كان يعرف بـ "أمير الجماعة الإسلامية" بباكستان، ثم سرى الاسم في بقية كليات الجامعة كلها بعد ذلك.
أثناء عملنا في الجماعة الإسلامية بالجامعة، وعندما قررنا خوض انتخابات اتحاد الطلاب فرض الواقع نفسه في الترشيحات، فرأى إخواني أنني أصلح لرئاسة الاتحاد، في الوقت الذي كان فيه الأخ سناء أبو زيد أميرًا للجماعة الإسلامية وقتها لأنه كان أكثرنا ثقافة وقراءة وفقهًا، وفي البداية لم يكن هناك فصل بين اتحاد الطلاب والجماعة الإسلامية، بل كان يشيع في الأوساط الطلابية أنني من يقوم بتعيين أمراء الجماعة، ولكن وبعد حدوث احتكاكات بين الاتحاد وإدارة الجامعة حاولنا عمل نوع من الفصل بين مهام إمارة الجماعة ومهام رئاسة الاتحاد.
كنّا نفصل بين مهمة أمير الجماعة الإسلامية وبين مهمة رئيس الاتحاد، وكانت السلطة الحقيقية في يد أمير الجماعة، وكان الأخ سناء أبو زيد أميرا للجماعة في نفس الوقت الذي كنت فيه رئيسا للاتحاد، ولكنه لأدبه الجم وأخلاقه الرفيعة وفرط محبته لي، كان لا يمارس سلطات هذا الدور معي حين أصبح أمير الجماعة، ولكنه كان يمارسه على الآخرين وكنت أساعده على ذلك طبعًا... فقد كنا نخشى أن تقضي أنشطة الاتحاد على أنشطة الجماعة الإسلامية، وكان لابد من هذا الفصل بينهما.
الاتحاد صار يمثل الجناح السياسي للجماعة
بعد أن تطورت الأمور وانتشرت الجماعة الإسلامية في الجامعة صار الاتحاد يمثل الجناح السياسي والاجتماعي للجماعة، فبدا الأمر وكأن الأمير هو المسيطر وصاحب القرار النهائي... وقد تأكد هذا الملمح عندما صار الأخ عصام العريان أميرًا للجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة ثم جاء بعده الأخ حلمي الجزار الذي كان أميرًا لمجلس أمراء الجماعة الإسلامية... أيامها صار الأمير هو المرشد للجماعة أو أقرب للقيام بهذا الدور وكان يرجع إليه بل كان يستطيع أن يوقف رئيس الاتحاد، طبعا لم يكن يحدث هذا بقرار شخصي لأن الجماعة الإسلامية كان لها ما يعرف بمجلس الشورى، وكان هذا المجلس يختار ممن برزوا في العمل الإسلامي وأثروا فيه... صحيح أنه لم يكن يشكل وقتها بالانتخاب لكن كان في معظم الأحيان يتشكل وفق انتخاب حقيقي للقدرات والإمكانات التي تكشف عن نفسها بسهولة... فقد كانت أجواء العمل الإسلامي كلها من النقاء والتجرد ولم يكن فيها آفات حب الظهور والسيطرة... كان بإمكان من يعمل أن يبرز ويقود دون أي اعتراض.
العريان والجزار أميرا أمراء الجماعة
وفي عام 1974 أو 1975 قررنا أن نكوّن مجلسًا واحدًا لكل أمراء الجماعة الإسلامية في كليات جامعة القاهرة وننصب لهذا المجلس أميرًا، وقد جرت انتخابات بين أمراء الجماعة في جامعة القاهرة أسفرت عن اختيار أول أمير لمجلس أمراء الجامعة وهو الأخ عصام العريان من كلية طب قصر العيني، وهو ما جرى اتباعه في الجامعات الأخرى.
بعد ذلك وفي عام 1977 تجمع كل أمراء الجماعة الإسلامية في جامعات مصر كلها تحت اسم الجماعة الإسلامية في مصر، وانتخبت أول أمير لها وهو الأخ حلمي الجزار من كلية طب قصر العيني أيضا فقد كانت معقلا للحركة الإسلامية الجديدة.
كنا لا نتوقف عن التنقل بين الجامعات للتواصل بين القيادات، وكنا نقضي الصيف كله في التنظيم لهذه اللقاءات... أما تمويل تحركنا الشخصي لكي ننتقل ونرى بعضنا فكان بالتبرع فيما بيننا، حتى أننا كنا في بعض الأحيان لا نجد ما ندفع به أجرة الدرجة الثانية في القطار فنضطر لركوب الدرجة الثالثة، وإذا لم تكفِ النقود لسفر ثلاثة اكتفينا بأن يسافر اثنان ويبقى الثالث.
تصاعد النشاط الإسلامي
كانت حركة الجماعة الإسلامية تنطلق بقوة وتكسب أرضا جديدة كل يوم وكان العام 1976 من أكثر أعوام الجماعة الإسلامية نشاطا حتى أن جون كوني مراسل صحيفة مونيتر كتب عن "عودة الإخوان" في مصر. في هذا العام بدأت الجماعة الإسلامية سنة إقامة صلاة العيد في الخلاء فنظمت الجماعة الإسلامية في الإسكندرية صلاة العيد في أرض استاد الإسكندرية (كانت في ديسمبر) وحضرها نحو أربعين ألف مصلي وأم الناس فيها الشيخ محمود عيد... ونظمت الجماعة الإسلامية في القاهرة صلاة العيد في ميدان عابدين وأم الناس فيها فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وحضرها أكثر من خمسين ألفا.
وفي هذا العام نزل عدد من الدعاة والأساتذة انتخابات مجلس الشعب وكان منهم في القاهرة الشيخ صلاح أبو إسماعيل والأستاذ عادل عيد في الإسكندرية. وذلك تحت مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية... وكانت الدعاية كلها تركز على ان تطبيق الشريعة هو بداية كل إصلاح وأنه سيعيد وجه مصر المسلمة... ومما رفعته الجماعة الإسلامية وقتها من لافتات: إلى الله يامصر... معا من أجل الشريعة... معا ضد الإلحاد والإباحية... لا شرقية ولا غربية إسلامية قرآنية... كما رفع المرشحون آيات قرآنية مثل (إن الحكم لله) و (وأن احكم بينهم بما أنزل الله).
الصفقة التي لم نعقدها مع السادات!
ما إن يبدأ الحديث عن الحركة الإسلامية في الجامعة في السبعينيات حتى تبدأ الأسطوانة المكررة عن أن الحركة الإسلامية في الجامعة كانت صنيعة السادات وأنه كان يسيطر عليها ويوظفها لضرب خصومه الشيوعيين والناصريين… ولن أتعرض للجدل في هذا الادعاء كثيرا وإنما سأكتفي بشهادتي كأحد الذين عاصروا هذه الفترة وأسسوا العمل الإسلامي فيها، فقد كنت في موقع من لا تغيب عنه المعلومات التفصيلية لأي صفقة كان يمكن أن تعقد بين السادات وبين الحركة الإسلامية في الجامعات، بل أقول جازما أنه لو كانت هناك صفقة لعقدها السادات معي شخصيا، بحكم مسئوليتي عن الحركة الطلابية الإسلامية، وأشهد الله أننا لم نعقد مع النظام أو مع أحد أي صفقة.
إذا كنّا نتحدث عن رغبة السادات بل وسعيه إلى السيطرة على الحركة الإسلامية في الجامعة وتوظيفها ضد خصومه فإن هذا كان صحيحًا، لكنه لم يتصل بنا مباشرة بأي شكل من الأشكال.
وربما حاول عبر مسئولين في الدولة الاتصال بنا لتوظيف الحركة ضد خصومه خاصة من الشيوعيين، لكن هذه المحاولات فشلت، كما أننا لم نكن الرهان المناسب له في هذا الغرض، فقد كنّا بالأساس حركة اعتراض ورفض ضد الحكومات "المنحرفة عن الدين" التي "لا تطبق شرع الله "، ومن ثم فقد كان مشروعنا – على الأقل في بدايته- أساسه وجوب إزالة هذه الحكومات وإقامة أخرى تقيم شرع الله… وهو ما لم يكن ليشجع النظام على فتح اتصال صريح ومباشر معنا.
ورغم أننا دخلنا في مواجهات مع الشيوعيين في الجامعة بعضها تطور إلى استخدام العنف البدني إلا أنها كانت مواجهة عفوية تلقائية يحكمها منطق الصراع بين تيار ديني عفوي متشدد ليس لديه منهج منضبط وبين تيار كان دائما ما يتعرض للثوابت الإسلامية بالنقد والسخرية بما تبدو معه المواجهات أمرا طبيعيا وليست مقصودة أو موظفة من قبل النظام.
وسأروي واقعة محددة تكشف عن أننا كنا واعين تماما باستقلاليتنا عن النظام وحريصين على ألا يوظفنا لمصلحته، فقد كانت هناك مظاهرة طلابية ضد إسرائيل، وقام الطلاب الشيوعيون بمظاهرة أخرى، كنت وقتها رئيس اتحاد طلاب الجامعة ومعي الأخ محمد عبد اللطيف نائب رئيس اتحاد كلية الطب (صاحب مؤسسة سفير للنشر والدراسات،ومن مؤسسي حزب الوسط) وكان الدكتور صوفي أبو طالب هو نائب رئيس الجامعة آنذاك، فغضب مستنكرًا تظاهر الشيوعيين، فقال لنا وكنّا في لقاء معه: إزاي تسيبوا الشيوعيين يقوموا بمظاهرة؟!
فقلت له: هم أحرار في ذلك.
فقال : إزاي؟ وإنتم متقدروش توقفوهم؟! (وكأنه يحرضنا عليهم).
فرد عليه الأخ محمد عبد اللطيف: نحن لا نُستخدم عصًا في يد أحد.
كان رد الأخ محمد تلقائيا وعفويا ولكنه كان يعكس استقلاليتنا... كان يمكن فعلا أن نشتبك مع الشيوعيين وقد يتطور الأمر للمواجهة البدنية... لكن ذلك لم يكن ليتم لمصلحة أحد أو بتوجيه منه... كان يحدث وفق قناعاتنا التي يمكن أن نراها – الآن - خاطئة لكنها لم تكن يوما لأحد إلا لفكرتنا ودعوتنا.
كانت مواجهتنا مع الطلبة الشيوعيين تعبير عن حسنا الجهادي أحيانا الذي كان يدفعنا إلى السعي إلى تغيير المنكر باليد أي بالقوة... أذكر أن اتحاد طلاب كلية الطب عام 1973 أقام حفلا به رقص وغناء ماجن، وفكرنا كيف نمنع هذه الحفلة فاهتدينا إلى فكرة أن نحتل المدرج قبل بدء الحفلة بنصف ساعة، فجلسنا جميعًا نقرأ القرآن، ولما جاؤوا لم يستطيعوا أن يخرجونا ولم تستطع الفرقة الغنائية الدخول فانتهى بذلك الحفل!.
أما في المرة التالية التي أرادوا فيها إقامة الحفلة أغلقوا الأبواب ولم يسمحوا بالدخول إلا لمن يحمل تذكرة... وساعتها لم يكن هناك بد من مسيرة ضخمة واقتحام الأبواب بالقوة ودخول المدرج وتعالت التكبيرات وساد الجوَّ نوعٌ من الاضطراب وانتهت الحفلة بالفشل!! هذه نماذج للعنف الذي كانت الحركة تتورط فيه لكنه لم يكن يوما ما بتوجيه من النظام أو بتنسيق معه.
ما أتصوره أن السادات رأى أن يضرب التيار الشيوعي بطريقة تلقائية ودون مجهود منه، وذلك بترك التيار الإسلامي يعمل بحرية وينتشر دون وضع العراقيل أمامه أو ملاحقته... وكانت الساحة مهيأة تماما لنمو هذا التيار وانتشاره عفويا وطبيعيا... ولم تكن هناك صفقة أو اتفاق سري كما أشاع خصوم الحركة الإسلامية... ما أقطع به أن أحدا لم يتصل بنا مباشرة أو يناقش معنا اتفاقات أو يعرض علينا صفقة... ولو كان شيء من هذا حدث لتمّ الاتصال معي بحكم مسئوليتي عن الحركة الطلابية الإسلامية في جامعات مصر.
جماعة شباب الإسلام
وحين أروي شهادتي في قضية العلاقة بين الحركة الطلابية الإسلامية والسادات فإنني أتحدث عن الجسم الرئيسي لها الذي صار يعرف بالجماعة الإسلامية والذي شرفت بأنني كنت أقدم مؤسسيه، وحديثي في هذا من خلال دوري وموقعي دون أن أصادر على ما قد يكون حدث بالنسبة لفصائل هامشية نسبت للحركة الإسلامية في هذه الفترة دون أن يكون لها وزن معتبر بما يصح معه القول أنها لا تمثل الحركة الإسلامية... أقول ذلك وعيني على قوله تعالى (وما شهدنا إلا بما علمنا).
فقد فوجئنا ذات يوم - وأظنه في نهاية عام 1973 - بلافتات تملأ ساحات كلية الهندسة جامعة القاهرة تحمل اسم " جماعة شباب الإسلام" وكانت اللجنة الدينية هي التي تمثلنا في الكلية وكان المسؤول عنها الذي يمثلنا في الكلية الأخ عصام الشيخ، وحين سألناه عن هذه اللافتات أخبرنا بأنه فوجئ مثلنا بهذا ألأمر، وأن هؤلاء الطلاب الذين كونوا جماعة شباب الإسلام لا علم لنا بهم ولم يكن لهم أي نشاط معنا إطلاقا قبل ذلك، وأنهم الآن يحدثون الطلاب عن الإسلام، بل وحتى الطالبات أيضًا يقفون معهن ويحدثونهن عن الإسلام، وخلصنا وقتها إلى نتيجة جازمة بأن هؤلاء الطلاب من جماعة شباب الإسلام غير متدينين، ولا ينتمون إلينا، لأن الوقوف مع الطالبات والحديث معهن كان في هذه الفترة ممنوعًا ، حتى وإن كان هذا الحديث عن الإسلام.
لقد كان نمط التزامنا الديني سلفيا غارقا في السلفية كما قدمت، ولم يكن مقبولا لدينا الحديث عن دعوة الطالبات، ورأينا وقتها أن تكون هذه مهمة الطالبات الممثلات للحركة الطلابية الإسلامية الأخوات، وأما حديثنا- نحن الرجال معهن- فلا يجوز أن يكون إلا في إطار محاضرة عامة أو خطاب عام. وكان هذا الأمر فارقا بيننا وبين جماعة شباب الإسلام.
كما كان خطابنا صارخا ثوريا في نقد النظام الحاكم وفي دعوته لتطبيق شرع الله، في حين كان خطاب جماعة شباب الإسلام يبدو فيه الميل للنظام، كما لاحظنا أيضا ضعف التزامهم الشخصي وعدم حرصهم على السنن الظاهرة مثل اللحية، وأداء الصلوات في المسجد، وهو ما لم يكن موجودًا لديهم وكان له دور في عدم استمرارهم بعد ذلك... ما جعلنا نرفضهم وننظر إليهم نظرة متعالية، باعتبار أننا ملتزمون أكثر منهم... فقد كنا نحرص على التمسك بكل ما نعتبره سنة في الدين، فكنّا في حرصنا على الالتزام بالهدي الظاهر نرتدي الجلباب أحيانا في الجامعة مثلا، وكانت تميزنا اللحى بشكل واضح حتى إن الدكتور صوفي أبو طالب رئيس الجامعة وقتها طلب مني أن أهذب لحيتي لأنها كانت كثيفة جدًا!.
وسمعنا بعد ذلك أن محمد عثمان إسماعيل أحد أركان نظام السادات والمقربين منه - و كان أمين التنظيم بالاتحاد الاشتراكي ثم محافظا لأسيوط فيما بعد- حين وجد أننا لا نصلح أن نكون آلة في يد النظام نتيجة خطابنا ومواقفنا أراد أن يصنع له تيارًا إسلاميا خاصا مرتبطا مباشرة بالنظام وممثلا لتوجهاته بين الطلاب، وربما كان مسؤولا عن تأسيس جماعة )شباب الإسلام) هذه، لكن الذي حدث غير ذلك تماما فقد انحسرت هذه الجماعة واختفى أعضاؤها من على الساحة، حتى إنها لم تخرج من كلية الهندسة ولم نر لها أي أثر في كلية أخرى أو حتى في كلية الهندسة نفسها في الأعوام التالية وأنا نفسي نسيت أسماء قيادتها ولم أعد أتذكر سوى أشهرهم المهندس وائل عثمان وقد سمعت أنه كتب عن تجربة هذه الجماعة في كتاب أسماه : أسرار الحركة الطلابية، وله فيما أعرف كتاب اسمه: حزب الله في مواجهة حزب الشيطان.
كانت الساحة مفتوحة لنا ولغيرنا
الحق يقال إن السادات قد أزال العوائق أمام الحركة الإسلامية، لكنه- وللإنصاف والأمانة أيضًا- لم يضع أية عوائق أمام الآخرين كي يعملوا وينشطوا في الساحة... السادات كان ذكيًا في إدراكه ومعرفته بالمجتمع المصري المتدين المحب للإسلام، وكان على ثقة بأنه لو أزال تلك العوائق التي كانت أمام الإسلاميين فسوف يجرف تيارهم جميع التيارات الأخرى.
كانت الدنيا مفتوحة أمامنا... ولم تكن هناك العقبات التي كانت في عهد النظام الناصري فيما قبل أو نظام مبارك فيما بعد... كنت وقتها- كقيادة طلابية- أستطيع مقابلة رئيس الجامعة صوفي أبو طالب (رئيس البرلمان فيما بعد) أو حافظ غانم نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم في أي وقت، خاصة إذا حدثت أية مشكلة مع الحركة الطلابية أو الجماعة الإسلامية في أي جامعة من الجامعات المصرية.
كان هناك أيضا تسامح أو تساهل من الدولة مع الإخوان المسلمين بعد خروجهم من السجون، حيث سمح لهم بالتواجد وبالنشاط العام؛ مثل إقامة الاحتفالات الخاصة بالمولد النبوي في الميادين العامة، ولم يكن الجهاز الأمني يتدخل في أي نشاط لنا أو لهم من قريب أو من بعيد... حتى جاءت أواخر السبعينات حين انقلبت الدولة على الإسلاميين جميعًا وبدأ التدخل الأمني يظهر بشدة.
لقد تميز عهد السادات بالحرية بما لم تشهده مصر منذ قيام الثورة، وكانت الحرية حقيقية، حرية عمل وليست حرية " كلام" كما هو الحال في عهد الرئيس مبارك الذي أطلق حرية الرأي وقيد حرية العمل السياسي والعمل العام عموما.
لم نسمع أبدًا في عهد السادات، فترة السبعينات، أن أحدًا اعتقل منا أو من الإخوان، أو حتى تم استدعاؤه أمنيًا، ولم يمنعنا من توزيع كتاب أو مطبوعات من أي نوع، ولم نر ضابط أمن دولة يدخل الجامعة ويعترض على أي عمل من أعمالنا... باستثناء ما حدث مع التنظيم الشيوعي وحركة الفنية العسكرية.
لم نعرف هذا التدخل المنحط الذي شهدته البلاد فيما قبل وبعد السادات، ولم نره أو نسمع به أبدًا معنا ولا مع غيرنا.
وأذكر أنني كنت- وقت رئاستي لاتحاد طلاب الجامعة-أطبع منشورًا فيه هجوم شديد على النظام في إحدى المطابع بمنطقة السيدة زينب، وتصادف أن الشيوعيين كانوا يطبعون منشورًا آخر في نفس المطبعة، وجاء إلي صاحب المطبعة ليخبرني أن الشيوعيين يطبعون منشورًا ضد الجماعة الإسلامية، ولا أدري من الذي أبلغ بوليس النجدة أنه ستقوم مشاجرة بين مجموعة من الطلاب- شيوعيين وجماعات- في السيدة زينب، فحضرت الشرطة في نفس الوقت الذي كنّا قد نقلنا المنشور معنا إلى السيارة التي ستنقله... أراد الضابط أن يوقفنا فرفضنا أن نطيع أوامره، فأطلق رصاصة على إحدى إطارات السيارة حتى لا نستطيع التحرك بها، فقامت بيننا وبينه مشاجرة كبيرة، وقمنا بتوجيه السباب والشتائم له وذهبنا إلى قسم شرطة السيدة زينب، حيث تم الاستيلاء على المنشور من السيارة، وبعد قليل وجدت المأمور يقول: لي تفضل إلى حيث تريد!! وكأن شيئًا لم يكن.
لم يعجبني هذا ولم أعتبر أنها مكرمة فطلبت منه المنشور الذي صادرته الشرطة فرفض إعطاءه لي، فقلت له إنني لن أتحرك من قسم الشرطة إلا بعد أن آخذ المنشور معي!، فأصر على الرفض واتصل بضابط من جهاز مباحث أمن الدولة فأخذ الضابط يرجوني أن أذهب من دون المنشور، ولما رفضت الخروج من قسم الشرطة، اتصلوا بنائب رئيس الجامعة الدكتور محمود درويش، فأتى إلى قسم الشرطة لكي يقنعني بأن أنصرف من دون المنشور، كل ذلك وأنا مصمم على رأيي!! ولم أتنازل حتى أخذت معي المنشور أخيرًا وذهبت مع الدكتور محمود درويش في سيارته إلى الجامعة ومعي المنشور، لتهدئة زملائي في اتحاد الطلاب والجماعة الإسلامية الذين كانوا قد انطلقوا في مظاهرات عارمة داخل الجامعة احتجاجًا على القبض عليّ!!.
كانت حياتنا عادية ومستقرة حتى ونحن نقيم الدنيا ولا نقعدها مظاهرات وإضرابات واحتجاجات... ولا أتذكر أنني كنت هدفا للتضييق أو المنع من قبل الدولة إلا مرة واحدة؛ وهي بعد تخرجي... فحين حصلت على شهادة البكالوريوس من كلية الطب عام 1977 كان ترتيبي العشرين بين خريجي دفعتي بتقدير(جيد جدا مع مرتبة الشرف)... فصدر قرار بتعييني في الجامعة، وكنت كلما أعلنت إحدى كليات الطب عن تعيين معيدين أتقدم لها فإذا بها تلغي قرار التعيين فيها... فلا تقبلني ولا تقبل غيري من الطلاب... وظللت على هذا الحال فترة حتى قابلني أحد الزملاء بعد ذلك في إحدى طرقات كلية طب قصر العيني وكان ثائرًا جدًا ويصرخ في وجهي يتهمني بأنني تسببت في ضياع مستقبله!!... تمالكت نفسي وهدّأته ثم سألته عن سبب هذا الاتهام ، فأخبرني بأنه علم من قريب له مسؤول في الدولة أنهم يلغون الوظائف التي تعلن عنها الكليات بسبب تقدمي أنا لها... ومن ثم فلن يجد فرصة للتعيين هو وآخرون بسببي!... وأمام هذا لم أجد سوى الاعتذار له ووعده أنني لن أتقدم لأي وظيفة من التي تعلن عنها الكليات مرة أخرى... وقد علمت أن السبب في ذلك موقفي من الرئيس السادات الذي قرر عقابي بمنعي من التعيين في أي جامعة من جامعات مصر... وهو عقاب أقل بكثير مما يستطيعه رئيس جمهورية تعرض لما تعرض له السادات.
في هذه الفترة بدأ الحديث في مسألة السمع والطاعة لأمير الجماعة الإسلامية، وهو المسؤول الأعلى في الجماعة؛ إذ لم نكن نسمي مسئول الجماعة الإسلامية بالرئيس بل بالأمير، وفي قضية الأسماء- مثل غيرها من القضايا- كانت تصرفاتنا عفوية وفطرية إلى حد كبير، فقد برز مصطلح (الجماعة الإسلامية) لأول مرة عام 1973 وكنت وقتها رئيس اتحاد طلاب كلية الطب، وكان اختياره عفويا ومن دون قصد وكنا متأثرين في اختياره بقراءة كتب الأستاذ أبي الأعلى المودودي وكتب السيرة القديمة... وما أتذكره أننا كنا نوقع على السبورة التي نكتب عليها الآيات والأحاديث باسم الجمعية الدينية ... وأذكر ذات مرة أنني وعبد الرحمن حسن كنا نكتب على السبورة آية أو حديثا بتوقيع الجمعية الدينية فسألنا أنفسنا – وكانت السنة الثالثة من العمل الإسلامي- لماذا نكتب الجمعية الدينية ولا نكتب الجماعة الإسلامية ؟... وقررنا مباشرة تغيير الاسم... وكنا متأثرين – كما أسلفت- بأبي الأعلى المودودي الذي كان يعرف بـ "أمير الجماعة الإسلامية" بباكستان، ثم سرى الاسم في بقية كليات الجامعة كلها بعد ذلك.
أثناء عملنا في الجماعة الإسلامية بالجامعة، وعندما قررنا خوض انتخابات اتحاد الطلاب فرض الواقع نفسه في الترشيحات، فرأى إخواني أنني أصلح لرئاسة الاتحاد، في الوقت الذي كان فيه الأخ سناء أبو زيد أميرًا للجماعة الإسلامية وقتها لأنه كان أكثرنا ثقافة وقراءة وفقهًا، وفي البداية لم يكن هناك فصل بين اتحاد الطلاب والجماعة الإسلامية، بل كان يشيع في الأوساط الطلابية أنني من يقوم بتعيين أمراء الجماعة، ولكن وبعد حدوث احتكاكات بين الاتحاد وإدارة الجامعة حاولنا عمل نوع من الفصل بين مهام إمارة الجماعة ومهام رئاسة الاتحاد.
كنّا نفصل بين مهمة أمير الجماعة الإسلامية وبين مهمة رئيس الاتحاد، وكانت السلطة الحقيقية في يد أمير الجماعة، وكان الأخ سناء أبو زيد أميرا للجماعة في نفس الوقت الذي كنت فيه رئيسا للاتحاد، ولكنه لأدبه الجم وأخلاقه الرفيعة وفرط محبته لي، كان لا يمارس سلطات هذا الدور معي حين أصبح أمير الجماعة، ولكنه كان يمارسه على الآخرين وكنت أساعده على ذلك طبعًا... فقد كنا نخشى أن تقضي أنشطة الاتحاد على أنشطة الجماعة الإسلامية، وكان لابد من هذا الفصل بينهما.
الاتحاد صار يمثل الجناح السياسي للجماعة
بعد أن تطورت الأمور وانتشرت الجماعة الإسلامية في الجامعة صار الاتحاد يمثل الجناح السياسي والاجتماعي للجماعة، فبدا الأمر وكأن الأمير هو المسيطر وصاحب القرار النهائي... وقد تأكد هذا الملمح عندما صار الأخ عصام العريان أميرًا للجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة ثم جاء بعده الأخ حلمي الجزار الذي كان أميرًا لمجلس أمراء الجماعة الإسلامية... أيامها صار الأمير هو المرشد للجماعة أو أقرب للقيام بهذا الدور وكان يرجع إليه بل كان يستطيع أن يوقف رئيس الاتحاد، طبعا لم يكن يحدث هذا بقرار شخصي لأن الجماعة الإسلامية كان لها ما يعرف بمجلس الشورى، وكان هذا المجلس يختار ممن برزوا في العمل الإسلامي وأثروا فيه... صحيح أنه لم يكن يشكل وقتها بالانتخاب لكن كان في معظم الأحيان يتشكل وفق انتخاب حقيقي للقدرات والإمكانات التي تكشف عن نفسها بسهولة... فقد كانت أجواء العمل الإسلامي كلها من النقاء والتجرد ولم يكن فيها آفات حب الظهور والسيطرة... كان بإمكان من يعمل أن يبرز ويقود دون أي اعتراض.
العريان والجزار أميرا أمراء الجماعة
وفي عام 1974 أو 1975 قررنا أن نكوّن مجلسًا واحدًا لكل أمراء الجماعة الإسلامية في كليات جامعة القاهرة وننصب لهذا المجلس أميرًا، وقد جرت انتخابات بين أمراء الجماعة في جامعة القاهرة أسفرت عن اختيار أول أمير لمجلس أمراء الجامعة وهو الأخ عصام العريان من كلية طب قصر العيني، وهو ما جرى اتباعه في الجامعات الأخرى.
بعد ذلك وفي عام 1977 تجمع كل أمراء الجماعة الإسلامية في جامعات مصر كلها تحت اسم الجماعة الإسلامية في مصر، وانتخبت أول أمير لها وهو الأخ حلمي الجزار من كلية طب قصر العيني أيضا فقد كانت معقلا للحركة الإسلامية الجديدة.
كنا لا نتوقف عن التنقل بين الجامعات للتواصل بين القيادات، وكنا نقضي الصيف كله في التنظيم لهذه اللقاءات... أما تمويل تحركنا الشخصي لكي ننتقل ونرى بعضنا فكان بالتبرع فيما بيننا، حتى أننا كنا في بعض الأحيان لا نجد ما ندفع به أجرة الدرجة الثانية في القطار فنضطر لركوب الدرجة الثالثة، وإذا لم تكفِ النقود لسفر ثلاثة اكتفينا بأن يسافر اثنان ويبقى الثالث.
تصاعد النشاط الإسلامي
كانت حركة الجماعة الإسلامية تنطلق بقوة وتكسب أرضا جديدة كل يوم وكان العام 1976 من أكثر أعوام الجماعة الإسلامية نشاطا حتى أن جون كوني مراسل صحيفة مونيتر كتب عن "عودة الإخوان" في مصر. في هذا العام بدأت الجماعة الإسلامية سنة إقامة صلاة العيد في الخلاء فنظمت الجماعة الإسلامية في الإسكندرية صلاة العيد في أرض استاد الإسكندرية (كانت في ديسمبر) وحضرها نحو أربعين ألف مصلي وأم الناس فيها الشيخ محمود عيد... ونظمت الجماعة الإسلامية في القاهرة صلاة العيد في ميدان عابدين وأم الناس فيها فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وحضرها أكثر من خمسين ألفا.
وفي هذا العام نزل عدد من الدعاة والأساتذة انتخابات مجلس الشعب وكان منهم في القاهرة الشيخ صلاح أبو إسماعيل والأستاذ عادل عيد في الإسكندرية. وذلك تحت مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية... وكانت الدعاية كلها تركز على ان تطبيق الشريعة هو بداية كل إصلاح وأنه سيعيد وجه مصر المسلمة... ومما رفعته الجماعة الإسلامية وقتها من لافتات: إلى الله يامصر... معا من أجل الشريعة... معا ضد الإلحاد والإباحية... لا شرقية ولا غربية إسلامية قرآنية... كما رفع المرشحون آيات قرآنية مثل (إن الحكم لله) و (وأن احكم بينهم بما أنزل الله).
الصفقة التي لم نعقدها مع السادات!
ما إن يبدأ الحديث عن الحركة الإسلامية في الجامعة في السبعينيات حتى تبدأ الأسطوانة المكررة عن أن الحركة الإسلامية في الجامعة كانت صنيعة السادات وأنه كان يسيطر عليها ويوظفها لضرب خصومه الشيوعيين والناصريين… ولن أتعرض للجدل في هذا الادعاء كثيرا وإنما سأكتفي بشهادتي كأحد الذين عاصروا هذه الفترة وأسسوا العمل الإسلامي فيها، فقد كنت في موقع من لا تغيب عنه المعلومات التفصيلية لأي صفقة كان يمكن أن تعقد بين السادات وبين الحركة الإسلامية في الجامعات، بل أقول جازما أنه لو كانت هناك صفقة لعقدها السادات معي شخصيا، بحكم مسئوليتي عن الحركة الطلابية الإسلامية، وأشهد الله أننا لم نعقد مع النظام أو مع أحد أي صفقة.
إذا كنّا نتحدث عن رغبة السادات بل وسعيه إلى السيطرة على الحركة الإسلامية في الجامعة وتوظيفها ضد خصومه فإن هذا كان صحيحًا، لكنه لم يتصل بنا مباشرة بأي شكل من الأشكال.
وربما حاول عبر مسئولين في الدولة الاتصال بنا لتوظيف الحركة ضد خصومه خاصة من الشيوعيين، لكن هذه المحاولات فشلت، كما أننا لم نكن الرهان المناسب له في هذا الغرض، فقد كنّا بالأساس حركة اعتراض ورفض ضد الحكومات "المنحرفة عن الدين" التي "لا تطبق شرع الله "، ومن ثم فقد كان مشروعنا – على الأقل في بدايته- أساسه وجوب إزالة هذه الحكومات وإقامة أخرى تقيم شرع الله… وهو ما لم يكن ليشجع النظام على فتح اتصال صريح ومباشر معنا.
ورغم أننا دخلنا في مواجهات مع الشيوعيين في الجامعة بعضها تطور إلى استخدام العنف البدني إلا أنها كانت مواجهة عفوية تلقائية يحكمها منطق الصراع بين تيار ديني عفوي متشدد ليس لديه منهج منضبط وبين تيار كان دائما ما يتعرض للثوابت الإسلامية بالنقد والسخرية بما تبدو معه المواجهات أمرا طبيعيا وليست مقصودة أو موظفة من قبل النظام.
وسأروي واقعة محددة تكشف عن أننا كنا واعين تماما باستقلاليتنا عن النظام وحريصين على ألا يوظفنا لمصلحته، فقد كانت هناك مظاهرة طلابية ضد إسرائيل، وقام الطلاب الشيوعيون بمظاهرة أخرى، كنت وقتها رئيس اتحاد طلاب الجامعة ومعي الأخ محمد عبد اللطيف نائب رئيس اتحاد كلية الطب (صاحب مؤسسة سفير للنشر والدراسات،ومن مؤسسي حزب الوسط) وكان الدكتور صوفي أبو طالب هو نائب رئيس الجامعة آنذاك، فغضب مستنكرًا تظاهر الشيوعيين، فقال لنا وكنّا في لقاء معه: إزاي تسيبوا الشيوعيين يقوموا بمظاهرة؟!
فقلت له: هم أحرار في ذلك.
فقال : إزاي؟ وإنتم متقدروش توقفوهم؟! (وكأنه يحرضنا عليهم).
فرد عليه الأخ محمد عبد اللطيف: نحن لا نُستخدم عصًا في يد أحد.
كان رد الأخ محمد تلقائيا وعفويا ولكنه كان يعكس استقلاليتنا... كان يمكن فعلا أن نشتبك مع الشيوعيين وقد يتطور الأمر للمواجهة البدنية... لكن ذلك لم يكن ليتم لمصلحة أحد أو بتوجيه منه... كان يحدث وفق قناعاتنا التي يمكن أن نراها – الآن - خاطئة لكنها لم تكن يوما لأحد إلا لفكرتنا ودعوتنا.
كانت مواجهتنا مع الطلبة الشيوعيين تعبير عن حسنا الجهادي أحيانا الذي كان يدفعنا إلى السعي إلى تغيير المنكر باليد أي بالقوة... أذكر أن اتحاد طلاب كلية الطب عام 1973 أقام حفلا به رقص وغناء ماجن، وفكرنا كيف نمنع هذه الحفلة فاهتدينا إلى فكرة أن نحتل المدرج قبل بدء الحفلة بنصف ساعة، فجلسنا جميعًا نقرأ القرآن، ولما جاؤوا لم يستطيعوا أن يخرجونا ولم تستطع الفرقة الغنائية الدخول فانتهى بذلك الحفل!.
أما في المرة التالية التي أرادوا فيها إقامة الحفلة أغلقوا الأبواب ولم يسمحوا بالدخول إلا لمن يحمل تذكرة... وساعتها لم يكن هناك بد من مسيرة ضخمة واقتحام الأبواب بالقوة ودخول المدرج وتعالت التكبيرات وساد الجوَّ نوعٌ من الاضطراب وانتهت الحفلة بالفشل!! هذه نماذج للعنف الذي كانت الحركة تتورط فيه لكنه لم يكن يوما ما بتوجيه من النظام أو بتنسيق معه.
ما أتصوره أن السادات رأى أن يضرب التيار الشيوعي بطريقة تلقائية ودون مجهود منه، وذلك بترك التيار الإسلامي يعمل بحرية وينتشر دون وضع العراقيل أمامه أو ملاحقته... وكانت الساحة مهيأة تماما لنمو هذا التيار وانتشاره عفويا وطبيعيا... ولم تكن هناك صفقة أو اتفاق سري كما أشاع خصوم الحركة الإسلامية... ما أقطع به أن أحدا لم يتصل بنا مباشرة أو يناقش معنا اتفاقات أو يعرض علينا صفقة... ولو كان شيء من هذا حدث لتمّ الاتصال معي بحكم مسئوليتي عن الحركة الطلابية الإسلامية في جامعات مصر.
جماعة شباب الإسلام
وحين أروي شهادتي في قضية العلاقة بين الحركة الطلابية الإسلامية والسادات فإنني أتحدث عن الجسم الرئيسي لها الذي صار يعرف بالجماعة الإسلامية والذي شرفت بأنني كنت أقدم مؤسسيه، وحديثي في هذا من خلال دوري وموقعي دون أن أصادر على ما قد يكون حدث بالنسبة لفصائل هامشية نسبت للحركة الإسلامية في هذه الفترة دون أن يكون لها وزن معتبر بما يصح معه القول أنها لا تمثل الحركة الإسلامية... أقول ذلك وعيني على قوله تعالى (وما شهدنا إلا بما علمنا).
فقد فوجئنا ذات يوم - وأظنه في نهاية عام 1973 - بلافتات تملأ ساحات كلية الهندسة جامعة القاهرة تحمل اسم " جماعة شباب الإسلام" وكانت اللجنة الدينية هي التي تمثلنا في الكلية وكان المسؤول عنها الذي يمثلنا في الكلية الأخ عصام الشيخ، وحين سألناه عن هذه اللافتات أخبرنا بأنه فوجئ مثلنا بهذا ألأمر، وأن هؤلاء الطلاب الذين كونوا جماعة شباب الإسلام لا علم لنا بهم ولم يكن لهم أي نشاط معنا إطلاقا قبل ذلك، وأنهم الآن يحدثون الطلاب عن الإسلام، بل وحتى الطالبات أيضًا يقفون معهن ويحدثونهن عن الإسلام، وخلصنا وقتها إلى نتيجة جازمة بأن هؤلاء الطلاب من جماعة شباب الإسلام غير متدينين، ولا ينتمون إلينا، لأن الوقوف مع الطالبات والحديث معهن كان في هذه الفترة ممنوعًا ، حتى وإن كان هذا الحديث عن الإسلام.
لقد كان نمط التزامنا الديني سلفيا غارقا في السلفية كما قدمت، ولم يكن مقبولا لدينا الحديث عن دعوة الطالبات، ورأينا وقتها أن تكون هذه مهمة الطالبات الممثلات للحركة الطلابية الإسلامية الأخوات، وأما حديثنا- نحن الرجال معهن- فلا يجوز أن يكون إلا في إطار محاضرة عامة أو خطاب عام. وكان هذا الأمر فارقا بيننا وبين جماعة شباب الإسلام.
كما كان خطابنا صارخا ثوريا في نقد النظام الحاكم وفي دعوته لتطبيق شرع الله، في حين كان خطاب جماعة شباب الإسلام يبدو فيه الميل للنظام، كما لاحظنا أيضا ضعف التزامهم الشخصي وعدم حرصهم على السنن الظاهرة مثل اللحية، وأداء الصلوات في المسجد، وهو ما لم يكن موجودًا لديهم وكان له دور في عدم استمرارهم بعد ذلك... ما جعلنا نرفضهم وننظر إليهم نظرة متعالية، باعتبار أننا ملتزمون أكثر منهم... فقد كنا نحرص على التمسك بكل ما نعتبره سنة في الدين، فكنّا في حرصنا على الالتزام بالهدي الظاهر نرتدي الجلباب أحيانا في الجامعة مثلا، وكانت تميزنا اللحى بشكل واضح حتى إن الدكتور صوفي أبو طالب رئيس الجامعة وقتها طلب مني أن أهذب لحيتي لأنها كانت كثيفة جدًا!.
وسمعنا بعد ذلك أن محمد عثمان إسماعيل أحد أركان نظام السادات والمقربين منه - و كان أمين التنظيم بالاتحاد الاشتراكي ثم محافظا لأسيوط فيما بعد- حين وجد أننا لا نصلح أن نكون آلة في يد النظام نتيجة خطابنا ومواقفنا أراد أن يصنع له تيارًا إسلاميا خاصا مرتبطا مباشرة بالنظام وممثلا لتوجهاته بين الطلاب، وربما كان مسؤولا عن تأسيس جماعة )شباب الإسلام) هذه، لكن الذي حدث غير ذلك تماما فقد انحسرت هذه الجماعة واختفى أعضاؤها من على الساحة، حتى إنها لم تخرج من كلية الهندسة ولم نر لها أي أثر في كلية أخرى أو حتى في كلية الهندسة نفسها في الأعوام التالية وأنا نفسي نسيت أسماء قيادتها ولم أعد أتذكر سوى أشهرهم المهندس وائل عثمان وقد سمعت أنه كتب عن تجربة هذه الجماعة في كتاب أسماه : أسرار الحركة الطلابية، وله فيما أعرف كتاب اسمه: حزب الله في مواجهة حزب الشيطان.
كانت الساحة مفتوحة لنا ولغيرنا
الحق يقال إن السادات قد أزال العوائق أمام الحركة الإسلامية، لكنه- وللإنصاف والأمانة أيضًا- لم يضع أية عوائق أمام الآخرين كي يعملوا وينشطوا في الساحة... السادات كان ذكيًا في إدراكه ومعرفته بالمجتمع المصري المتدين المحب للإسلام، وكان على ثقة بأنه لو أزال تلك العوائق التي كانت أمام الإسلاميين فسوف يجرف تيارهم جميع التيارات الأخرى.
كانت الدنيا مفتوحة أمامنا... ولم تكن هناك العقبات التي كانت في عهد النظام الناصري فيما قبل أو نظام مبارك فيما بعد... كنت وقتها- كقيادة طلابية- أستطيع مقابلة رئيس الجامعة صوفي أبو طالب (رئيس البرلمان فيما بعد) أو حافظ غانم نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم في أي وقت، خاصة إذا حدثت أية مشكلة مع الحركة الطلابية أو الجماعة الإسلامية في أي جامعة من الجامعات المصرية.
كان هناك أيضا تسامح أو تساهل من الدولة مع الإخوان المسلمين بعد خروجهم من السجون، حيث سمح لهم بالتواجد وبالنشاط العام؛ مثل إقامة الاحتفالات الخاصة بالمولد النبوي في الميادين العامة، ولم يكن الجهاز الأمني يتدخل في أي نشاط لنا أو لهم من قريب أو من بعيد... حتى جاءت أواخر السبعينات حين انقلبت الدولة على الإسلاميين جميعًا وبدأ التدخل الأمني يظهر بشدة.
لقد تميز عهد السادات بالحرية بما لم تشهده مصر منذ قيام الثورة، وكانت الحرية حقيقية، حرية عمل وليست حرية " كلام" كما هو الحال في عهد الرئيس مبارك الذي أطلق حرية الرأي وقيد حرية العمل السياسي والعمل العام عموما.
لم نسمع أبدًا في عهد السادات، فترة السبعينات، أن أحدًا اعتقل منا أو من الإخوان، أو حتى تم استدعاؤه أمنيًا، ولم يمنعنا من توزيع كتاب أو مطبوعات من أي نوع، ولم نر ضابط أمن دولة يدخل الجامعة ويعترض على أي عمل من أعمالنا... باستثناء ما حدث مع التنظيم الشيوعي وحركة الفنية العسكرية.
لم نعرف هذا التدخل المنحط الذي شهدته البلاد فيما قبل وبعد السادات، ولم نره أو نسمع به أبدًا معنا ولا مع غيرنا.
وأذكر أنني كنت- وقت رئاستي لاتحاد طلاب الجامعة-أطبع منشورًا فيه هجوم شديد على النظام في إحدى المطابع بمنطقة السيدة زينب، وتصادف أن الشيوعيين كانوا يطبعون منشورًا آخر في نفس المطبعة، وجاء إلي صاحب المطبعة ليخبرني أن الشيوعيين يطبعون منشورًا ضد الجماعة الإسلامية، ولا أدري من الذي أبلغ بوليس النجدة أنه ستقوم مشاجرة بين مجموعة من الطلاب- شيوعيين وجماعات- في السيدة زينب، فحضرت الشرطة في نفس الوقت الذي كنّا قد نقلنا المنشور معنا إلى السيارة التي ستنقله... أراد الضابط أن يوقفنا فرفضنا أن نطيع أوامره، فأطلق رصاصة على إحدى إطارات السيارة حتى لا نستطيع التحرك بها، فقامت بيننا وبينه مشاجرة كبيرة، وقمنا بتوجيه السباب والشتائم له وذهبنا إلى قسم شرطة السيدة زينب، حيث تم الاستيلاء على المنشور من السيارة، وبعد قليل وجدت المأمور يقول: لي تفضل إلى حيث تريد!! وكأن شيئًا لم يكن.
لم يعجبني هذا ولم أعتبر أنها مكرمة فطلبت منه المنشور الذي صادرته الشرطة فرفض إعطاءه لي، فقلت له إنني لن أتحرك من قسم الشرطة إلا بعد أن آخذ المنشور معي!، فأصر على الرفض واتصل بضابط من جهاز مباحث أمن الدولة فأخذ الضابط يرجوني أن أذهب من دون المنشور، ولما رفضت الخروج من قسم الشرطة، اتصلوا بنائب رئيس الجامعة الدكتور محمود درويش، فأتى إلى قسم الشرطة لكي يقنعني بأن أنصرف من دون المنشور، كل ذلك وأنا مصمم على رأيي!! ولم أتنازل حتى أخذت معي المنشور أخيرًا وذهبت مع الدكتور محمود درويش في سيارته إلى الجامعة ومعي المنشور، لتهدئة زملائي في اتحاد الطلاب والجماعة الإسلامية الذين كانوا قد انطلقوا في مظاهرات عارمة داخل الجامعة احتجاجًا على القبض عليّ!!.
كانت حياتنا عادية ومستقرة حتى ونحن نقيم الدنيا ولا نقعدها مظاهرات وإضرابات واحتجاجات... ولا أتذكر أنني كنت هدفا للتضييق أو المنع من قبل الدولة إلا مرة واحدة؛ وهي بعد تخرجي... فحين حصلت على شهادة البكالوريوس من كلية الطب عام 1977 كان ترتيبي العشرين بين خريجي دفعتي بتقدير(جيد جدا مع مرتبة الشرف)... فصدر قرار بتعييني في الجامعة، وكنت كلما أعلنت إحدى كليات الطب عن تعيين معيدين أتقدم لها فإذا بها تلغي قرار التعيين فيها... فلا تقبلني ولا تقبل غيري من الطلاب... وظللت على هذا الحال فترة حتى قابلني أحد الزملاء بعد ذلك في إحدى طرقات كلية طب قصر العيني وكان ثائرًا جدًا ويصرخ في وجهي يتهمني بأنني تسببت في ضياع مستقبله!!... تمالكت نفسي وهدّأته ثم سألته عن سبب هذا الاتهام ، فأخبرني بأنه علم من قريب له مسؤول في الدولة أنهم يلغون الوظائف التي تعلن عنها الكليات بسبب تقدمي أنا لها... ومن ثم فلن يجد فرصة للتعيين هو وآخرون بسببي!... وأمام هذا لم أجد سوى الاعتذار له ووعده أنني لن أتقدم لأي وظيفة من التي تعلن عنها الكليات مرة أخرى... وقد علمت أن السبب في ذلك موقفي من الرئيس السادات الذي قرر عقابي بمنعي من التعيين في أي جامعة من جامعات مصر... وهو عقاب أقل بكثير مما يستطيعه رئيس جمهورية تعرض لما تعرض له السادات.
الحلقة الرابعة
الصدام مع السادات ..على الهوا!
كانت مصر تعيش توترا وأجواء غليان بسبب الرفض الشعبي لموقف الرئيس السادات واتجاهه للصلح مع العدو الصهيوني… وفي شهر يناير من عام 1977 أعلنت الحكومة رفع أسعار عدد من السلع الرئيسية ومن بينها الخبز الذي هو أهم سلعة للشعب المصري المطحون حتى إنهم يسمونه " العيش" كأنه لا يمكن العيش من دونه!، فكان أن اندلعت مظاهرات شعبية عارمة احتجاجا على هذا القرار وعلى غلاء المعيشة وهي المظاهرات التي عرفت بمظاهرات الخبز والتي سماها السادات " انتفاضة الحرامية" .
كانت مظاهرات شعبية عفوية وتلقائية دون تنظيم من أحد، ولكن اليساريين حاولوا أن يركبوا موجتها ويستغلوا الوضع وكأنهم هم المنظمون لها. وقد شاركت شخصيا في هذه المظاهرات ككثير ممن شاركوا، وكانت مشاركتي ومشاركة أخوة كثيرين كأفراد وليس كتيار سياسي؛ وجدنا مظاهرات تجتاح البلاد فشاركنا فيها ضمن حالة السخط والغضب على سياسات الحكومة وموجة الغلاء... والحقيقة أن ما حدث كان دليلا على حيوية الشعب المصري؛ فقد كانت ارتفاعات الأسعار طفيفة وقد لا تذكر إذا ما قورنت بما يجري الآن ولا يتحرك له أحد!... كان الشعب المصري أيام السادات على درجة عالية من الوعي والحيوية دفعته للتحرك مباشرة ومن دون توجيه من أحد للنزول إلى الشارع احتجاجا وغضبا... نزلنا الشارع كبقية الشعب ولم يكن لنا ولا لغيرنا أي دور قيادي لهذه الانتفاضة.
وقد تصور السادات أن هناك تنظيمًا وراء هذه الثورة الشعبية للإطاحة به، لذلك خرج بطائرته سريعا من القاهرة إلى أسوان، وحين علم أن الأمر هو انتفاضة شعبية لم يكن وراءها أحد، عاد إلى القاهرة بعد سيطرة الجيش على الوضع، وألقى خطابه الذي ذكر فيه أن الديموقراطية لها أنياب.
بعد هدوء الوضع واستتباب الأمن بدأ النظام التحرك لامتصاص الغضب وإعادة الهدوء للبلاد… وقرر السادات- وكانت هذه عادته- أن يلتقي ببعض القوى السياسية والصحفيين والمفكرين، وكان من الذين التقى بهم، اتحاد طلاب الجامعات، وكنت في هذا الوقت رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة وأمين لجنة الإعلام باتحاد طلاب مصر.
أبلغنا بموعد اللقاء وكان في فبراير 1977، ذهبنا للقاء الرئيس في استراحته بالقناطر الخيرية وكان هناك عدد من أركان النظام، وكان منهم بطبيعة الحال حسني مبارك نائب الرئيس ومصطفى كمال حلمي وزير التعليم العالي وقتها ورئيس مجلس الشورى فيما بعد.
وكان هذا اللقاء على الهواء ينقله التلفزيون ووكالات الأنباء والصحف وكل وسائل الإعلام لكي يعطي انطباعًا للعالم أنه يلتقي مع جميع طبقات الشعب، وأن المصريين ملتفون حوله، وأن الذي حدث ليس إلا "انتفاضة حرامية " وليست انتفاضة شعبية.
وبدأ اللقاء بحديث الرئيس وبعد ذلك طلب منا الكلام، وكنت أنا الملتحي الوحيد في مجلس الاتحاد، وأذكر من زملائي الحاضرين حمدين صباحي (النائب في مجلس الشعب المصري) وشعبان حافظ وزياد عودة وهو ابن الشهيد عبد القادر عودة ولكنه كان ناصريا!.
رفعت يدي أكثر من مرة لأتكلم ولكنه كان يتجاهلني ولم أكن أدري سبب هذا التجاهل، وحين لم يرد الرئيس أن يأذن لي بالحديث قمت واتجهت للميكروفون دون إذن من أحد، وتكلمت وكانت كلمتي قاسية.
تحدثت إليه عن دور الدولة تجاه الشباب وكيف أنه صار غير واضح ما تريده الدولة منّا، وأن هناك تناقضا بين العلم والإيمان الذي يدعو إليه الرئيس وبين الممارسات الفعلية للدولة، وضربت له مثلا بما حدث مع فضيلة الشيخ الغزالي الذي أبعد من وظيفته كداعية وعالم يتصل بالناس ويعلمهم ووضع في عمل إداري، وكيف تعاملت الدولة مع المظاهرات السلمية التي نظمها الطلاب اعتراضًا على ذلك، حيث هاجمتها قوات الأمن المركزي... وكيف أنه بهذا المنطق لم يعد حوله إلا من ينافقونه… وحين سمع السادات كلامي بدا عليه التأثر والانفعال ثم مال برأسه إلى أسفل حتى خشيت عليه من أن يكون قد أصابه مكروه… وخمنت- كطبيب -أنه ربما تأثر صحيا… لكنه سرعان ما رفع رأسه غاضبا غضبا شديدا واحتد عليّ وصرخ في وجهي: اقف مكانك… اقف مكانك… وأخذ يرد على كلامي بقسوة... ولم أستطع أن أكمل كلمتي أو أستعرض النقاط الأخرى التي أردت أن أكلمه فيها.
خوف عليّ... ومحاولات لسحب اعتذار للسادات
كانت المواجهة على الهواء، وخرجت بعض الصحف القومية تهاجمني وتتهمني بأنني قد تجاوزت حدود اللياقة، فيما طرح البعض الآخر الموضوع على أنه شجاعة وجرأة قابلتها سعة صدر من السيد الرئيس الأب والمعلم.
وقد كانت هذه المواجهة سببا في قلق الكثيرين من إخواني وأصدقائي وأقاربي على ما قد يحدث لي من جرائها... أذكر أن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله قد أرسل لي يطمئن علي وكان قد تأثر بما ذكرته من دفاع عن الشيخ ونقد لإبعاده عن منبره وجمهوره إلى وظيفة إدارية... وأتذكر أن محمد عبد القدوس قد زارني في اليوم التالي للواقعة، وأحسب أنها كانت بطلب من الشيخ الغزالي للاطمئنان عليّ، فقد كانت تجمع عبد القدوس والشيخ الغزالي وقتها محبة توثـقـت فيما بعد بزواج محمد عبد القدوس بابنة الشيخ الغزالي.
لم يتعرض لي أحد ولم أستدع من أي جهاز أمني، اللهم إلا محاولات غير مباشرة من بعض الشخصيات لكي أعتذر للرئيس، منها ما فعله د.صوفي أبو طالب الذي كان رئيسا للجامعة، فقد فوجئت به بعدها يسألني عن رأيي في زيارة للرئيس السادات.
فسألته: ماذا أفعل في تلك الزيارة؟ فرد قائلا: لكي تقول للريّس ما عندك.
وقد أدركت هدفه من هذه الزيارة وهو أن أظهر أمام الإعلام أنني ذهبت للاعتذار للسيد الرئيس... فقلت له: سوف أفكر في ذلك ثم أتخذ قرارًا... وأراد هو أن ينتزع مني موافقة فورية على هذه الزيارة، ولكنني اعتذرت أخيرًا بطريقة مهذبة، ولم أوافق عليها.
المستقبل: تنظيم جديد أم إحياء لقديم؟
وفي إطار تطور العمل الإسلامي في الجماعة جرى النقاش بيننا مبكرا في قضيتين منفصلتين ولكنهما متصلتان أيضا الأولى تتعلق بمبدأ تنظيم الجماعة الإسلامية الجديدة التي كانت عفوية تلقائية في ظهورها وتطورها، والثانية تتعلق بالشكل الذي يفترض أن يكون عليه تنظيم الجماعة؛ هل ننشئ تنظيما جديدا مستقلا أم نلتحق بتنظيم الإخوان بعد خروجهم من السجون؟
كانت القضية مطروحة للنقاش مبكرا وحتى قبل خروج الإخوان من السجون، ولكنها صارت أكثر حضورا وإلحاحا مع اقتراب خروجهم والذي يمكن أن نؤرخ له ببداية عام 1974، كان موت جمال عبد الناصر بداية الأمل... ثم وجدنا في سياسات السادات ما يؤشر بقوة علي قرب الخروج الكبير للإخوان.
في بداية السبعينيات لم تكن هناك تنظيمات إسلامية يمكن أن تغرينا بالتفكير في الانضمام لها، كانت هناك فقط بعض الجمعيات الدعوية والخيرية محدودة التأثير وغير منظمة العضوية مثل الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة؛ إضافة إلى تنظيمات سرية صغيرة علمنا بها في وقتها أو فيما بعد، ولم يكن لها من العلانية أو الرؤية ما يجعلها محط اهتمام لنا أو محور نقاش في مستقبل العلاقة معها على الرغم من محاولات بعضها الاتصال بنا أو استقطاب بعضنا... مثل بقايا (جماعة المسلمين) أتباع شكري مصطفى الذين أعتبرهم من بقايا تنظيم 1965 والذين جرت تسميتهم فيما بعد بجماعة (التكفير والهجرة) ومثل مجموعة الفنية العسكرية التي لم نكن نعرفها حتى فشل عمليتها الانقلابية والتي اكتشفنا معها أنها نجحت في استقطاب اثنين ممن كانوا يشاركوننا العمل العام في الجماعة الإسلامية بكلية طب القصر العيني.
كنّا – مجموعة الجماعة الإسلامية- نرفض الاتصال بتلك التنظيمات السرية الأخرى، ورغم ذلك أخذنا نتداول كل ما كانوا يكتبونه في كراساتهم الخاصة التي كانوا يأتون بها إلينا، خاصة جماعة المسلمين(التكفير والهجرة) فهؤلاء خاصة رفضنا أفكارهم بشكل قطعي، لقيامها على تكفير المجتمع كلية. وقد أدركنا خطورة هذه الأفكار -مبكرا- فتعقبناها وطاردناها بل طاردنا أصحابها الذين كانوا يتصلون بغيرنا وينشرون بينهم كراساتهم "التكفيرية" ،وأذكر أن أبرز أفراد مجموعتنا الذين تصدوا لهذه الأفكار التكفيرية وكان له دور فعال في هذا الأمر الأخ عصام حشيش (هو الآن أستاذ في كلية الهندسة بجامعة القاهرة)، والذي كان له اهتمام خاص بقضية التكفير وبتعقب أفكارها ومقولاتها.
نحن والفنية العسكرية
في أبريل من عام 1974 فوجئنا بأول عمل إسلامي مسلح في جيلنا، وهو محاولة بعض الشباب الإسلامي الهجوم المسلح على الكلية الفنية العسكرية والاستيلاء على أسحلتها ومن ثم التوجه للسيطرة على مقر الاتحاد الاشتراكي والقبض على الرئيس السادات وأركان حكمه المجتمعين وقتها وإعلان أول انقلاب إسلامي يذاع بيانه الأول من مبنى الإذاعة والتلفزيون الكائن على بعد خطوات من مقر الاتحاد الاشتراكي.
كان قائد التنظيم وعقله المدبر صالح سرية وهو فلسطيني كان يعمل موظفا بالجامعة العربية بالقاهرة وكانت له نشاطات إسلامية في بلده فلسطين ثم العراق قبل أن يستقر في مصر... وكان معه في القيادة عدد من الشباب الإسلامي في جامعة الإسكندرية وفي الكلية الفنية العسكرية من أشهرهم طلال الأنصاري وكارم الأناضولي.
وحين وقعت المحاولة التي كان محكوما عليها بالفشل وأعلن عنها في الصحف وجدنا أن بقائمة المتهمين عضوين في تنظيم الفنية العسكرية يعملان معنا في العمل العام بكلية طب القصر العيني، وهما مصطفى يسري وأسامة خليفة، ولم نكن نعرف أنهما منضمان لهذا التنظيم، إذ لم يخبرا أحدا منّا، ولم يكن هناك ما يدل – من سلوكهما – على أنهما بصدد القيام بعمل عسكري.
وباعتباري رئيسا لاتحاد الطلاب فقد حضرت جميع جلسات القضية مدافعا عن الطلبة المتهمين باعتباري رئيسا لاتحاد الكلية التي يدرسان بها، كما وكّل اتحاد الطلاب المحامي الأستاذ الدكتور عبد الله رشوان للدفاع عنهما... وقد حكم عليهما في القضية بالسجن بعد فشل عمليتهم.
في ذلك الوقت كانت فكرة استخدام العنف في التغيير مقبولة عندنا أو على الأقل لا تجد منا رفضا صريحا لها... فالمسألة لم تكن محسومة لدينا كما هي الآن... وكان أقصى خلافنا مع من تبنوا العنف منهجا للتغيير أنهم يتعجلون بطرح أفكارهم في غير أوانها... وكان خلافنا حول التوقيت فقط والملائمة لأننا كنّا نعتبر أننا – في هذا الوقت- لا نملك القدرة ولا نرى الوقت مناسبا... ولم يكن رفضنا مبدئيا... فالعنف كان مقبولا والاختلاف حول توقيته وجدواه فحسب... لقد كانت أفكارنا – في هذا الوقت- مزيجًا غريبا من السلفية والجهادية وبعض من الإخوان المسلمين، ولذلك كانت مسألة استخدام العنف في التغيير مرفوضة من المبدأ.
لقد كان الأخوان: مصطفى يسري وأسامة خليفة يدعوان لمبدأ العنف من أجل التغيير ولكنهما لم يكونا يدعوان إلى تنظيم معين أو للمشاركة في عملية بعينها... لهذا لم نكن نعلم عنهما أنهما في تنظيم أصلاً، ومن ثم فقد فوجئنا بحادثة اقتحام الكلية الفنية العسكرية.
وما أعلمه يقينا أنه لم تكن هناك أي صلة بين هذين الطالبين – وقتها - وبين الإخوان المسلمين لا من قريب أو بعيد. ولم يذكر أحد منهما ولا من بقية المتهمين أي شيء يؤكد وجود علاقة بين الإخوان وبين تنظيم الفنية العسكرية.
وأنا أكتب هذه الشهادة نشرت شهادة طلال الأنصاري الوحيد الذي خفف عنه الحكم بالإعدام من بين ثلاثة هم صالح سرية (قائد التنظيم) وكارم الأناضولي، وقد نشرتها مجلة روز اليوسف المعادية للإخوان والتيار الإسلامي عموما! وقد لاحظت أن طلال يكرر في هذه الشهادة الحديث عن علاقته بالإخوان بما يوحي بصلة الإخوان بالتنظيم أو وقوفهم وراء محاولته الانقلابية، وهو يدلس في هذه الشهادة حين يدعّي وجود صلة من هذا النوع بالإخوان؛ فالحاصل أن الإخوان كانوا آنذاك محط احترام الشباب وكان من الفخر لأبناء جيلنا أن يجلس أحد منا مع أحد الإخوان الخارجين من المعتقلات حديثًا، ولا مانع أن يكون طلال قد اتصل بهم كما اتصل بهم كل الشباب الإسلامي من أبناء جيلنا دون أن يكون ذلك دليلا على صلة تنظيمية.
والدليل على أن ما ذكره طلال في شهادته محض افتراء وأنه لم يحدث، أن أحدا من المتهمين الآخرين لم يذكر الإخوان في أقواله من قريب أو بعيد، كما لم يتم التحقيق مع أي من أفراد جماعة الإخوان أثناء التحقيق في القضية.
كما أن حادثة الفنية العسكرية وقعت في نفس العام الذي بدأ السادات يفرج عن الإخوان ويخرجهم من المعتقلات. فكيف يعقل أن الإخوان يفكرون أو يقدرون على القيام بتنظيم انقلابي بهذا الشكل على السادات الذي أخرجهم من سنوات السجن والتعذيب؟!.
ولا يجب عزل شهادة طلال في هذا الموضوع عن طبيعته الشخصية، فقد كان طلال الوحيد من المجموعة التي قبض عليها الذي انهار واعترف بكل شيء من البداية إلى النهاية وأفشى أسرار زملائه... ومن ثم فلا أستبعد أن ما يقوله عن علاقته بالإخوان هو من خياله أو تأليفه.
جماعة واحدة ومراجع إسلامية مختلفة
حين بدأنا العمل الإسلامي في الجامعة كنّا مجموعة لا يجمعها فعليا إلا الهمّ والرغبة الحقيقية في العمل لنصرة الإسلام، دون أن تكون لدينا مرجعية فكرية وشرعية تجمعنا.
كنّا نأخذ وننهل من مراجع فكرية وشرعية مختلفة بل ومتناقضة، كنّا قد سمعنا وقرأنا للشيوخ محمد الغزالي ومحمد أبو زهرة وسيد سابق ويوسف القرضاوي... وكذلك الأساتذة عيسى عبده والبهي الخولي وكمال أبو المجد... وغير هؤلاء من مدرسة الاعتدال والوسطية... كما انفتحنا مبكرا أيضا على نقيضها وقرأنا الكتابات الثورية للشهيد سيد قطب والأستاذ أبو الأعلى المودودي... والتي طالما ألهبت عواطفنا ومشاعرنا وغذتنا بروح الثورة والتمرد وحركت همنا للعمل.
كما كنّا نحضر دروس شيوخ الجمعية الشرعية القريبة في بعض أفكارها من الإخوان وإن غلبت العمل الخيري والدعوي وابتعدت عن العمل السياسي، كما كنّا نحضر لشيوخ جماعة أنصار السنة التي تقترب إلى حد كبير من الفكر الوهابي... وكان مؤسسها الشيخ حامد الفقي أهم من قدّم رموز السلفية الوهابية ونقلها لمصر.
وقد تأثرنا كثيرا بالتيار السلفي في مرحلة مبكرة من تكويننا الإسلامي، وأظن أن السلفية الوهابية أقحمت على المشروع الإسلامي في مصر إقحاما... في هذا الوقت كانت الكتب الإسلامية تأتينا من السعودية بالمئات بل والآلاف وكانت كلها هدايا لا تكلفنا شيئا.
كما مهد لانتشار الوهابية بيننا رحلات العمرة التي كنا ننظمها من خلال اتحاد الطلاب طوال الصيف، وكانت أول مرة اعتمرت فيها عام 1974 وكلفتني رحلة العمرة خمسة وعشرين جنيهًا فقط، وأذكر أنني زرت السعودية بصفتي ممثلا للجماعة الإسلامية في مصر، وكان العلماء هناك يرحبون بنا كثيرا ويحسنون استقبالنا ويعتبروننا امتدادًا لهم هنا في مصر.
في هذه الاثناء كنّا- مثلا- نؤمن بجواز استخدام العنف بل وجوبه في بعض الأحيان من أجل نشر دعوتنا وإقامة فكرتنا، وكان العنف بالنسبة إلينا مبررا بل وشرعيا، وكان الخلاف بيننا في توقيته ومدى استكمال عدته فحسب. كانت الفكرة المسيطرة على مجموعتنا نحن ألا نستخدم القوة الآن، وإنما نُعدُّ أنفسنا لاستخدامها حين تقوى شوكتنا ونصبح قادرين على القضاء على هذا النظام الممسك بالحكم. ولكن الفرق بيننا وبين من مارسوا العنف وأطلقوا على أنفسهم اسم (جماعة الجهاد) أنهم تعجلوا الأمور، ونفذوا ما اعتقدوه بسرعة ودون حسابات دقيقة!!
وقد ظلت هذه الفكرة مسيطرة علينا حتى أواخر السبعينيات، حتى بعد دخولنا جماعة الإخوان المسلمين، إلى أن بدأنا نراجعها تدريجيا وكان للأستاذ عمر التلمساني رحمه الله الدور الرئيس في حسم مسألة العنف وتأكيد التوجه السلمي ليس لدينا فقط – نحن أبناء الجماعة الإسلامية التي قررت الانضواء تحت الإخوان بل ولدى كثير من الإخوان المسلمين أيضا من أجيال سابقة علينا خاصة أبناء تنظيم 1965 الذي عرف بتنظيم سيد قطب. (وهو ما سنشير إليه لاحقا).
وأعتقد أن هذا التوجه الاستراتيجي الجديد الذي خطه أستاذنا التلمساني هو الذي مكن للإخوان في المجتمع المصري وقضى على بذور الفكر الاستئصالي الذي كان يمكن أن ينمو ويترعرع بين بعض الإخوانوكنّا كجماعة إسلامية ناشئة بلا تراث ولا تقليد سياسي قصار النظر في مسألة الدولة ومنطقها وفلسفتها... وكنّا نستحضر في أذهاننا تجارب بدائية بسيطة ترجع إلى ما قبل نشأة الدولة الحديثة، إقامة الدولة في نظرنا كان يعني عودة الخلافة الإسلامية، وعودتها تتم من منطلق عقائدي بحث وليس من منطلق سياسي، وتخضع لحسابات عقائدية وأخلاقية وليست لسنن وضوابط واقعية، وكانت دولتنا "الحلم" دولة الشريعة التي تقيم الحدود وتجري العقاب دون تردد أو نظر لأي خلاف أو مقاربة فقهية معتبرة.
وكانت مؤسسات الدولة في نظرنا تمثل خروجًا عن روح الإسلام ويجب أن تزال ويقام بدلا منها نموذج إسلامي. وكانت السيطرة على الدولة تقوم على تفكير انقلابي بسيط ساذج، وهو ما تم بالفعل، حين قام به بعض الشباب المخلصين الطيبين من التنظيم الذي عرف باسم "تنظيم الفنية العسكرية"، فقد تدربوا على بعض الأسلحة الخفيفة وتجمعوا للاستيلاء على الحكم بأن يتوجه بعضهم للسيطرة على مكان إقامة الرئيس السادات والبعض الآخر على مبنى الإذاعة والتليفزيون ليعلنوا منه إقامة الدولة، ثم يقومون بتطهير المجتمع من الرجس السائد فيه!!
كان هذا تفكير مجموعة إسلامية من جيلنا لإقامة دولة جديدة في بلد كمصر من أقدم بلاد العالم وأكثرها مركزية!... وبالطبع كان لابد لهذا الانقلاب الساذج من الفشل الذي دفع ثمنه الضحايا من الجنود البسطاء الذين لا ذنب لهم... ورغم ذلك كنّا ننظر لهذه العملية التي قام بها زملاء من جيلنا على أنها تجربة حقيقية لإقامة الدولة ولكنها فشلت ولم توفق، فلم نرفضها في ذلك الوقت، ولم نكن ننظر إليها على أنها تجربة ساذجة لن تجدي نفعًا!.
كانت مصر تعيش توترا وأجواء غليان بسبب الرفض الشعبي لموقف الرئيس السادات واتجاهه للصلح مع العدو الصهيوني… وفي شهر يناير من عام 1977 أعلنت الحكومة رفع أسعار عدد من السلع الرئيسية ومن بينها الخبز الذي هو أهم سلعة للشعب المصري المطحون حتى إنهم يسمونه " العيش" كأنه لا يمكن العيش من دونه!، فكان أن اندلعت مظاهرات شعبية عارمة احتجاجا على هذا القرار وعلى غلاء المعيشة وهي المظاهرات التي عرفت بمظاهرات الخبز والتي سماها السادات " انتفاضة الحرامية" .
كانت مظاهرات شعبية عفوية وتلقائية دون تنظيم من أحد، ولكن اليساريين حاولوا أن يركبوا موجتها ويستغلوا الوضع وكأنهم هم المنظمون لها. وقد شاركت شخصيا في هذه المظاهرات ككثير ممن شاركوا، وكانت مشاركتي ومشاركة أخوة كثيرين كأفراد وليس كتيار سياسي؛ وجدنا مظاهرات تجتاح البلاد فشاركنا فيها ضمن حالة السخط والغضب على سياسات الحكومة وموجة الغلاء... والحقيقة أن ما حدث كان دليلا على حيوية الشعب المصري؛ فقد كانت ارتفاعات الأسعار طفيفة وقد لا تذكر إذا ما قورنت بما يجري الآن ولا يتحرك له أحد!... كان الشعب المصري أيام السادات على درجة عالية من الوعي والحيوية دفعته للتحرك مباشرة ومن دون توجيه من أحد للنزول إلى الشارع احتجاجا وغضبا... نزلنا الشارع كبقية الشعب ولم يكن لنا ولا لغيرنا أي دور قيادي لهذه الانتفاضة.
وقد تصور السادات أن هناك تنظيمًا وراء هذه الثورة الشعبية للإطاحة به، لذلك خرج بطائرته سريعا من القاهرة إلى أسوان، وحين علم أن الأمر هو انتفاضة شعبية لم يكن وراءها أحد، عاد إلى القاهرة بعد سيطرة الجيش على الوضع، وألقى خطابه الذي ذكر فيه أن الديموقراطية لها أنياب.
بعد هدوء الوضع واستتباب الأمن بدأ النظام التحرك لامتصاص الغضب وإعادة الهدوء للبلاد… وقرر السادات- وكانت هذه عادته- أن يلتقي ببعض القوى السياسية والصحفيين والمفكرين، وكان من الذين التقى بهم، اتحاد طلاب الجامعات، وكنت في هذا الوقت رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة وأمين لجنة الإعلام باتحاد طلاب مصر.
أبلغنا بموعد اللقاء وكان في فبراير 1977، ذهبنا للقاء الرئيس في استراحته بالقناطر الخيرية وكان هناك عدد من أركان النظام، وكان منهم بطبيعة الحال حسني مبارك نائب الرئيس ومصطفى كمال حلمي وزير التعليم العالي وقتها ورئيس مجلس الشورى فيما بعد.
وكان هذا اللقاء على الهواء ينقله التلفزيون ووكالات الأنباء والصحف وكل وسائل الإعلام لكي يعطي انطباعًا للعالم أنه يلتقي مع جميع طبقات الشعب، وأن المصريين ملتفون حوله، وأن الذي حدث ليس إلا "انتفاضة حرامية " وليست انتفاضة شعبية.
وبدأ اللقاء بحديث الرئيس وبعد ذلك طلب منا الكلام، وكنت أنا الملتحي الوحيد في مجلس الاتحاد، وأذكر من زملائي الحاضرين حمدين صباحي (النائب في مجلس الشعب المصري) وشعبان حافظ وزياد عودة وهو ابن الشهيد عبد القادر عودة ولكنه كان ناصريا!.
رفعت يدي أكثر من مرة لأتكلم ولكنه كان يتجاهلني ولم أكن أدري سبب هذا التجاهل، وحين لم يرد الرئيس أن يأذن لي بالحديث قمت واتجهت للميكروفون دون إذن من أحد، وتكلمت وكانت كلمتي قاسية.
تحدثت إليه عن دور الدولة تجاه الشباب وكيف أنه صار غير واضح ما تريده الدولة منّا، وأن هناك تناقضا بين العلم والإيمان الذي يدعو إليه الرئيس وبين الممارسات الفعلية للدولة، وضربت له مثلا بما حدث مع فضيلة الشيخ الغزالي الذي أبعد من وظيفته كداعية وعالم يتصل بالناس ويعلمهم ووضع في عمل إداري، وكيف تعاملت الدولة مع المظاهرات السلمية التي نظمها الطلاب اعتراضًا على ذلك، حيث هاجمتها قوات الأمن المركزي... وكيف أنه بهذا المنطق لم يعد حوله إلا من ينافقونه… وحين سمع السادات كلامي بدا عليه التأثر والانفعال ثم مال برأسه إلى أسفل حتى خشيت عليه من أن يكون قد أصابه مكروه… وخمنت- كطبيب -أنه ربما تأثر صحيا… لكنه سرعان ما رفع رأسه غاضبا غضبا شديدا واحتد عليّ وصرخ في وجهي: اقف مكانك… اقف مكانك… وأخذ يرد على كلامي بقسوة... ولم أستطع أن أكمل كلمتي أو أستعرض النقاط الأخرى التي أردت أن أكلمه فيها.
خوف عليّ... ومحاولات لسحب اعتذار للسادات
كانت المواجهة على الهواء، وخرجت بعض الصحف القومية تهاجمني وتتهمني بأنني قد تجاوزت حدود اللياقة، فيما طرح البعض الآخر الموضوع على أنه شجاعة وجرأة قابلتها سعة صدر من السيد الرئيس الأب والمعلم.
وقد كانت هذه المواجهة سببا في قلق الكثيرين من إخواني وأصدقائي وأقاربي على ما قد يحدث لي من جرائها... أذكر أن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله قد أرسل لي يطمئن علي وكان قد تأثر بما ذكرته من دفاع عن الشيخ ونقد لإبعاده عن منبره وجمهوره إلى وظيفة إدارية... وأتذكر أن محمد عبد القدوس قد زارني في اليوم التالي للواقعة، وأحسب أنها كانت بطلب من الشيخ الغزالي للاطمئنان عليّ، فقد كانت تجمع عبد القدوس والشيخ الغزالي وقتها محبة توثـقـت فيما بعد بزواج محمد عبد القدوس بابنة الشيخ الغزالي.
لم يتعرض لي أحد ولم أستدع من أي جهاز أمني، اللهم إلا محاولات غير مباشرة من بعض الشخصيات لكي أعتذر للرئيس، منها ما فعله د.صوفي أبو طالب الذي كان رئيسا للجامعة، فقد فوجئت به بعدها يسألني عن رأيي في زيارة للرئيس السادات.
فسألته: ماذا أفعل في تلك الزيارة؟ فرد قائلا: لكي تقول للريّس ما عندك.
وقد أدركت هدفه من هذه الزيارة وهو أن أظهر أمام الإعلام أنني ذهبت للاعتذار للسيد الرئيس... فقلت له: سوف أفكر في ذلك ثم أتخذ قرارًا... وأراد هو أن ينتزع مني موافقة فورية على هذه الزيارة، ولكنني اعتذرت أخيرًا بطريقة مهذبة، ولم أوافق عليها.
المستقبل: تنظيم جديد أم إحياء لقديم؟
وفي إطار تطور العمل الإسلامي في الجماعة جرى النقاش بيننا مبكرا في قضيتين منفصلتين ولكنهما متصلتان أيضا الأولى تتعلق بمبدأ تنظيم الجماعة الإسلامية الجديدة التي كانت عفوية تلقائية في ظهورها وتطورها، والثانية تتعلق بالشكل الذي يفترض أن يكون عليه تنظيم الجماعة؛ هل ننشئ تنظيما جديدا مستقلا أم نلتحق بتنظيم الإخوان بعد خروجهم من السجون؟
كانت القضية مطروحة للنقاش مبكرا وحتى قبل خروج الإخوان من السجون، ولكنها صارت أكثر حضورا وإلحاحا مع اقتراب خروجهم والذي يمكن أن نؤرخ له ببداية عام 1974، كان موت جمال عبد الناصر بداية الأمل... ثم وجدنا في سياسات السادات ما يؤشر بقوة علي قرب الخروج الكبير للإخوان.
في بداية السبعينيات لم تكن هناك تنظيمات إسلامية يمكن أن تغرينا بالتفكير في الانضمام لها، كانت هناك فقط بعض الجمعيات الدعوية والخيرية محدودة التأثير وغير منظمة العضوية مثل الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة؛ إضافة إلى تنظيمات سرية صغيرة علمنا بها في وقتها أو فيما بعد، ولم يكن لها من العلانية أو الرؤية ما يجعلها محط اهتمام لنا أو محور نقاش في مستقبل العلاقة معها على الرغم من محاولات بعضها الاتصال بنا أو استقطاب بعضنا... مثل بقايا (جماعة المسلمين) أتباع شكري مصطفى الذين أعتبرهم من بقايا تنظيم 1965 والذين جرت تسميتهم فيما بعد بجماعة (التكفير والهجرة) ومثل مجموعة الفنية العسكرية التي لم نكن نعرفها حتى فشل عمليتها الانقلابية والتي اكتشفنا معها أنها نجحت في استقطاب اثنين ممن كانوا يشاركوننا العمل العام في الجماعة الإسلامية بكلية طب القصر العيني.
كنّا – مجموعة الجماعة الإسلامية- نرفض الاتصال بتلك التنظيمات السرية الأخرى، ورغم ذلك أخذنا نتداول كل ما كانوا يكتبونه في كراساتهم الخاصة التي كانوا يأتون بها إلينا، خاصة جماعة المسلمين(التكفير والهجرة) فهؤلاء خاصة رفضنا أفكارهم بشكل قطعي، لقيامها على تكفير المجتمع كلية. وقد أدركنا خطورة هذه الأفكار -مبكرا- فتعقبناها وطاردناها بل طاردنا أصحابها الذين كانوا يتصلون بغيرنا وينشرون بينهم كراساتهم "التكفيرية" ،وأذكر أن أبرز أفراد مجموعتنا الذين تصدوا لهذه الأفكار التكفيرية وكان له دور فعال في هذا الأمر الأخ عصام حشيش (هو الآن أستاذ في كلية الهندسة بجامعة القاهرة)، والذي كان له اهتمام خاص بقضية التكفير وبتعقب أفكارها ومقولاتها.
نحن والفنية العسكرية
في أبريل من عام 1974 فوجئنا بأول عمل إسلامي مسلح في جيلنا، وهو محاولة بعض الشباب الإسلامي الهجوم المسلح على الكلية الفنية العسكرية والاستيلاء على أسحلتها ومن ثم التوجه للسيطرة على مقر الاتحاد الاشتراكي والقبض على الرئيس السادات وأركان حكمه المجتمعين وقتها وإعلان أول انقلاب إسلامي يذاع بيانه الأول من مبنى الإذاعة والتلفزيون الكائن على بعد خطوات من مقر الاتحاد الاشتراكي.
كان قائد التنظيم وعقله المدبر صالح سرية وهو فلسطيني كان يعمل موظفا بالجامعة العربية بالقاهرة وكانت له نشاطات إسلامية في بلده فلسطين ثم العراق قبل أن يستقر في مصر... وكان معه في القيادة عدد من الشباب الإسلامي في جامعة الإسكندرية وفي الكلية الفنية العسكرية من أشهرهم طلال الأنصاري وكارم الأناضولي.
وحين وقعت المحاولة التي كان محكوما عليها بالفشل وأعلن عنها في الصحف وجدنا أن بقائمة المتهمين عضوين في تنظيم الفنية العسكرية يعملان معنا في العمل العام بكلية طب القصر العيني، وهما مصطفى يسري وأسامة خليفة، ولم نكن نعرف أنهما منضمان لهذا التنظيم، إذ لم يخبرا أحدا منّا، ولم يكن هناك ما يدل – من سلوكهما – على أنهما بصدد القيام بعمل عسكري.
وباعتباري رئيسا لاتحاد الطلاب فقد حضرت جميع جلسات القضية مدافعا عن الطلبة المتهمين باعتباري رئيسا لاتحاد الكلية التي يدرسان بها، كما وكّل اتحاد الطلاب المحامي الأستاذ الدكتور عبد الله رشوان للدفاع عنهما... وقد حكم عليهما في القضية بالسجن بعد فشل عمليتهم.
في ذلك الوقت كانت فكرة استخدام العنف في التغيير مقبولة عندنا أو على الأقل لا تجد منا رفضا صريحا لها... فالمسألة لم تكن محسومة لدينا كما هي الآن... وكان أقصى خلافنا مع من تبنوا العنف منهجا للتغيير أنهم يتعجلون بطرح أفكارهم في غير أوانها... وكان خلافنا حول التوقيت فقط والملائمة لأننا كنّا نعتبر أننا – في هذا الوقت- لا نملك القدرة ولا نرى الوقت مناسبا... ولم يكن رفضنا مبدئيا... فالعنف كان مقبولا والاختلاف حول توقيته وجدواه فحسب... لقد كانت أفكارنا – في هذا الوقت- مزيجًا غريبا من السلفية والجهادية وبعض من الإخوان المسلمين، ولذلك كانت مسألة استخدام العنف في التغيير مرفوضة من المبدأ.
لقد كان الأخوان: مصطفى يسري وأسامة خليفة يدعوان لمبدأ العنف من أجل التغيير ولكنهما لم يكونا يدعوان إلى تنظيم معين أو للمشاركة في عملية بعينها... لهذا لم نكن نعلم عنهما أنهما في تنظيم أصلاً، ومن ثم فقد فوجئنا بحادثة اقتحام الكلية الفنية العسكرية.
وما أعلمه يقينا أنه لم تكن هناك أي صلة بين هذين الطالبين – وقتها - وبين الإخوان المسلمين لا من قريب أو بعيد. ولم يذكر أحد منهما ولا من بقية المتهمين أي شيء يؤكد وجود علاقة بين الإخوان وبين تنظيم الفنية العسكرية.
وأنا أكتب هذه الشهادة نشرت شهادة طلال الأنصاري الوحيد الذي خفف عنه الحكم بالإعدام من بين ثلاثة هم صالح سرية (قائد التنظيم) وكارم الأناضولي، وقد نشرتها مجلة روز اليوسف المعادية للإخوان والتيار الإسلامي عموما! وقد لاحظت أن طلال يكرر في هذه الشهادة الحديث عن علاقته بالإخوان بما يوحي بصلة الإخوان بالتنظيم أو وقوفهم وراء محاولته الانقلابية، وهو يدلس في هذه الشهادة حين يدعّي وجود صلة من هذا النوع بالإخوان؛ فالحاصل أن الإخوان كانوا آنذاك محط احترام الشباب وكان من الفخر لأبناء جيلنا أن يجلس أحد منا مع أحد الإخوان الخارجين من المعتقلات حديثًا، ولا مانع أن يكون طلال قد اتصل بهم كما اتصل بهم كل الشباب الإسلامي من أبناء جيلنا دون أن يكون ذلك دليلا على صلة تنظيمية.
والدليل على أن ما ذكره طلال في شهادته محض افتراء وأنه لم يحدث، أن أحدا من المتهمين الآخرين لم يذكر الإخوان في أقواله من قريب أو بعيد، كما لم يتم التحقيق مع أي من أفراد جماعة الإخوان أثناء التحقيق في القضية.
كما أن حادثة الفنية العسكرية وقعت في نفس العام الذي بدأ السادات يفرج عن الإخوان ويخرجهم من المعتقلات. فكيف يعقل أن الإخوان يفكرون أو يقدرون على القيام بتنظيم انقلابي بهذا الشكل على السادات الذي أخرجهم من سنوات السجن والتعذيب؟!.
ولا يجب عزل شهادة طلال في هذا الموضوع عن طبيعته الشخصية، فقد كان طلال الوحيد من المجموعة التي قبض عليها الذي انهار واعترف بكل شيء من البداية إلى النهاية وأفشى أسرار زملائه... ومن ثم فلا أستبعد أن ما يقوله عن علاقته بالإخوان هو من خياله أو تأليفه.
جماعة واحدة ومراجع إسلامية مختلفة
حين بدأنا العمل الإسلامي في الجامعة كنّا مجموعة لا يجمعها فعليا إلا الهمّ والرغبة الحقيقية في العمل لنصرة الإسلام، دون أن تكون لدينا مرجعية فكرية وشرعية تجمعنا.
كنّا نأخذ وننهل من مراجع فكرية وشرعية مختلفة بل ومتناقضة، كنّا قد سمعنا وقرأنا للشيوخ محمد الغزالي ومحمد أبو زهرة وسيد سابق ويوسف القرضاوي... وكذلك الأساتذة عيسى عبده والبهي الخولي وكمال أبو المجد... وغير هؤلاء من مدرسة الاعتدال والوسطية... كما انفتحنا مبكرا أيضا على نقيضها وقرأنا الكتابات الثورية للشهيد سيد قطب والأستاذ أبو الأعلى المودودي... والتي طالما ألهبت عواطفنا ومشاعرنا وغذتنا بروح الثورة والتمرد وحركت همنا للعمل.
كما كنّا نحضر دروس شيوخ الجمعية الشرعية القريبة في بعض أفكارها من الإخوان وإن غلبت العمل الخيري والدعوي وابتعدت عن العمل السياسي، كما كنّا نحضر لشيوخ جماعة أنصار السنة التي تقترب إلى حد كبير من الفكر الوهابي... وكان مؤسسها الشيخ حامد الفقي أهم من قدّم رموز السلفية الوهابية ونقلها لمصر.
وقد تأثرنا كثيرا بالتيار السلفي في مرحلة مبكرة من تكويننا الإسلامي، وأظن أن السلفية الوهابية أقحمت على المشروع الإسلامي في مصر إقحاما... في هذا الوقت كانت الكتب الإسلامية تأتينا من السعودية بالمئات بل والآلاف وكانت كلها هدايا لا تكلفنا شيئا.
كما مهد لانتشار الوهابية بيننا رحلات العمرة التي كنا ننظمها من خلال اتحاد الطلاب طوال الصيف، وكانت أول مرة اعتمرت فيها عام 1974 وكلفتني رحلة العمرة خمسة وعشرين جنيهًا فقط، وأذكر أنني زرت السعودية بصفتي ممثلا للجماعة الإسلامية في مصر، وكان العلماء هناك يرحبون بنا كثيرا ويحسنون استقبالنا ويعتبروننا امتدادًا لهم هنا في مصر.
في هذه الاثناء كنّا- مثلا- نؤمن بجواز استخدام العنف بل وجوبه في بعض الأحيان من أجل نشر دعوتنا وإقامة فكرتنا، وكان العنف بالنسبة إلينا مبررا بل وشرعيا، وكان الخلاف بيننا في توقيته ومدى استكمال عدته فحسب. كانت الفكرة المسيطرة على مجموعتنا نحن ألا نستخدم القوة الآن، وإنما نُعدُّ أنفسنا لاستخدامها حين تقوى شوكتنا ونصبح قادرين على القضاء على هذا النظام الممسك بالحكم. ولكن الفرق بيننا وبين من مارسوا العنف وأطلقوا على أنفسهم اسم (جماعة الجهاد) أنهم تعجلوا الأمور، ونفذوا ما اعتقدوه بسرعة ودون حسابات دقيقة!!
وقد ظلت هذه الفكرة مسيطرة علينا حتى أواخر السبعينيات، حتى بعد دخولنا جماعة الإخوان المسلمين، إلى أن بدأنا نراجعها تدريجيا وكان للأستاذ عمر التلمساني رحمه الله الدور الرئيس في حسم مسألة العنف وتأكيد التوجه السلمي ليس لدينا فقط – نحن أبناء الجماعة الإسلامية التي قررت الانضواء تحت الإخوان بل ولدى كثير من الإخوان المسلمين أيضا من أجيال سابقة علينا خاصة أبناء تنظيم 1965 الذي عرف بتنظيم سيد قطب. (وهو ما سنشير إليه لاحقا).
وأعتقد أن هذا التوجه الاستراتيجي الجديد الذي خطه أستاذنا التلمساني هو الذي مكن للإخوان في المجتمع المصري وقضى على بذور الفكر الاستئصالي الذي كان يمكن أن ينمو ويترعرع بين بعض الإخوانوكنّا كجماعة إسلامية ناشئة بلا تراث ولا تقليد سياسي قصار النظر في مسألة الدولة ومنطقها وفلسفتها... وكنّا نستحضر في أذهاننا تجارب بدائية بسيطة ترجع إلى ما قبل نشأة الدولة الحديثة، إقامة الدولة في نظرنا كان يعني عودة الخلافة الإسلامية، وعودتها تتم من منطلق عقائدي بحث وليس من منطلق سياسي، وتخضع لحسابات عقائدية وأخلاقية وليست لسنن وضوابط واقعية، وكانت دولتنا "الحلم" دولة الشريعة التي تقيم الحدود وتجري العقاب دون تردد أو نظر لأي خلاف أو مقاربة فقهية معتبرة.
وكانت مؤسسات الدولة في نظرنا تمثل خروجًا عن روح الإسلام ويجب أن تزال ويقام بدلا منها نموذج إسلامي. وكانت السيطرة على الدولة تقوم على تفكير انقلابي بسيط ساذج، وهو ما تم بالفعل، حين قام به بعض الشباب المخلصين الطيبين من التنظيم الذي عرف باسم "تنظيم الفنية العسكرية"، فقد تدربوا على بعض الأسلحة الخفيفة وتجمعوا للاستيلاء على الحكم بأن يتوجه بعضهم للسيطرة على مكان إقامة الرئيس السادات والبعض الآخر على مبنى الإذاعة والتليفزيون ليعلنوا منه إقامة الدولة، ثم يقومون بتطهير المجتمع من الرجس السائد فيه!!
كان هذا تفكير مجموعة إسلامية من جيلنا لإقامة دولة جديدة في بلد كمصر من أقدم بلاد العالم وأكثرها مركزية!... وبالطبع كان لابد لهذا الانقلاب الساذج من الفشل الذي دفع ثمنه الضحايا من الجنود البسطاء الذين لا ذنب لهم... ورغم ذلك كنّا ننظر لهذه العملية التي قام بها زملاء من جيلنا على أنها تجربة حقيقية لإقامة الدولة ولكنها فشلت ولم توفق، فلم نرفضها في ذلك الوقت، ولم نكن ننظر إليها على أنها تجربة ساذجة لن تجدي نفعًا!.
الحلقة الخامسة
الاتصال بالإخوان مرة أخرى
في عام 1974 بدأ خروج قيادات الإخوان المسلمين من السجون، وبدأ الحديث بيننا كقيادات للعمل الإسلامي في الجامعة يزداد حول الإخوان، وكان السؤال الذي يتردد بيننا: هل سيلحق الإخوان بنا أم سنلحق نحن بهم إذا أرادوا أن يعودوا لنشاطهم مرة أخرى، أم سيستمر كل منا مستقلا عن الآخر من دون علاقة تنظيمية بيننا؟ وإذا قبلنا بالارتباط بهم فهل سندخل في جماعتهم ويكونون هم قادتنا أم سيدخلون معنا ونكون قادة الحركة الجديدة باعتبارنا القادة الحقيقيين في ميدان العمل فيما هم أصحاب تاريخ فقط؟
وبدأنا نفكر في هذا الأمر جديا وكان معنا في هذا التفكير الأستاذ محمد حسين عيسى الداعية المعروف في مدينة الإسكندرية، ولم يكن – أمد الله في عمره- مرتبطا – وقتها- بالإخوان، ولكنه كان يأتي إلينا في الجامعة كداعية.
وكان يشارك في الحوار عدد من قيادات الجماعة الإسلامية وأذكر منهم الإخوة محمد إسماعيل وأسامة عبد العظيم (وهم من دعاة التيار السلفي الآن) والإخوة محمود غزلان وحامد الدفراوي وإبراهيم الزعفراني وخالد داوود.
ومن المؤكد أيضا أن الإخوان كانوا يتابعون حركتنا ولكن من بعيد؛ وكان دافعهم إما الإعجاب بهذه التي نشأت من رحم الغيب دون أب لها أو تنظيم يخط لها الطريق، وأذكر أن الدكتور محمد عبد المعطي الجزار (وهو أستاذ في الطاقة الذرية)، ذكر لي أنه حين خرج من السجن، وكان قد اعتقل شابا وقضى فيه سنوات طويلة، كان يمر في الجامعة فيرى مظاهرات ومسيرات ضخمة ورايات إسلامية، فكان يقف من مكان بعيد يشاهدنا ونحن في المظاهرات والمسيرات نهتف ونهلل ونكبر، وهو لا يصدق ما يشاهده وما يراه من شباب إسلامي يتفجر حماسة وثورة، وكنت كثيرا ما ألاحظه وهو يراقب المشهد، ثم أتابعه وهو ينصرف ويلتف حول كلية الآداب حتى يصل إلى كلية العلوم التي عاد للعمل بها.
وقد حكي لي بعد ذلك أنه كان منبهرًا بما رآه، لأنه كان يتصور هو وإخوانه في السجن أنهم حين سيخرجون من السجون لن يجدوا دينًا ولا إسلامًا ولا شبابًا بهذا الحماس ولا حتى امرأة محجبة!
أما أول اتصال مباشر بيننا وبين الإخوان بعد خروجهم من السجون فكان مع الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله، فوجئت به ذات يوم يرسل لي من يبلغني بطلبه اللقاء، وكان قد حدد محل أحذية في شارع قصر العيني مكانا للقاء!... كان الرجل حريصا إلى أقصى حد على سرية هذا اللقاء، فاختار أن يكون بعيدا عن بيته وبيتي، واختار هذا المحل وكان مالكه من الإخوان، ويبدو أنه كان يريد التمويه على لقائنا تحسبا لوجود من يراقبنا فكان يأتي بالأحذية لأقيسها ويأتي للأستاذ كمال أيضًا بمثلها، ودار الحديث طيلة لقائنا ونحن على هذه الحال نقيس الأحذية!!
كان الأستاذ كمال يظن أنه مراقب من قبل الأمن، ولم يكن قد مر على خروجه من السجن الكثير، ولم يرد أن يكتشف الأمن ولا أي شخص كان تلك العلاقة بينه - وهو من الإخوان - وبين مسؤول الحركة الطلابية آنذاك، لقد كان يخشى من أن أي ربط مبكر بين الجماعة التي تمثل خصما تاريخيا للنظام وبين الحركة الإسلامية الجديدة من شأنه أن يعجل بضرب الحركة الإسلامية مجددا. وقد كانت هذه الهواجس الأمنية مبررة في حق شخص مثله قضى عمره سجينا بسبب انتمائه لجماعة الإخوان.
حين أتذكر لقاءنا الأول لا أتمالك نفسي من البكاء، فقد كان لقاء مؤثرا وعاطفيا إلى أبعد الحدود، وكان كلامه وروحه وكل ما فيه جديدًا بالنسبة لي، كنت أمام رجل قضى من عمره عشرين عاما في السجون ثم خرج وهو مازال مشغولا بقضية الإسلام والدعوة إلى الله! وكان يتفجر حماسا في شرح فكرته والتأكيد على الاستمرار فيها واستكمال ما بدأته الجماعة... كان لكلامه وقع السحر... وكان بالنسبة لي قدوة عثرت عليها بعدما كدت أفتقدها... كان حضوره في وعيي كحضور هؤلاء الذين كنا نقرأ عنهم في السيرة النبوية، الذين عُذّبوا وأُوذوا وصبروا على البلاء في سبيل تبليغ دعوة الله .
لقد كان الأستاذ كمال السنانيري بالنسبة لي رمزا للدعاة والمجاهدين الذين يجب أن نتخذهم قدوة ومثلا. وكان مما زاد تأثيره فيّ وجعلني أجله وأحترمه أنني لم أشعر وهو يحدثني أنه جاء يفرض علينا سيطرته أو حتى وجهة نظره، رغم فارق السن بيننا وعمره الطويل في الجهاد والمحنة... كانت مثل هذه الروح هي التي جعلتنا نحب هؤلاء الناس حبًا عظيمًا خاصة بعدما التقيت بالأستاذ عمر التلمساني رحمه الله.
بين يدي الدخول إلى الإخوان
كان هذا لقاءنا الأول الذي مازال يحضرني ويؤثر في إلى لحظة كتابة هذه الذكريات... ثم كان لقاؤنا الثاني في بيته… وبعد ذلك تعددت لقاءاتي بقيادات الإخوان التاريخية... التقيت الحاج عباس السيسي القيادي البارز في الإسكندرية… كان لقائي به طريفا وأقرب للمغامرة التي تستحضر فيها روح الجهاد والعمل السري... فقد التقي بي في مكان مظلم بعد أن انتقلت من مكان إلى مكان حتى انتهينا إلى بيت أحد الإخوان في مدينة رشيد قريبا من الإسكندرية، وحين دخل هذا الأخ ليقدم لنا الشاي وسمع صوتي وأنا أكلم الحاج عباس السيسي، كانت المفاجأة أنه يعرفني وأعرفه، وكان هو صلاح الجعفراوي، الداعية والناشط الإسلامي في ألمانيا الآن، ودار بيني وبين الحاج عباس نقاش طويل حول مستقبل العمل الإسلامي وكان يسعى إلى إقناعي بضرورة انضمام الجماعة الإسلامية إلى الإخوان.
ثم كانت لقاءاتي بشيخي ومعلمي الأستاذ عمر التلمساني، وهو كان أكثر الذين أثروا فيّ وعلموني وكانوا سببا في اقتناعي بدخول جماعة الإخوان المسلمين والبيعة لهم، وهي البيعة التي تلتها بيعة معظم قادة الجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة وجامعات مصر، كما تعدّدت اللقاءات معه ومع غيره من الإخوان وبالذات الحاج مصطفي مشهور والحاج أحمد حسنين والدكتور أحمد الملط.. رحمة الله على الجميع.
لماذا الإخوان وليس غيرهم؟
وقد ظللنا نلتقي عامًا تقريبًا بعد لقائي بالأستاذ كمال السنانيري في حوار مستمر للإجابة على سؤالنا المحوري: يا ترى من الذي سيستوعب الآخر؛ نحن الشباب أم هم الشيوخ؟
كانت هذه القضية مثار نقاشات طويلة بيننا كقيادة في الجماعة الإسلامية الناشئة، وكان الحوار يدور بين إعجاب بتاريخ هؤلاء الناس واحترام لجهادهم وبذلهم وتضحياتهم وبين بعض مآخذنا عليهم، بحكم تكويننا السلفي المتشدد، تتعلق بما رأيناه تحللا من الالتزام بالسنن الظاهرة كاللحية والهدي الظاهر، وبعض الأمور الأخرى التي رغم بساطتها كانت تسيطر على رؤيتنا في تقييم الأشخاص وتقديرهم.
وأشهد أن هؤلاء الذين قضوا زهرة العمر في السجون وضاع منهم الشباب كانوا أكثر منّا طاقة وحيوية، وكانت لديهم أرواح وثابة لا تفتر عن العمل في سبيل فكرتها.
كانوا حريصين على استيعابنا لدرجة أنهم كانوا يتحاملون على أنفسهم ولا يواجهوننا بما يؤذينا أو يخالفنا رغبة في أن يوصلوا إلينا أفكارهم... وحين علموا أن أمر اللحية والالتزام بالهدي الظاهر سوف يريحنا أطلقوا لحاهم… وقليل منهم من عارضنا في هذه القضايا الفرعية وفي مقدمتهم الأستاذ عمر التلمساني رحمة الله عليه الذي كان يصر على التزام فضيلة الصراحة والشجاعة في مواجهة المختلفين معه حتى في الأمور الثانوية… وكان يناقشنا – مثلا – في قضية اللحية وكيف أنها ليست فرضا ويصر على ذلك …وقد استفدت منه كثيرًا في هذا الأمر.
كان الأستاذ عمر التلمساني يتميز بسعة الصدر والقدرة على الحوار والنقاش، وكنا معه نسمع لأول مرة من يقول لنا: لا تأخذوا كلامي أمرًا مسلّمًا به، ولكن اقتنعوا أولا!... لقد كان هذا كلامًا جديدًا على أذهاننا، فاحترمنا فيه تلك العقلية المتفتحة، وحين اختلفنا معه في مسألة سماع الموسيقى وأتينا له بالأدلة على حرمتها ناقشنا بهدوء وطلب منا أن نسمع كلامه إلى آخره، وقال إنه يقصد السماع المباح… لقد فتح الرجل أعيننا على أن القضايا الفقهية التي كنّا نظنها نهائية مطلقة فيها نظر، فكان رحمه الله يواجهنا في مثل هذه القضايا بشجاعة، دون خشية من نفورنا من الإخوان.
لقد كان لنا حضور كبير وانتشار هائل بين الطلاب والشباب في ذلك الوقت، وكنا نتميز بإنكار الذات والنقاء والإيثار والتجرد، وتلك المعاني الأخلاقية كانت بارزة في كل أفراد الجماعة الإسلامية بشكل واضح جدًا، حتى إنه لم يرد على ذهني استنكار أن نترك القيادة للإخوان فيكونون هم القادة للحركة الإسلامية ونكون نحن الأتباع، وأحسب أن هذا كان شعور معظم إخواني أيضا في الجماعة.
حين بدأنا لقاءاتنا مع الإخوان وازداد احتكاكنا بهم، من خلال دعوتهم للمحاضرات والندوات، أسرتنا شخصيات قادتهم فكان لها الأثر الأكبر في قرار الانضمام لجماعتهم فيما بعد، كانوا متواضعين منكرين ذاتهم أشد الإنكار، حتى إن رجلا كبيرا في السن مثل الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله – كان يرفض ركوب التاكسي حتى لا يكلفنا ما لا نطيق ويصر على أن يركب وراء أحدنا الموتوسيكل حين كنا نستضيفه في محاضرة أو ندوة.
لقد ظلم الرجل كثيرا ... وكان دوره الدعوي يخفي وراءه شخصا بالغ الرقة والطيبة. وقد قيل عنه إنه المسؤول الحقيقي للجماعة وأن الأستاذ عمر التلمساني كان مجرد واجهة، ولم يكن هذا صحيحًا على وجه الإطلاق، فكثيرًا ما كنت أرى الأستاذ عمر يلزمه ببعض الأمور فكان ينفذها في الحال ملتزما بما يقوله المرشد العام أو يفوضه فيه. وهذا الفهم الذي تبادر إلى أذهان البعض عنه هو بسبب أن الأستاذ مصطفى -رحمه الله- كان ذا شخصية حركية تنفيذية تنظيمية، لا يحب الظهور في الأعمال العامة كثيرًا ولا يجيدها.
كذلك تأثرت بالأستاذ محمد العدوي وما لمسته فيه من إخلاص، وقد كان لبعض توجيهاته تأثير بالغ في حياتي... هو الذي قال لي ذات مرة:" إن العمل لوجه الله لا يجوز أن يختلط بالمصالح الشخصية سواء المادية أو الأدبية"...، وحين رفضت الجامعة تعييني بعد التخرج قابلني وسألني عن أحوالي، ولما أخبرته أنني أعمل بالطب الرياضي رحب بذلك ثم قال لي:" إياك أن يعرض عليك إخوانك التفرغ للجماعة وتترك عملك مقابل مرتب فتقبل بذلك".
فقلت له : إن هذا ليس خطأ أو حرامًا.
فرد عليّ قائلا: "إن جمعك بين عملك الوظيفي وبين عملك الدعوي أفضل من ذلك عشرات المرات، وإن لهذا فوائد لا حصر لها... وهو الذي سيجعلك تقول رأيك لوجه الله دون تردد"... وقد كان لنصيحته هذه أثر وفضل سأظل أذكره له إلى أن ألقى الله.
لقد كانت أعمار قادة الإخوان المتقدمة عناصر ترجيح في مسألة الانضمام للإخوان، فقد كانوا في أواخر العقد الخامس والعقد السادس من أعمارهم تقريبًا، وكنا نحن في أوائل العقد الثالث.
وأهم ما حسم قضية العلاقة بالإخوان خبرتهم في العمل الإسلامي وجهادهم وتاريخهم وصبرهم على المحنة؛ إذ لم يكن أمام أي منصف أو مخلص متجرد إلا أن يقدر هذا التاريخ لهؤلاء الناس... أما مسألة الاختلاف بيننا في بعض الأمور الفقهية الفرعية، فقد اقتنعنا تدريجيا أن هوة الخلاف سوف تضيق بمرور الوقت.
في الوقت الذي بدأ الاتصال بيننا وبين الإخوان والتباحث في شأن مستقبل علاقتنا معهم كان أبرز القيادات التي تتعامل معنا الأستاذ كمال السنانيري، الذي كان أعلى المسؤولين في الإخوان الذين اتصلوا بنا، والحاج أحمد حسنين، ثم الأستاذ مصطفى مشهور، الذي تميز عن الجميع بقدراته في العمل العام وإلقاء المحاضرات والدروس وهو ما جعله في صدارة الصورة …وجميعهم من قادة النظام الخاص.
استقر أمرنا أخيرا وبعد أخذ ورد على الالتحاق بصف الإخوان، وأن تكون قيادة الجماعة الإسلامية في أيديهم، وقد رجحنا إيجابياتهم على سلبياتهم من وجهة نظرنا آنذاك.
عمر التلمساني
لقد كان للأستاذ عمر التلمساني تأثير كبير على جيلنا وعليّ شخصيا خاصة في بداية الاتصال بالإخوان والنقاش بيننا حول الانضمام للجماعة.
لقد كان الأستاذ عمر شخصية اجتماعية وليس حزبيا... ولم يكن يميز في تعاملاته بين الإخوان وبين غيرهم من خارج الإخوان... كما لم ينشغل رحمه الله – مثل آخرين – بما كان بين الإخوان وبين الخصوم الذين آذوهم وعذبوهم في السجون، لقد كان يحثنا دائما على النظر لمستقبل الدعوة مع أننا كنا متحفزين للانتقام منهم وكنا نستطيع ذلك، إلا أنه بذل وسعه لمنعنا من ذلك بل ودفعنا إلى عدم الانشغال أصلا بهذه القضية، ولا أذكر طوال الفترة التي لازمته فيها أنه ذكر ما حدث له أو للإخوان في السجون من تعذيب وترويع، حتى لا يحفزنا على الانتقام والثورة... وأحسب أن ذلك يعود لشخصيته النقية المتسامحة ذات التكوين الصوفي الرباني.
لقد كان من الصعب أن تطفو مشاكل الستينيات على السطح في ظل وجود الأستاذ عمر على رأس الجماعة، أو أن يجعل من الإقصاء والإبعاد منهجا في التعامل مع المختلفين مع الجماعة فكريا، فقد كان رحمه الله شخصية تجتمع عليها القلوب، حتى إنه أتى بالأستاذين صلاح شادي وفريد عبد الخالق المعروفين بالانفتاح وعينهما في مكتب الإرشاد جنبا إلى جنب مع المختلفين معهم من أبناء التنظيم الخاص مثل الأساتذة مصطفى مشهور وأحمد الملط وأحمد حسنين رحمهم الله جميعا، وأدار الأستاذ عمر مكتب الإرشاد بتنوعه وتعدد مشارب أعضائه واتجاهاتهم بحنكة واقتدار كبير.
أما بالنسبة لما ردده البعض من أن الأستاذ عمر التلمساني كان واجهة طيبة للمجتمع وللرأي العام يدير من ورائها قادة النظام الخاص الجماعة ويتحكمون فيها وأن الأمر والنهي كان بأيديهم فهذا غير صحيح على الأقل فيما رأيته وعرفته وقد كنت في منزلة قريبة من الرجل... فالإخوان كانوا قد تجاوزوا تماما موضوع النظام الخاص ولم تعد تعني كلمة التنظيم إلا تنظيم الجماعة المعروف والذي لا يوجد فيه خاص وعام... وكانت لديهم حساسية من كلمة النظام الخاص.
وأذكر أن الأستاذ عمر كان دائما ما يسأل: هل هناك أمر يحدث داخل الجماعة ولا أعرفه؟... وكنت أستغرب هذا السؤال ولم أكن أفهمه حتى علمت فيما بعد أنه كان يقصد بسؤاله إذا ما كان هناك شيء خاص أو سري يعده أصحاب التنظيم الخاص وهو لا يعلم عنه شيئا. وقد قلت له ذات مرة إن هذا الأمر لا يرد حتى على أذهاننا نحن الشباب وأنه لم يحدثنا فيه أحد من الإخوان.
المرشد السري!
مع نهاية حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 بدأ الإخوان في الخروج من السجن، وكان قد سبقهم الأستاذ حسن الهضيبي الذي أفرج عنه بسبب حالته الصحية. لم يكن في الجماعة خارج السجن إلا عدد قليل فلم يكن حول المرشد إلا عدد قليل يحيط به ويلزم صحبته وهم من يمثلون هيئة مكتب الإرشاد من الإخوان الكبار مثل الدكتور أحمد الملط والحاج حسني عبد الباقي والشيخ مرزوق وهو من قدامى الإخوان وكان يقطن حي حدائق حلوان جنوب القاهرة وكان يقال عنه إنه المرشد السري!
وسبب تسمية" المرشد السري" أن الأستاذ حسن الهضيبي كان إذا تغيب لظرف عن الحضور، كان يُنيب عنه الشيخ مرزوق في المسؤولية عن إدارة الاجتماع. فلما توفي الأستاذ الهضيبي رحمه الله طلب الإخوان من الشيخ مرزوق – وكان ضريرا- أن يتولى مسؤولية المرشد حتى يتم اختيار مرشد جديد للإخوان، فرفض الرجل أن يكون المرشد، ولكن مع إصرارهم تولى تلك المهمة المؤقتة، على أن يكون القائم بأعمال المرشد وليس المرشد العام.
لم يكن قادة الإخوان الكبار وخاصة أعضاء المكتب يتصورون أن يظلوا هكذا دون مرشد للجماعة، وكان حديث البيعة حاضرا في أذهانهم (من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة الجاهلية) فكان لابد لهم أن يبايعوا أحدًا مرشدًا عامًا للإخوان، ومن ثم فقد كانوا يأخذون البيعة للمرشد دون أن يكون هناك مرشد حقيقي للجماعة. وقد رفض بعض الإخوان- خاصة خارج مصر- أن يبايعوا لمرشد سري دون أن يعلموا شخصيته، وأذكر أن ممن رفضوا هذه البيعة داخل مصر الأخ الأستاذ مهدي عاكف المرشد الحالي للجماعة، فحين ذهب إليه أعضاء المكتب ليأخذوا منه البيعة وسألهم عن شخص المرشد وقالوا له إنه سر غير معروف رفض أن يبايع... وقد أخبرني بهذه الرواية الدكتور أحمد الملط رحمه الله.
ومن هنا جاءت قضية المرشد السري التي استمرت حتى عام 1975، ففي هذه الفترة اشتد الجدل في قضية المرشد وكان لابد أن يظهر للناس من هو المرشد فاستقر رأي أعضاء المكتب على بيعة الأستاذ عمر التلمساني مرشدًا، باعتباره أكبر الإخوان سنًا، فقد كان هو عضو مكتب الإرشاد الوحيد قبل اعتقالات 1954 التي عصفت بالجماعة.
كان الإخوة الذين اختاروا الأستاذ عمر يمثلون مكتب الإرشاد المؤقت، فلم يكن أحد منهم عضوا في مكتب الإرشاد الرسمي قبل عام1954 إلا الأستاذ عمر التلمساني، فلم يكن أمامهم إلا اختياره رغم الاختلاف في منهجية التفكير فقد كانوا من رجال التنظيم الخاص ولديهم اختلافات مع منهج الأستاذ عمر، لم يكن قد أفرج عنه وقت تشكيل مكتب الإرشاد المؤقت، فلما خرج بعد ذلك بويع مرشدا، وأعيد تشكيل المكتب ثانية.
لم أكن قد رأيت الشيخ مرزوق إلا مرة واحدة في بيته حتى شهدت جنازته بعد ذلك رحمه الله.
في عام 1974 بدأ خروج قيادات الإخوان المسلمين من السجون، وبدأ الحديث بيننا كقيادات للعمل الإسلامي في الجامعة يزداد حول الإخوان، وكان السؤال الذي يتردد بيننا: هل سيلحق الإخوان بنا أم سنلحق نحن بهم إذا أرادوا أن يعودوا لنشاطهم مرة أخرى، أم سيستمر كل منا مستقلا عن الآخر من دون علاقة تنظيمية بيننا؟ وإذا قبلنا بالارتباط بهم فهل سندخل في جماعتهم ويكونون هم قادتنا أم سيدخلون معنا ونكون قادة الحركة الجديدة باعتبارنا القادة الحقيقيين في ميدان العمل فيما هم أصحاب تاريخ فقط؟
وبدأنا نفكر في هذا الأمر جديا وكان معنا في هذا التفكير الأستاذ محمد حسين عيسى الداعية المعروف في مدينة الإسكندرية، ولم يكن – أمد الله في عمره- مرتبطا – وقتها- بالإخوان، ولكنه كان يأتي إلينا في الجامعة كداعية.
وكان يشارك في الحوار عدد من قيادات الجماعة الإسلامية وأذكر منهم الإخوة محمد إسماعيل وأسامة عبد العظيم (وهم من دعاة التيار السلفي الآن) والإخوة محمود غزلان وحامد الدفراوي وإبراهيم الزعفراني وخالد داوود.
ومن المؤكد أيضا أن الإخوان كانوا يتابعون حركتنا ولكن من بعيد؛ وكان دافعهم إما الإعجاب بهذه التي نشأت من رحم الغيب دون أب لها أو تنظيم يخط لها الطريق، وأذكر أن الدكتور محمد عبد المعطي الجزار (وهو أستاذ في الطاقة الذرية)، ذكر لي أنه حين خرج من السجن، وكان قد اعتقل شابا وقضى فيه سنوات طويلة، كان يمر في الجامعة فيرى مظاهرات ومسيرات ضخمة ورايات إسلامية، فكان يقف من مكان بعيد يشاهدنا ونحن في المظاهرات والمسيرات نهتف ونهلل ونكبر، وهو لا يصدق ما يشاهده وما يراه من شباب إسلامي يتفجر حماسة وثورة، وكنت كثيرا ما ألاحظه وهو يراقب المشهد، ثم أتابعه وهو ينصرف ويلتف حول كلية الآداب حتى يصل إلى كلية العلوم التي عاد للعمل بها.
وقد حكي لي بعد ذلك أنه كان منبهرًا بما رآه، لأنه كان يتصور هو وإخوانه في السجن أنهم حين سيخرجون من السجون لن يجدوا دينًا ولا إسلامًا ولا شبابًا بهذا الحماس ولا حتى امرأة محجبة!
أما أول اتصال مباشر بيننا وبين الإخوان بعد خروجهم من السجون فكان مع الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله، فوجئت به ذات يوم يرسل لي من يبلغني بطلبه اللقاء، وكان قد حدد محل أحذية في شارع قصر العيني مكانا للقاء!... كان الرجل حريصا إلى أقصى حد على سرية هذا اللقاء، فاختار أن يكون بعيدا عن بيته وبيتي، واختار هذا المحل وكان مالكه من الإخوان، ويبدو أنه كان يريد التمويه على لقائنا تحسبا لوجود من يراقبنا فكان يأتي بالأحذية لأقيسها ويأتي للأستاذ كمال أيضًا بمثلها، ودار الحديث طيلة لقائنا ونحن على هذه الحال نقيس الأحذية!!
كان الأستاذ كمال يظن أنه مراقب من قبل الأمن، ولم يكن قد مر على خروجه من السجن الكثير، ولم يرد أن يكتشف الأمن ولا أي شخص كان تلك العلاقة بينه - وهو من الإخوان - وبين مسؤول الحركة الطلابية آنذاك، لقد كان يخشى من أن أي ربط مبكر بين الجماعة التي تمثل خصما تاريخيا للنظام وبين الحركة الإسلامية الجديدة من شأنه أن يعجل بضرب الحركة الإسلامية مجددا. وقد كانت هذه الهواجس الأمنية مبررة في حق شخص مثله قضى عمره سجينا بسبب انتمائه لجماعة الإخوان.
حين أتذكر لقاءنا الأول لا أتمالك نفسي من البكاء، فقد كان لقاء مؤثرا وعاطفيا إلى أبعد الحدود، وكان كلامه وروحه وكل ما فيه جديدًا بالنسبة لي، كنت أمام رجل قضى من عمره عشرين عاما في السجون ثم خرج وهو مازال مشغولا بقضية الإسلام والدعوة إلى الله! وكان يتفجر حماسا في شرح فكرته والتأكيد على الاستمرار فيها واستكمال ما بدأته الجماعة... كان لكلامه وقع السحر... وكان بالنسبة لي قدوة عثرت عليها بعدما كدت أفتقدها... كان حضوره في وعيي كحضور هؤلاء الذين كنا نقرأ عنهم في السيرة النبوية، الذين عُذّبوا وأُوذوا وصبروا على البلاء في سبيل تبليغ دعوة الله .
لقد كان الأستاذ كمال السنانيري بالنسبة لي رمزا للدعاة والمجاهدين الذين يجب أن نتخذهم قدوة ومثلا. وكان مما زاد تأثيره فيّ وجعلني أجله وأحترمه أنني لم أشعر وهو يحدثني أنه جاء يفرض علينا سيطرته أو حتى وجهة نظره، رغم فارق السن بيننا وعمره الطويل في الجهاد والمحنة... كانت مثل هذه الروح هي التي جعلتنا نحب هؤلاء الناس حبًا عظيمًا خاصة بعدما التقيت بالأستاذ عمر التلمساني رحمه الله.
بين يدي الدخول إلى الإخوان
كان هذا لقاءنا الأول الذي مازال يحضرني ويؤثر في إلى لحظة كتابة هذه الذكريات... ثم كان لقاؤنا الثاني في بيته… وبعد ذلك تعددت لقاءاتي بقيادات الإخوان التاريخية... التقيت الحاج عباس السيسي القيادي البارز في الإسكندرية… كان لقائي به طريفا وأقرب للمغامرة التي تستحضر فيها روح الجهاد والعمل السري... فقد التقي بي في مكان مظلم بعد أن انتقلت من مكان إلى مكان حتى انتهينا إلى بيت أحد الإخوان في مدينة رشيد قريبا من الإسكندرية، وحين دخل هذا الأخ ليقدم لنا الشاي وسمع صوتي وأنا أكلم الحاج عباس السيسي، كانت المفاجأة أنه يعرفني وأعرفه، وكان هو صلاح الجعفراوي، الداعية والناشط الإسلامي في ألمانيا الآن، ودار بيني وبين الحاج عباس نقاش طويل حول مستقبل العمل الإسلامي وكان يسعى إلى إقناعي بضرورة انضمام الجماعة الإسلامية إلى الإخوان.
ثم كانت لقاءاتي بشيخي ومعلمي الأستاذ عمر التلمساني، وهو كان أكثر الذين أثروا فيّ وعلموني وكانوا سببا في اقتناعي بدخول جماعة الإخوان المسلمين والبيعة لهم، وهي البيعة التي تلتها بيعة معظم قادة الجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة وجامعات مصر، كما تعدّدت اللقاءات معه ومع غيره من الإخوان وبالذات الحاج مصطفي مشهور والحاج أحمد حسنين والدكتور أحمد الملط.. رحمة الله على الجميع.
لماذا الإخوان وليس غيرهم؟
وقد ظللنا نلتقي عامًا تقريبًا بعد لقائي بالأستاذ كمال السنانيري في حوار مستمر للإجابة على سؤالنا المحوري: يا ترى من الذي سيستوعب الآخر؛ نحن الشباب أم هم الشيوخ؟
كانت هذه القضية مثار نقاشات طويلة بيننا كقيادة في الجماعة الإسلامية الناشئة، وكان الحوار يدور بين إعجاب بتاريخ هؤلاء الناس واحترام لجهادهم وبذلهم وتضحياتهم وبين بعض مآخذنا عليهم، بحكم تكويننا السلفي المتشدد، تتعلق بما رأيناه تحللا من الالتزام بالسنن الظاهرة كاللحية والهدي الظاهر، وبعض الأمور الأخرى التي رغم بساطتها كانت تسيطر على رؤيتنا في تقييم الأشخاص وتقديرهم.
وأشهد أن هؤلاء الذين قضوا زهرة العمر في السجون وضاع منهم الشباب كانوا أكثر منّا طاقة وحيوية، وكانت لديهم أرواح وثابة لا تفتر عن العمل في سبيل فكرتها.
كانوا حريصين على استيعابنا لدرجة أنهم كانوا يتحاملون على أنفسهم ولا يواجهوننا بما يؤذينا أو يخالفنا رغبة في أن يوصلوا إلينا أفكارهم... وحين علموا أن أمر اللحية والالتزام بالهدي الظاهر سوف يريحنا أطلقوا لحاهم… وقليل منهم من عارضنا في هذه القضايا الفرعية وفي مقدمتهم الأستاذ عمر التلمساني رحمة الله عليه الذي كان يصر على التزام فضيلة الصراحة والشجاعة في مواجهة المختلفين معه حتى في الأمور الثانوية… وكان يناقشنا – مثلا – في قضية اللحية وكيف أنها ليست فرضا ويصر على ذلك …وقد استفدت منه كثيرًا في هذا الأمر.
كان الأستاذ عمر التلمساني يتميز بسعة الصدر والقدرة على الحوار والنقاش، وكنا معه نسمع لأول مرة من يقول لنا: لا تأخذوا كلامي أمرًا مسلّمًا به، ولكن اقتنعوا أولا!... لقد كان هذا كلامًا جديدًا على أذهاننا، فاحترمنا فيه تلك العقلية المتفتحة، وحين اختلفنا معه في مسألة سماع الموسيقى وأتينا له بالأدلة على حرمتها ناقشنا بهدوء وطلب منا أن نسمع كلامه إلى آخره، وقال إنه يقصد السماع المباح… لقد فتح الرجل أعيننا على أن القضايا الفقهية التي كنّا نظنها نهائية مطلقة فيها نظر، فكان رحمه الله يواجهنا في مثل هذه القضايا بشجاعة، دون خشية من نفورنا من الإخوان.
لقد كان لنا حضور كبير وانتشار هائل بين الطلاب والشباب في ذلك الوقت، وكنا نتميز بإنكار الذات والنقاء والإيثار والتجرد، وتلك المعاني الأخلاقية كانت بارزة في كل أفراد الجماعة الإسلامية بشكل واضح جدًا، حتى إنه لم يرد على ذهني استنكار أن نترك القيادة للإخوان فيكونون هم القادة للحركة الإسلامية ونكون نحن الأتباع، وأحسب أن هذا كان شعور معظم إخواني أيضا في الجماعة.
حين بدأنا لقاءاتنا مع الإخوان وازداد احتكاكنا بهم، من خلال دعوتهم للمحاضرات والندوات، أسرتنا شخصيات قادتهم فكان لها الأثر الأكبر في قرار الانضمام لجماعتهم فيما بعد، كانوا متواضعين منكرين ذاتهم أشد الإنكار، حتى إن رجلا كبيرا في السن مثل الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله – كان يرفض ركوب التاكسي حتى لا يكلفنا ما لا نطيق ويصر على أن يركب وراء أحدنا الموتوسيكل حين كنا نستضيفه في محاضرة أو ندوة.
لقد ظلم الرجل كثيرا ... وكان دوره الدعوي يخفي وراءه شخصا بالغ الرقة والطيبة. وقد قيل عنه إنه المسؤول الحقيقي للجماعة وأن الأستاذ عمر التلمساني كان مجرد واجهة، ولم يكن هذا صحيحًا على وجه الإطلاق، فكثيرًا ما كنت أرى الأستاذ عمر يلزمه ببعض الأمور فكان ينفذها في الحال ملتزما بما يقوله المرشد العام أو يفوضه فيه. وهذا الفهم الذي تبادر إلى أذهان البعض عنه هو بسبب أن الأستاذ مصطفى -رحمه الله- كان ذا شخصية حركية تنفيذية تنظيمية، لا يحب الظهور في الأعمال العامة كثيرًا ولا يجيدها.
كذلك تأثرت بالأستاذ محمد العدوي وما لمسته فيه من إخلاص، وقد كان لبعض توجيهاته تأثير بالغ في حياتي... هو الذي قال لي ذات مرة:" إن العمل لوجه الله لا يجوز أن يختلط بالمصالح الشخصية سواء المادية أو الأدبية"...، وحين رفضت الجامعة تعييني بعد التخرج قابلني وسألني عن أحوالي، ولما أخبرته أنني أعمل بالطب الرياضي رحب بذلك ثم قال لي:" إياك أن يعرض عليك إخوانك التفرغ للجماعة وتترك عملك مقابل مرتب فتقبل بذلك".
فقلت له : إن هذا ليس خطأ أو حرامًا.
فرد عليّ قائلا: "إن جمعك بين عملك الوظيفي وبين عملك الدعوي أفضل من ذلك عشرات المرات، وإن لهذا فوائد لا حصر لها... وهو الذي سيجعلك تقول رأيك لوجه الله دون تردد"... وقد كان لنصيحته هذه أثر وفضل سأظل أذكره له إلى أن ألقى الله.
لقد كانت أعمار قادة الإخوان المتقدمة عناصر ترجيح في مسألة الانضمام للإخوان، فقد كانوا في أواخر العقد الخامس والعقد السادس من أعمارهم تقريبًا، وكنا نحن في أوائل العقد الثالث.
وأهم ما حسم قضية العلاقة بالإخوان خبرتهم في العمل الإسلامي وجهادهم وتاريخهم وصبرهم على المحنة؛ إذ لم يكن أمام أي منصف أو مخلص متجرد إلا أن يقدر هذا التاريخ لهؤلاء الناس... أما مسألة الاختلاف بيننا في بعض الأمور الفقهية الفرعية، فقد اقتنعنا تدريجيا أن هوة الخلاف سوف تضيق بمرور الوقت.
في الوقت الذي بدأ الاتصال بيننا وبين الإخوان والتباحث في شأن مستقبل علاقتنا معهم كان أبرز القيادات التي تتعامل معنا الأستاذ كمال السنانيري، الذي كان أعلى المسؤولين في الإخوان الذين اتصلوا بنا، والحاج أحمد حسنين، ثم الأستاذ مصطفى مشهور، الذي تميز عن الجميع بقدراته في العمل العام وإلقاء المحاضرات والدروس وهو ما جعله في صدارة الصورة …وجميعهم من قادة النظام الخاص.
استقر أمرنا أخيرا وبعد أخذ ورد على الالتحاق بصف الإخوان، وأن تكون قيادة الجماعة الإسلامية في أيديهم، وقد رجحنا إيجابياتهم على سلبياتهم من وجهة نظرنا آنذاك.
عمر التلمساني
لقد كان للأستاذ عمر التلمساني تأثير كبير على جيلنا وعليّ شخصيا خاصة في بداية الاتصال بالإخوان والنقاش بيننا حول الانضمام للجماعة.
لقد كان الأستاذ عمر شخصية اجتماعية وليس حزبيا... ولم يكن يميز في تعاملاته بين الإخوان وبين غيرهم من خارج الإخوان... كما لم ينشغل رحمه الله – مثل آخرين – بما كان بين الإخوان وبين الخصوم الذين آذوهم وعذبوهم في السجون، لقد كان يحثنا دائما على النظر لمستقبل الدعوة مع أننا كنا متحفزين للانتقام منهم وكنا نستطيع ذلك، إلا أنه بذل وسعه لمنعنا من ذلك بل ودفعنا إلى عدم الانشغال أصلا بهذه القضية، ولا أذكر طوال الفترة التي لازمته فيها أنه ذكر ما حدث له أو للإخوان في السجون من تعذيب وترويع، حتى لا يحفزنا على الانتقام والثورة... وأحسب أن ذلك يعود لشخصيته النقية المتسامحة ذات التكوين الصوفي الرباني.
لقد كان من الصعب أن تطفو مشاكل الستينيات على السطح في ظل وجود الأستاذ عمر على رأس الجماعة، أو أن يجعل من الإقصاء والإبعاد منهجا في التعامل مع المختلفين مع الجماعة فكريا، فقد كان رحمه الله شخصية تجتمع عليها القلوب، حتى إنه أتى بالأستاذين صلاح شادي وفريد عبد الخالق المعروفين بالانفتاح وعينهما في مكتب الإرشاد جنبا إلى جنب مع المختلفين معهم من أبناء التنظيم الخاص مثل الأساتذة مصطفى مشهور وأحمد الملط وأحمد حسنين رحمهم الله جميعا، وأدار الأستاذ عمر مكتب الإرشاد بتنوعه وتعدد مشارب أعضائه واتجاهاتهم بحنكة واقتدار كبير.
أما بالنسبة لما ردده البعض من أن الأستاذ عمر التلمساني كان واجهة طيبة للمجتمع وللرأي العام يدير من ورائها قادة النظام الخاص الجماعة ويتحكمون فيها وأن الأمر والنهي كان بأيديهم فهذا غير صحيح على الأقل فيما رأيته وعرفته وقد كنت في منزلة قريبة من الرجل... فالإخوان كانوا قد تجاوزوا تماما موضوع النظام الخاص ولم تعد تعني كلمة التنظيم إلا تنظيم الجماعة المعروف والذي لا يوجد فيه خاص وعام... وكانت لديهم حساسية من كلمة النظام الخاص.
وأذكر أن الأستاذ عمر كان دائما ما يسأل: هل هناك أمر يحدث داخل الجماعة ولا أعرفه؟... وكنت أستغرب هذا السؤال ولم أكن أفهمه حتى علمت فيما بعد أنه كان يقصد بسؤاله إذا ما كان هناك شيء خاص أو سري يعده أصحاب التنظيم الخاص وهو لا يعلم عنه شيئا. وقد قلت له ذات مرة إن هذا الأمر لا يرد حتى على أذهاننا نحن الشباب وأنه لم يحدثنا فيه أحد من الإخوان.
المرشد السري!
مع نهاية حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 بدأ الإخوان في الخروج من السجن، وكان قد سبقهم الأستاذ حسن الهضيبي الذي أفرج عنه بسبب حالته الصحية. لم يكن في الجماعة خارج السجن إلا عدد قليل فلم يكن حول المرشد إلا عدد قليل يحيط به ويلزم صحبته وهم من يمثلون هيئة مكتب الإرشاد من الإخوان الكبار مثل الدكتور أحمد الملط والحاج حسني عبد الباقي والشيخ مرزوق وهو من قدامى الإخوان وكان يقطن حي حدائق حلوان جنوب القاهرة وكان يقال عنه إنه المرشد السري!
وسبب تسمية" المرشد السري" أن الأستاذ حسن الهضيبي كان إذا تغيب لظرف عن الحضور، كان يُنيب عنه الشيخ مرزوق في المسؤولية عن إدارة الاجتماع. فلما توفي الأستاذ الهضيبي رحمه الله طلب الإخوان من الشيخ مرزوق – وكان ضريرا- أن يتولى مسؤولية المرشد حتى يتم اختيار مرشد جديد للإخوان، فرفض الرجل أن يكون المرشد، ولكن مع إصرارهم تولى تلك المهمة المؤقتة، على أن يكون القائم بأعمال المرشد وليس المرشد العام.
لم يكن قادة الإخوان الكبار وخاصة أعضاء المكتب يتصورون أن يظلوا هكذا دون مرشد للجماعة، وكان حديث البيعة حاضرا في أذهانهم (من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة الجاهلية) فكان لابد لهم أن يبايعوا أحدًا مرشدًا عامًا للإخوان، ومن ثم فقد كانوا يأخذون البيعة للمرشد دون أن يكون هناك مرشد حقيقي للجماعة. وقد رفض بعض الإخوان- خاصة خارج مصر- أن يبايعوا لمرشد سري دون أن يعلموا شخصيته، وأذكر أن ممن رفضوا هذه البيعة داخل مصر الأخ الأستاذ مهدي عاكف المرشد الحالي للجماعة، فحين ذهب إليه أعضاء المكتب ليأخذوا منه البيعة وسألهم عن شخص المرشد وقالوا له إنه سر غير معروف رفض أن يبايع... وقد أخبرني بهذه الرواية الدكتور أحمد الملط رحمه الله.
ومن هنا جاءت قضية المرشد السري التي استمرت حتى عام 1975، ففي هذه الفترة اشتد الجدل في قضية المرشد وكان لابد أن يظهر للناس من هو المرشد فاستقر رأي أعضاء المكتب على بيعة الأستاذ عمر التلمساني مرشدًا، باعتباره أكبر الإخوان سنًا، فقد كان هو عضو مكتب الإرشاد الوحيد قبل اعتقالات 1954 التي عصفت بالجماعة.
كان الإخوة الذين اختاروا الأستاذ عمر يمثلون مكتب الإرشاد المؤقت، فلم يكن أحد منهم عضوا في مكتب الإرشاد الرسمي قبل عام1954 إلا الأستاذ عمر التلمساني، فلم يكن أمامهم إلا اختياره رغم الاختلاف في منهجية التفكير فقد كانوا من رجال التنظيم الخاص ولديهم اختلافات مع منهج الأستاذ عمر، لم يكن قد أفرج عنه وقت تشكيل مكتب الإرشاد المؤقت، فلما خرج بعد ذلك بويع مرشدا، وأعيد تشكيل المكتب ثانية.
لم أكن قد رأيت الشيخ مرزوق إلا مرة واحدة في بيته حتى شهدت جنازته بعد ذلك رحمه الله.
الحلقة السادسة
الاتصال بالإخوان سراً
استمر التواصل واللقاء مع قادة الإخوان الذين بدا أنهم اتفقوا على أن يكون الأستاذ كمال السنانيري هو حلقة الوصل بينهم وبين شباب الجماعة الإسلامية، وتم الاتفاق بيننا وبين الإخوان أن يبقى هذا الاتصال والتعاون ثم الانضمام سرًا ولا يعلن عنه، وأن يكون الاتصال بينهم وبين القيادات منا فقط، ففي القاهرة كان الاتصال معي أنا والأخ سناء أبو زيد وفي الإسكندرية الأخ إبراهيم الزعفراني، وفي الوجه القبلي الأخ محيي الدين عيسى.
والسبب في هذه السرية هو سبب أمني بحت، لأن السادات كان يسمح لنا بالعمل داخل الجامعات وخارجها، وكانت لنا حرية حركة كبيرة، وكان قادة الإخوان وخاصة الأستاذ عمر يخشون من أن يتغير الوضع إذا علم النظام بأن هذا الكيان الضخم الهائل من شباب الحركة الإسلامية قد أصبح تحت قيادة الإخوان، وهو ما قد يعجل بالبطش بهم وبنا.
وبدأت العلاقة تترسخ تدريجيا بين الجماعة والإخوان وتخرج من السر إلى العلن، وبدءا من عام 1980 بدأت ثقافة الإخوان تسود بين صفوف الشباب وبدأت التيارات الأخرى تضعف .
حين أخذنا- أنا وبعض قادة الجماعة قرار الانضمام للإخوان - كنا نتوقع أن الصف الثاني من بعض قيادات الجماعة الإسلامية سوف يعارض ما تم الاتفاق عليه بيننا وبين الإخوان، وكانت المعارضة تتمثل فيمن غلبت عليهم الرؤية السلفية مثل الإخوة: أسامة عبد العظيم في القاهرة وأحمد فريد ومحمد إسماعيل في الإسكندرية، أو من غلبت عليه الروح الجهادية مثل الإخوة: كرم زهدي وناجح إبراهيم في الصعيد، ولذلك قررنا أن نؤخر إعلام هؤلاء الإخوة بما تم الاتفاق عليه مع الإخوة.
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد كان الأخ خالد داوود – أحد قادة الجماعة الإسلامية البارزين في الإسكندرية- يجلس ذات مرة مع الأخ أسامة عبد العظيم وتطرق الحديث إلى الجماعة والإخوان فزل لسانه وأخبره أن قيادات الجماعة الإسلامية قد أنهت القضية وبايعت قادة الإخوان!. فوجئ أسامة بهذا الكلام، وخرج الأمر منه إلى الآخرين، فاندلعت ثورة من التساؤلات والاستنكارات، خاصة من الجناح السلفي والجناح الجهادي.
أخذنا نفكر في كيفية الخروج من هذا المأزق فقررنا أن نصارحهم بما حدث فعلا، وأننا بايعنا الإخوان وأصبحنا منهم بالفعل، وكانت رؤيتنا أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم .
جرى هذا في الفترة ما بين عامي 1979 و1980، وعلى إثر ذلك ظهرت مجموعة السلفيين أو تيار السلفية العلمية في الإسكندرية، ويمثله الإخوة محمد إسماعيل وأحمد فريد ومعهم أسامة عبد العظيم في القاهرة وعبد الله سعد الذي كان نشطًا جدًا في جامعة الأزهر ، كما ظهرت مجموعة الجهاديين الذين أسسوا تيار العنف في المنيا وأسيوط وعلى رأسهم كرم زهدي وأسامة حافظ وناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة …
أخذت الأمور تستقر تدريجيا وانحصر نقد الإخوة في التيار السلفي لنا كإخوان في دروس ومحاضرات تتهمنا بأننا أصحاب بدع وتحلل من الدين، أما مجموعة الصعيد فقد صرنا في نظرهم مهادنين متخاذلين آثرنا العافية بدلا من مقارعة النظام، وكنّا في البداية نرد عليهم بأن اختيارنا هذا نوع من الإعداد والتمهل وعدم التسرع في الأخذ بالأسباب.
وتدريجيا بدأ التمايز بين هذه المجموعات الثلاث وفقدنا السيطرة على الطرفين الآخرين: السلفية والجهادية، وكان الأشد خطرا مجموعة الجهاديين الذين بدأوا يمارسون العنف بشكل بارز، مثل بعض العمليات التي قاموا بها عام 1981 من تكسير بعض الكازينوهات، وضرب البنات المتبرجات على كورنيش النيل في المنيا، الهجوم على الطلاب الأقباط واحتجازهم في المدينة الجامعية في أسيوط.
واستمر الحال على هذا حتى وقعت واقعة اغتيال السادات، فالتقينا ثانية ولكن في السجون تحت سياط التعذيب!
ما بعد قرار الانضمام للإخوان
أتصور أنه في اللحظة التي قررنا كمسئولين عن الجماعة الإسلامية في الجامعة أن ننضم بجماعتنا للإخوان المسلمين، كنّا قد أجبنا على سؤال التنظيم وصرنا تنظيما بالفعل قبل أن نسلم هيكله للإخوان الذين صاروا قيادة على رأسه... لقد كان الإخوان بيتا ملأ شباب الجماعة الإسلامية فراغه وضخوا فيه الدماء ونصبّوا قادة الإخوان عليه مجددا.
لقد ارتضينا أن نبايع الإخوان وأن نكون تابعين لقادتهم وارتضينا أن يكونوا قادتنا وفوق رؤوسنا... ومن ساعتها أصبح تنظيم الجماعة الإسلامية الذي بنينا هيكله في المحافظات هو تنظيم الإخوان المسلمين.
ومع تخرج مجموعة القيادات المؤسسة للجماعة الإسلامية من الجامعة عام 1976، بدأنا نطلب من كل خريج أن يرجع إلى محافظته خارج القاهرة ليتصل بالقيادة الجديدة للجماعة في محافظته، وكنّا نوجه الإخوة إلى الاتصال بقائده في الجماعة الإسلامية الذي يقوم بتسليمه للمسئول الجديد من قيادات الإخوان التاريخية.
وكانت قيادات الإخوان في المحافظات المختلفة وقتها تتسلم هؤلاء الخريجين من مسئولي الجماعة الإسلامية، وفي الإسكندرية -على سبيل المثال- كان الأخ إبراهيم الزعفراني مسئول الجماعة الإسلامية وكان الحاج عباس السيسي مسئول الاتصال من جماعة الإخوان والذي يفترض به أن يتسلم الخريجين... وهكذا.
وللحقيقة فإننا حين بايعنا الإخوان لم نبايع تنظيما قائما في الواقع، وإنما بايعنا فكرة ومشروعا وتاريخا... إذ لم يكن هناك تنظيم إخواني بالمعنى الذي تعنيه كلمة "تنظيم"... وإنما كان هناك مجموعة أفراد أو قيادات تاريخية تسلمت منّا قيادة التنظيم الحقيقي الموجود في الواقع: وأعني به الجماعة الإسلامية... كان في كل محافظة أو مدينة كبرى قيادة إخوانية تاريخية تم اعتمادها.
في محافظة الغربية الحاج أحمد البس وفي المنصورة الأستاذ محمد العدوي وفي الإسماعيلية الحاج علي رزة وفي البحيرة الأستاذ الدسوقي بقنينة وفي السويس الحاج عبد العزيز العزازي وفي بورسعيد الحاج عبد العزيز حمودة والذي كنا تزاملنا معا في محاكمات عام 1995 العسكرية وحكم علينا فيها بالسجن معا.
وهكذا بدأ التنظيم يتمدد في أنحاء القطر وبدأت قيادة الإخوان تصعد إلى قمته وتسيطر عليه... وكان معظم هذه القيادات من الذين تربوا في النظام الخاص، وكانوا هم الذين يتصلون بالخريجين، وكانوا يغطون معظم محافظات الجمهورية تقريبا... في الوقت الذي ظلت القيادات الطلابية (أبناء الجماعة الإسلامية) في القيادة كما هي بعد التحاقها بالإخوان ولكن بتوجيهات من قيادة الإخوان.
وينبغي التوقف أيضا أمام حقيقة تاريخية تتمثل في أن الذين بايعوا الإخوان هم القطاع الأكبر من بين قادة وكوادر الجماعة الإسلامية، وأن الذين رفضوا هذا التوجه كانوا أقلية على الرغم من أنهم انتشروا بعد ذلك تيارات وجماعات مستقلة عن الإخوان المسلمين، مثل الدعوة السلفية التي أسسها إخواننا الذين رفضوا الانضواء معنا ضمن الإخوان المسلمين وفي مقدمتهم الإخوة محمد إسماعيل وسعيد عبد العظيم وأحمد فريد. أو التيار الجهادي الذي ظهر في الجماعة الإسلامية ثم تنظيم الجهاد؛ مثل كرم زهدي وأسامة حافظ وناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد.
فالتيار الغالب هو من دخل الإخوان اللهم إلا في محافظات بعينها مثل محافظة أسيوط التي كانت الغلبة فيها للإخوة في التيار الجهادي، فلم تكن في أسيوط قيادات إخوانية كبيرة تستطيع استيعاب هؤلاء الشباب بعكس ما كان في المحافظات الأخرى كالإسكندرية حيث الحاج عباس السيسي والحاج محمود شكري، أو بني سويف التي كان بها الحاج حسن جودة، أو المنيا التي كان بها الحاج أحمد عبد المجيد وكانت بها قيادة طلابية كبيرة مثل الأخ محي الدين عيسى... أما أسيوط حيث الجامعة فلم تكن هناك قيادات إخوانية كبيرة فاستطاع الإخوة الجهاديون الانقلاب على الأخ أسامة سيد أحمد أمير الجماعة الإسلامية هناك، فقد كانوا يعرفون علاقته بالإخوان حيث كان أبوه منهم فرتبوا انقلابا عليه واستولوا على إمارة الجماعة الإسلامية هناك ثم صارت أسيوط لهم معقلا وضعف النفوذ الإخواني فيه داخل جماعة الإخوان.
كان أول ارتباط تنظيمي لي بجماعة الإخوان المسلمين عام 1975 قبل بقية إخواني من الجماعة الإسلامية وقبل إعلان بيعة قادة الجماعة الإسلامية للإخوان علنيا، في هذا العام التحقت بأول أسرة تربوية داخل جماعة الإخوان، وكانت تضمني والأخ سناء أبو زيد وهو دفعتي في كلية الطب، والأخ عبد المعطي الجزار وكان أستاذا في الطاقة الذرية ويسبقنا سنا، وكان مسئول الأسرة الأخ مبارك عبد العظيم، وهو كذلك أكبر منا سنا إذ ينتمي إلى جيل الإخوة جابر رزق وإبراهيم شرف... وهو الجيل الذي يقف تاريخيا بين جيل 1954 وجيل تنظيم 1965 داخل الجماعة.
وقد بقينا معا في هذه الأسرة مدة سنة كاملة إلى أن انتقلنا إلى أسرة أخرى كان المسئول عنها الأستاذ الحاج محمود أبو رية الذي كان يعمل مستشارا في منظمة التربية والثقافة والعلوم بجامعة الدول العربية، وهو أحد كبار الإخوان وقتها وقد كان سكرتيرا للإمام حسن البنا في عقد الأربعينيات، وفيما بعد صار مسئولا عن الإخوان في محافظة القاهرة، ولما كبرت سنه رجع إلى بلدته في مدينة المنصورة وصار مسئولا عن الإخوان في محافظة الدقهلية.
الجماعة الإسلامية أقوى أجيال الحركة الطلابية
وللتاريخ أقول إن الجماعة الإسلامية التي ولدت في أحضان الجامعات المصرية يعز أن نجد لها مثيلا في تاريخ العمل الإسلامي والطلابي وخاصة في مصر. لقد كانت هذه الجماعة تجربة فريدة في العلاقات الإنسانية والأخوية بين أبنائها.
كنا مجموعة من الشباب الذين لم تجمع بينهم أي مصلحة شخصية أو توجه سياسي يحركهم أو يحركهم تنظيم معين، وكانت تربطنا علاقة محبة وأخوة صادقة تزيد عما بين إخوان النسب من قوة وصدق.
وأحسب أن جزءا من قوة الجماعة ذاتية النشأة والقيادة، فقد بدأنا بلا رؤساء أو قادة سابقين علينا، وتحركنا بذاتية وعفوية حتى في أخطر القرارات التي اتخذناها... فخففت هذه الذاتية من استفزاز النظام وقللت من مخاوفه إزاء فكرة سيطرة الإخوان على الحركة الطلابية الجديدة. كما أن الذاتية أنضجتنا كثيرا وأعطتنا قدرات أكبر مما لدى أقراننا والأجيال الجديدة.
على خطى تفكير النظام الخاص
وإذا تحدثنا عن علاقتنا بالإخوان قبل الانضمام إليهم يمكنني القول إن أفكارنا ومنهجنا كان أقرب إلى المنهج وطريقة التفكير التي كانت تسيطر على إخوان تنظيم 1965، فقد كانت لديهم منهجية الانقلاب والثورة، وكان لديهم رغبة في الانقلاب على جمال عبد الناصر، انتقاما منه لما فعله بالبلاد.
بل أكثر من ذلك أرى أن إخوان النظام الخاص مثل الأساتذة مصطفى مشهور وكمال السنانيري وحسني عبد الباقي وأحمد حسنين وأحمد الملط، كانت لديهم منهجية قريبة منّا، وأنهم حين خرجوا من السجون كانوا يحملون نفس الأفكار التي كنا نحملها، لذلك كانوا أقرب لنفوسنا في ذلك الوقت من غيرهم من الإخوان القدامى الذين تربوا بالقرب من الأستاذ حسن البنا، مثل الأساتذة عمر التلمساني وصلاح شادي وفريد عبد الخالق وصالح أبو رقيق.
ولعله كان من أقدار الله الطيبة أن نلتقي أولا بأفراد التنظيم الخاص المتشددين أصحاب الاتجاه الأصولي قبل لقائنا مع القيادات الكبرى الأكثر اعتدالا، فلو أن الاتصال الأول كان مع كبار الإخوان المعتدلين أمثال الأستاذ عمرو التلمساني والمقربين منه لكنا حسمنا أمرنا بعدم الانضمام للجماعة!!.
لقد عانينا كثيرا – كشباب متشدد مثالي- مع قيادات الجماعة المعتدلة، بسبب ما كنا نراه ونعتبره تساهلا منهم في أمور دينية لم نكن نتصور أن يتساهل فيها أمثالهم، وما كان يلطف الأجواء بيننا هو القيادات الأصولية من رجال التنظيم الخاص وتنظيم 1965!.
في الفترة التي تعرفنا فيها على الإخوان كان في الجماعة تياران رئيسيان، التيار الأول تمثله مجموعة النظام الخاص، وامتداداته في تنظيم 1965 الذي كان قد ارتبط بالشهيد سيد قطب، إضافة إلي مجموعة من الإخوان بدأت مع الإخوان بعد عام 1954 مع بداية المحنة، وهؤلاء ما كانوا من الإخوان القدامى ولا من الجيل الذي انضم بعد ذلك ومنهم الإخوة: إبراهيم شرف وجابر رزق وصبري عرفة الكومي.
أما التيار الثاني فهو الأكثر تأثرا بمنهج الأستاذ الإمام حسن البنا الذي كان إصلاحيا معتدلا متدرجا سلميا غير مؤمن بالعنف كما هو حال منهج التيار الأول، وما أراه أن هذا الاختلاف لم يكن مقصودًا أو متعمدًا ولم تكن أدوارًا مقسمة بينهم بل كان هناك أسلوبان فكريان مختلفان في صف الجماعة خاصة أثناء محنتي 1954 و1965.
وأتصور أيضا أن الأفكار الانقلابية كانت طارئة على الإخوان وتأثرت إلى حد كبير بكتابات الشهيد سيد قطب، وأنها لم تكن تعبر عن الخط الأساس لجماعة الإخوان كما وضعه الإمام الشهيد حسن البنا، وأرى أنه قد حدث خلط كبير في هذا الأمر حين ادعى البعض أن الأستاذ حسن الهضيبى – رحمه الله – كان على علم بأفكار هذا التنظيم - 1965- ومنهجه الانقلابي، وهذا - في رأيي - غير صحيح تماما، فهو كان ممن يرفضون التغيير بالعنف، وكانت له وقفته المشهودة ضد تيار التكفير ومازال كتاب "دعاة لا قضاة" مرجعا أساسا في التصدي لهذا التيار... أمّا مسألة علاقة الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – بهذا التنظيم، فهو أمر يحتاج إلى التمحيص والنظر.
الحسم بين تياري النظام الخاص والعمل العام
وأتصور أن الجماعة- الإخوان- ظلت طوال عقد السبعينيات تضم داخلها كلا التيارين، وأنها لم تحسم توجهها الاستراتيجي في قضية العنف إلا عام 1984، الذي كان عام الحسم والعودة الحقيقية لفكر المدرسة الأولى؛ مدرسة حسن البنا البعيدة عن أفكار النظام الخاص وتنظيم 1965، والتي تقوم على العلنية واحترام المشروعية واعتماد نهج التغيير السلمي.
وسبب تحديدي لهذا العام أنه العام الذي قررت الجماعة فيه الدخول بقوة في العمل العام، فحين قررت الجماعة خوض انتخابات النقابات دار بيننا حوار داخلي، وكانت هناك تساؤلات حول المنهج الذي ستدخل به الجماعة في العمل العام، وحول جدوى سبيل التغيير السلمي من خلال مؤسسات المجتمع المدني.
وقد حسمت الجماعة أمرها باختيار سبيل العمل السلمي الإصلاحي وتجاوز فكرة العنف تماما، وأذكر وقتها أن الأستاذ صالح أبو رقيق قال في تصريح للصحافة: إن جماعة الإخوان قد طلقت العنف ثلاثا!
وقد كان الفضل في هذا- بعد الله- للأستاذ عمر التلمساني الذي أحدث تطويرا كبيرا في طريقة تفكيرنا نحن الشباب، بما جعل من المستقر في أذهاننا أن التغيير بالقوة هو فكرة ساذجة ولن تأتي بنتيجة، وأن خسائرها أكثر من مكاسبها. وكان مما حسم حوارنا الداخلي ناحية نهج التغيير السلمي تقييمنا للتجارب الفاشلة التي لم تأت بنتيجة.
كان هذا الحوار مطروحًا منذ ديسمبر83 ثم استمر في 1984 مع قرار خوضنا انتخابات مجلس الشعب وتحالفنا مع حزب الوفد الليبرالي، ثم بدأ دخول الانتخابات النقابية وكان أولها في نقابة الأطباء.
لقد كنت من الذين تحمسوا مع الأستاذ عمر التلمساني في قرار خوض الانتخابات، وكان معنا الإخوة عصام العريان وحلمي الجزار وإبراهيم الزعفراني… وبقية المجموعة التي تمثل القيادات الحركية الشابة للإخوان.
ومن الجيل القديم الذين ساندوا قرار خوض الانتخابات البرلمانية الأساتذة: صلاح شادي وفريد عبد الخالق وكذلك الدكتور أحمد الملط الذي كان نائبال للأستاذ عمر التلمساني منذ 1981 ، والذي أستطيع أن أؤكد من خلال معرفتي الوثيقة به أنه كان صاحب فكر منفتح، وكان يميل إلى الأخذ بالتيسير خاصة في المسائل الفقهية.
دور مجلة الدعوة
ولا يمكن أن نتعرف على تاريخ الحركة الطلابية الإسلامية في هذه الحقبة – عقد السبعينيات – دون التوقف عند مجلة الدعوة وتأثيرها في تغيير أفكارنا وتحديد وجهتها. كانت مجلة الدعوة تصدر من أيام الشيخ حسن البنا وكان صاحب امتيازها الأستاذ صالح عشماوي، وقد توقفت مع الصدام بين الإخوان والثورة... ولما عاد الإخوان للعمل في السبعينيات واستقر وجودهم سُمح لهم بإعادة إصدار المجلة مرة أخرى بإدارة وإشراف الأستاذ عمر التلمساني ورئاسة تحرير الأستاذ صالح عشماوي صاحب الامتياز. فصدر العدد الأول منها في يوليو 1976 وكانت تلك بداية عامها الخامس والعشرين.
كان يكتب فيها شيوخ الدعوة وأساتذتها وشيوخ الأزهر وعلمائه وكثير من العلماء والمفكرين.
وكثيراً ما كتب فيها الشيخ يوسف القرضاوي خاصة في القضايا التي تتعلق بتكوين الدعاة وترشيد الصحوة، كانت له سلسلة مقالات في "ثقافة الداعية" كان لها تأثير مهم في تكويننا الفكري والشرعي .
وكان الأستاذ المستشار علي جريشة يكتب في القضايا الدستورية من و جهة نظر إسلامية وكان من أشهر ما كتبه في هذه القضية مقالة بعنوان: (القرآن فوق الدستور). وفي قضايا الفكر الحركي كان يكتب الأستاذ فتحي يكن من لبنان سلسلة مقالات مهمة لتحفيز الشباب الإسلامي على العمل ضمن الحركة تحت عنوان: "ماذا يعني انتمائي للإسلام"، ونشرت فيما بعد في كتاب بالعنوان نفسه.
كانت المجلة تركز على نقد الحقبة الناصرية وأركان النظام الناصري بمن فيهم الرئيس جمال عبد الناصر، ففتحت ملفات التعذيب والمذابح التي تعرض لها الإخوان في سجون ناصر مثل مذبحة ليمان طرة التي راح ضحيتها عشرات الإخوان ما بين قتيل وجريح بعدما أطلق الجنود النار على المعتقلين حتى إن بعضهم أصيب بالجنون من هول المذبحة!.
كما كانت تخوض حربا ضروسا ضد اليسار والماركسيين خاصة من مثقفي هذا التيار ورموزه الذين كانوا ضمن السلطة في العهد الناصري أو الذين ظلوا فيها في عهد السادات.
وكانت مجلة الدعوة من أهم المنابر التي أثارت قضية الشريعة الإسلامية والنص عليها في الدستور وتطبيق أحكامها فجعلتها محورا للاهتمام والنقاش في الحياة الثقافية والسياسية في مصر... وكانت ملتقى كل من يهمهم أمر هذه القضية بمن فيهم شيخ الأزهر الإمام الأكبر عبد الحليم محمود الذي كان أقوى من حمل عبء هذه الدعوة . وأذكر أنها نشرت له ذات مرة رسالة وجهها إلى سيد مرعي رئيس مجلس الشعب مفادها: (الله حرم الخمر في شيراتون وشارع الهرم كما حرمها في بولاق وكلوت بك!) وذلك ردا على قانون يحظر الخمر في الأماكن والمحال العامة ويسمح بها في الفنادق والمنشآت السياحية للأجانب.
استمر التواصل واللقاء مع قادة الإخوان الذين بدا أنهم اتفقوا على أن يكون الأستاذ كمال السنانيري هو حلقة الوصل بينهم وبين شباب الجماعة الإسلامية، وتم الاتفاق بيننا وبين الإخوان أن يبقى هذا الاتصال والتعاون ثم الانضمام سرًا ولا يعلن عنه، وأن يكون الاتصال بينهم وبين القيادات منا فقط، ففي القاهرة كان الاتصال معي أنا والأخ سناء أبو زيد وفي الإسكندرية الأخ إبراهيم الزعفراني، وفي الوجه القبلي الأخ محيي الدين عيسى.
والسبب في هذه السرية هو سبب أمني بحت، لأن السادات كان يسمح لنا بالعمل داخل الجامعات وخارجها، وكانت لنا حرية حركة كبيرة، وكان قادة الإخوان وخاصة الأستاذ عمر يخشون من أن يتغير الوضع إذا علم النظام بأن هذا الكيان الضخم الهائل من شباب الحركة الإسلامية قد أصبح تحت قيادة الإخوان، وهو ما قد يعجل بالبطش بهم وبنا.
وبدأت العلاقة تترسخ تدريجيا بين الجماعة والإخوان وتخرج من السر إلى العلن، وبدءا من عام 1980 بدأت ثقافة الإخوان تسود بين صفوف الشباب وبدأت التيارات الأخرى تضعف .
حين أخذنا- أنا وبعض قادة الجماعة قرار الانضمام للإخوان - كنا نتوقع أن الصف الثاني من بعض قيادات الجماعة الإسلامية سوف يعارض ما تم الاتفاق عليه بيننا وبين الإخوان، وكانت المعارضة تتمثل فيمن غلبت عليهم الرؤية السلفية مثل الإخوة: أسامة عبد العظيم في القاهرة وأحمد فريد ومحمد إسماعيل في الإسكندرية، أو من غلبت عليه الروح الجهادية مثل الإخوة: كرم زهدي وناجح إبراهيم في الصعيد، ولذلك قررنا أن نؤخر إعلام هؤلاء الإخوة بما تم الاتفاق عليه مع الإخوة.
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد كان الأخ خالد داوود – أحد قادة الجماعة الإسلامية البارزين في الإسكندرية- يجلس ذات مرة مع الأخ أسامة عبد العظيم وتطرق الحديث إلى الجماعة والإخوان فزل لسانه وأخبره أن قيادات الجماعة الإسلامية قد أنهت القضية وبايعت قادة الإخوان!. فوجئ أسامة بهذا الكلام، وخرج الأمر منه إلى الآخرين، فاندلعت ثورة من التساؤلات والاستنكارات، خاصة من الجناح السلفي والجناح الجهادي.
أخذنا نفكر في كيفية الخروج من هذا المأزق فقررنا أن نصارحهم بما حدث فعلا، وأننا بايعنا الإخوان وأصبحنا منهم بالفعل، وكانت رؤيتنا أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم .
جرى هذا في الفترة ما بين عامي 1979 و1980، وعلى إثر ذلك ظهرت مجموعة السلفيين أو تيار السلفية العلمية في الإسكندرية، ويمثله الإخوة محمد إسماعيل وأحمد فريد ومعهم أسامة عبد العظيم في القاهرة وعبد الله سعد الذي كان نشطًا جدًا في جامعة الأزهر ، كما ظهرت مجموعة الجهاديين الذين أسسوا تيار العنف في المنيا وأسيوط وعلى رأسهم كرم زهدي وأسامة حافظ وناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة …
أخذت الأمور تستقر تدريجيا وانحصر نقد الإخوة في التيار السلفي لنا كإخوان في دروس ومحاضرات تتهمنا بأننا أصحاب بدع وتحلل من الدين، أما مجموعة الصعيد فقد صرنا في نظرهم مهادنين متخاذلين آثرنا العافية بدلا من مقارعة النظام، وكنّا في البداية نرد عليهم بأن اختيارنا هذا نوع من الإعداد والتمهل وعدم التسرع في الأخذ بالأسباب.
وتدريجيا بدأ التمايز بين هذه المجموعات الثلاث وفقدنا السيطرة على الطرفين الآخرين: السلفية والجهادية، وكان الأشد خطرا مجموعة الجهاديين الذين بدأوا يمارسون العنف بشكل بارز، مثل بعض العمليات التي قاموا بها عام 1981 من تكسير بعض الكازينوهات، وضرب البنات المتبرجات على كورنيش النيل في المنيا، الهجوم على الطلاب الأقباط واحتجازهم في المدينة الجامعية في أسيوط.
واستمر الحال على هذا حتى وقعت واقعة اغتيال السادات، فالتقينا ثانية ولكن في السجون تحت سياط التعذيب!
ما بعد قرار الانضمام للإخوان
أتصور أنه في اللحظة التي قررنا كمسئولين عن الجماعة الإسلامية في الجامعة أن ننضم بجماعتنا للإخوان المسلمين، كنّا قد أجبنا على سؤال التنظيم وصرنا تنظيما بالفعل قبل أن نسلم هيكله للإخوان الذين صاروا قيادة على رأسه... لقد كان الإخوان بيتا ملأ شباب الجماعة الإسلامية فراغه وضخوا فيه الدماء ونصبّوا قادة الإخوان عليه مجددا.
لقد ارتضينا أن نبايع الإخوان وأن نكون تابعين لقادتهم وارتضينا أن يكونوا قادتنا وفوق رؤوسنا... ومن ساعتها أصبح تنظيم الجماعة الإسلامية الذي بنينا هيكله في المحافظات هو تنظيم الإخوان المسلمين.
ومع تخرج مجموعة القيادات المؤسسة للجماعة الإسلامية من الجامعة عام 1976، بدأنا نطلب من كل خريج أن يرجع إلى محافظته خارج القاهرة ليتصل بالقيادة الجديدة للجماعة في محافظته، وكنّا نوجه الإخوة إلى الاتصال بقائده في الجماعة الإسلامية الذي يقوم بتسليمه للمسئول الجديد من قيادات الإخوان التاريخية.
وكانت قيادات الإخوان في المحافظات المختلفة وقتها تتسلم هؤلاء الخريجين من مسئولي الجماعة الإسلامية، وفي الإسكندرية -على سبيل المثال- كان الأخ إبراهيم الزعفراني مسئول الجماعة الإسلامية وكان الحاج عباس السيسي مسئول الاتصال من جماعة الإخوان والذي يفترض به أن يتسلم الخريجين... وهكذا.
وللحقيقة فإننا حين بايعنا الإخوان لم نبايع تنظيما قائما في الواقع، وإنما بايعنا فكرة ومشروعا وتاريخا... إذ لم يكن هناك تنظيم إخواني بالمعنى الذي تعنيه كلمة "تنظيم"... وإنما كان هناك مجموعة أفراد أو قيادات تاريخية تسلمت منّا قيادة التنظيم الحقيقي الموجود في الواقع: وأعني به الجماعة الإسلامية... كان في كل محافظة أو مدينة كبرى قيادة إخوانية تاريخية تم اعتمادها.
في محافظة الغربية الحاج أحمد البس وفي المنصورة الأستاذ محمد العدوي وفي الإسماعيلية الحاج علي رزة وفي البحيرة الأستاذ الدسوقي بقنينة وفي السويس الحاج عبد العزيز العزازي وفي بورسعيد الحاج عبد العزيز حمودة والذي كنا تزاملنا معا في محاكمات عام 1995 العسكرية وحكم علينا فيها بالسجن معا.
وهكذا بدأ التنظيم يتمدد في أنحاء القطر وبدأت قيادة الإخوان تصعد إلى قمته وتسيطر عليه... وكان معظم هذه القيادات من الذين تربوا في النظام الخاص، وكانوا هم الذين يتصلون بالخريجين، وكانوا يغطون معظم محافظات الجمهورية تقريبا... في الوقت الذي ظلت القيادات الطلابية (أبناء الجماعة الإسلامية) في القيادة كما هي بعد التحاقها بالإخوان ولكن بتوجيهات من قيادة الإخوان.
وينبغي التوقف أيضا أمام حقيقة تاريخية تتمثل في أن الذين بايعوا الإخوان هم القطاع الأكبر من بين قادة وكوادر الجماعة الإسلامية، وأن الذين رفضوا هذا التوجه كانوا أقلية على الرغم من أنهم انتشروا بعد ذلك تيارات وجماعات مستقلة عن الإخوان المسلمين، مثل الدعوة السلفية التي أسسها إخواننا الذين رفضوا الانضواء معنا ضمن الإخوان المسلمين وفي مقدمتهم الإخوة محمد إسماعيل وسعيد عبد العظيم وأحمد فريد. أو التيار الجهادي الذي ظهر في الجماعة الإسلامية ثم تنظيم الجهاد؛ مثل كرم زهدي وأسامة حافظ وناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد.
فالتيار الغالب هو من دخل الإخوان اللهم إلا في محافظات بعينها مثل محافظة أسيوط التي كانت الغلبة فيها للإخوة في التيار الجهادي، فلم تكن في أسيوط قيادات إخوانية كبيرة تستطيع استيعاب هؤلاء الشباب بعكس ما كان في المحافظات الأخرى كالإسكندرية حيث الحاج عباس السيسي والحاج محمود شكري، أو بني سويف التي كان بها الحاج حسن جودة، أو المنيا التي كان بها الحاج أحمد عبد المجيد وكانت بها قيادة طلابية كبيرة مثل الأخ محي الدين عيسى... أما أسيوط حيث الجامعة فلم تكن هناك قيادات إخوانية كبيرة فاستطاع الإخوة الجهاديون الانقلاب على الأخ أسامة سيد أحمد أمير الجماعة الإسلامية هناك، فقد كانوا يعرفون علاقته بالإخوان حيث كان أبوه منهم فرتبوا انقلابا عليه واستولوا على إمارة الجماعة الإسلامية هناك ثم صارت أسيوط لهم معقلا وضعف النفوذ الإخواني فيه داخل جماعة الإخوان.
كان أول ارتباط تنظيمي لي بجماعة الإخوان المسلمين عام 1975 قبل بقية إخواني من الجماعة الإسلامية وقبل إعلان بيعة قادة الجماعة الإسلامية للإخوان علنيا، في هذا العام التحقت بأول أسرة تربوية داخل جماعة الإخوان، وكانت تضمني والأخ سناء أبو زيد وهو دفعتي في كلية الطب، والأخ عبد المعطي الجزار وكان أستاذا في الطاقة الذرية ويسبقنا سنا، وكان مسئول الأسرة الأخ مبارك عبد العظيم، وهو كذلك أكبر منا سنا إذ ينتمي إلى جيل الإخوة جابر رزق وإبراهيم شرف... وهو الجيل الذي يقف تاريخيا بين جيل 1954 وجيل تنظيم 1965 داخل الجماعة.
وقد بقينا معا في هذه الأسرة مدة سنة كاملة إلى أن انتقلنا إلى أسرة أخرى كان المسئول عنها الأستاذ الحاج محمود أبو رية الذي كان يعمل مستشارا في منظمة التربية والثقافة والعلوم بجامعة الدول العربية، وهو أحد كبار الإخوان وقتها وقد كان سكرتيرا للإمام حسن البنا في عقد الأربعينيات، وفيما بعد صار مسئولا عن الإخوان في محافظة القاهرة، ولما كبرت سنه رجع إلى بلدته في مدينة المنصورة وصار مسئولا عن الإخوان في محافظة الدقهلية.
الجماعة الإسلامية أقوى أجيال الحركة الطلابية
وللتاريخ أقول إن الجماعة الإسلامية التي ولدت في أحضان الجامعات المصرية يعز أن نجد لها مثيلا في تاريخ العمل الإسلامي والطلابي وخاصة في مصر. لقد كانت هذه الجماعة تجربة فريدة في العلاقات الإنسانية والأخوية بين أبنائها.
كنا مجموعة من الشباب الذين لم تجمع بينهم أي مصلحة شخصية أو توجه سياسي يحركهم أو يحركهم تنظيم معين، وكانت تربطنا علاقة محبة وأخوة صادقة تزيد عما بين إخوان النسب من قوة وصدق.
وأحسب أن جزءا من قوة الجماعة ذاتية النشأة والقيادة، فقد بدأنا بلا رؤساء أو قادة سابقين علينا، وتحركنا بذاتية وعفوية حتى في أخطر القرارات التي اتخذناها... فخففت هذه الذاتية من استفزاز النظام وقللت من مخاوفه إزاء فكرة سيطرة الإخوان على الحركة الطلابية الجديدة. كما أن الذاتية أنضجتنا كثيرا وأعطتنا قدرات أكبر مما لدى أقراننا والأجيال الجديدة.
على خطى تفكير النظام الخاص
وإذا تحدثنا عن علاقتنا بالإخوان قبل الانضمام إليهم يمكنني القول إن أفكارنا ومنهجنا كان أقرب إلى المنهج وطريقة التفكير التي كانت تسيطر على إخوان تنظيم 1965، فقد كانت لديهم منهجية الانقلاب والثورة، وكان لديهم رغبة في الانقلاب على جمال عبد الناصر، انتقاما منه لما فعله بالبلاد.
بل أكثر من ذلك أرى أن إخوان النظام الخاص مثل الأساتذة مصطفى مشهور وكمال السنانيري وحسني عبد الباقي وأحمد حسنين وأحمد الملط، كانت لديهم منهجية قريبة منّا، وأنهم حين خرجوا من السجون كانوا يحملون نفس الأفكار التي كنا نحملها، لذلك كانوا أقرب لنفوسنا في ذلك الوقت من غيرهم من الإخوان القدامى الذين تربوا بالقرب من الأستاذ حسن البنا، مثل الأساتذة عمر التلمساني وصلاح شادي وفريد عبد الخالق وصالح أبو رقيق.
ولعله كان من أقدار الله الطيبة أن نلتقي أولا بأفراد التنظيم الخاص المتشددين أصحاب الاتجاه الأصولي قبل لقائنا مع القيادات الكبرى الأكثر اعتدالا، فلو أن الاتصال الأول كان مع كبار الإخوان المعتدلين أمثال الأستاذ عمرو التلمساني والمقربين منه لكنا حسمنا أمرنا بعدم الانضمام للجماعة!!.
لقد عانينا كثيرا – كشباب متشدد مثالي- مع قيادات الجماعة المعتدلة، بسبب ما كنا نراه ونعتبره تساهلا منهم في أمور دينية لم نكن نتصور أن يتساهل فيها أمثالهم، وما كان يلطف الأجواء بيننا هو القيادات الأصولية من رجال التنظيم الخاص وتنظيم 1965!.
في الفترة التي تعرفنا فيها على الإخوان كان في الجماعة تياران رئيسيان، التيار الأول تمثله مجموعة النظام الخاص، وامتداداته في تنظيم 1965 الذي كان قد ارتبط بالشهيد سيد قطب، إضافة إلي مجموعة من الإخوان بدأت مع الإخوان بعد عام 1954 مع بداية المحنة، وهؤلاء ما كانوا من الإخوان القدامى ولا من الجيل الذي انضم بعد ذلك ومنهم الإخوة: إبراهيم شرف وجابر رزق وصبري عرفة الكومي.
أما التيار الثاني فهو الأكثر تأثرا بمنهج الأستاذ الإمام حسن البنا الذي كان إصلاحيا معتدلا متدرجا سلميا غير مؤمن بالعنف كما هو حال منهج التيار الأول، وما أراه أن هذا الاختلاف لم يكن مقصودًا أو متعمدًا ولم تكن أدوارًا مقسمة بينهم بل كان هناك أسلوبان فكريان مختلفان في صف الجماعة خاصة أثناء محنتي 1954 و1965.
وأتصور أيضا أن الأفكار الانقلابية كانت طارئة على الإخوان وتأثرت إلى حد كبير بكتابات الشهيد سيد قطب، وأنها لم تكن تعبر عن الخط الأساس لجماعة الإخوان كما وضعه الإمام الشهيد حسن البنا، وأرى أنه قد حدث خلط كبير في هذا الأمر حين ادعى البعض أن الأستاذ حسن الهضيبى – رحمه الله – كان على علم بأفكار هذا التنظيم - 1965- ومنهجه الانقلابي، وهذا - في رأيي - غير صحيح تماما، فهو كان ممن يرفضون التغيير بالعنف، وكانت له وقفته المشهودة ضد تيار التكفير ومازال كتاب "دعاة لا قضاة" مرجعا أساسا في التصدي لهذا التيار... أمّا مسألة علاقة الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – بهذا التنظيم، فهو أمر يحتاج إلى التمحيص والنظر.
الحسم بين تياري النظام الخاص والعمل العام
وأتصور أن الجماعة- الإخوان- ظلت طوال عقد السبعينيات تضم داخلها كلا التيارين، وأنها لم تحسم توجهها الاستراتيجي في قضية العنف إلا عام 1984، الذي كان عام الحسم والعودة الحقيقية لفكر المدرسة الأولى؛ مدرسة حسن البنا البعيدة عن أفكار النظام الخاص وتنظيم 1965، والتي تقوم على العلنية واحترام المشروعية واعتماد نهج التغيير السلمي.
وسبب تحديدي لهذا العام أنه العام الذي قررت الجماعة فيه الدخول بقوة في العمل العام، فحين قررت الجماعة خوض انتخابات النقابات دار بيننا حوار داخلي، وكانت هناك تساؤلات حول المنهج الذي ستدخل به الجماعة في العمل العام، وحول جدوى سبيل التغيير السلمي من خلال مؤسسات المجتمع المدني.
وقد حسمت الجماعة أمرها باختيار سبيل العمل السلمي الإصلاحي وتجاوز فكرة العنف تماما، وأذكر وقتها أن الأستاذ صالح أبو رقيق قال في تصريح للصحافة: إن جماعة الإخوان قد طلقت العنف ثلاثا!
وقد كان الفضل في هذا- بعد الله- للأستاذ عمر التلمساني الذي أحدث تطويرا كبيرا في طريقة تفكيرنا نحن الشباب، بما جعل من المستقر في أذهاننا أن التغيير بالقوة هو فكرة ساذجة ولن تأتي بنتيجة، وأن خسائرها أكثر من مكاسبها. وكان مما حسم حوارنا الداخلي ناحية نهج التغيير السلمي تقييمنا للتجارب الفاشلة التي لم تأت بنتيجة.
كان هذا الحوار مطروحًا منذ ديسمبر83 ثم استمر في 1984 مع قرار خوضنا انتخابات مجلس الشعب وتحالفنا مع حزب الوفد الليبرالي، ثم بدأ دخول الانتخابات النقابية وكان أولها في نقابة الأطباء.
لقد كنت من الذين تحمسوا مع الأستاذ عمر التلمساني في قرار خوض الانتخابات، وكان معنا الإخوة عصام العريان وحلمي الجزار وإبراهيم الزعفراني… وبقية المجموعة التي تمثل القيادات الحركية الشابة للإخوان.
ومن الجيل القديم الذين ساندوا قرار خوض الانتخابات البرلمانية الأساتذة: صلاح شادي وفريد عبد الخالق وكذلك الدكتور أحمد الملط الذي كان نائبال للأستاذ عمر التلمساني منذ 1981 ، والذي أستطيع أن أؤكد من خلال معرفتي الوثيقة به أنه كان صاحب فكر منفتح، وكان يميل إلى الأخذ بالتيسير خاصة في المسائل الفقهية.
دور مجلة الدعوة
ولا يمكن أن نتعرف على تاريخ الحركة الطلابية الإسلامية في هذه الحقبة – عقد السبعينيات – دون التوقف عند مجلة الدعوة وتأثيرها في تغيير أفكارنا وتحديد وجهتها. كانت مجلة الدعوة تصدر من أيام الشيخ حسن البنا وكان صاحب امتيازها الأستاذ صالح عشماوي، وقد توقفت مع الصدام بين الإخوان والثورة... ولما عاد الإخوان للعمل في السبعينيات واستقر وجودهم سُمح لهم بإعادة إصدار المجلة مرة أخرى بإدارة وإشراف الأستاذ عمر التلمساني ورئاسة تحرير الأستاذ صالح عشماوي صاحب الامتياز. فصدر العدد الأول منها في يوليو 1976 وكانت تلك بداية عامها الخامس والعشرين.
كان يكتب فيها شيوخ الدعوة وأساتذتها وشيوخ الأزهر وعلمائه وكثير من العلماء والمفكرين.
وكثيراً ما كتب فيها الشيخ يوسف القرضاوي خاصة في القضايا التي تتعلق بتكوين الدعاة وترشيد الصحوة، كانت له سلسلة مقالات في "ثقافة الداعية" كان لها تأثير مهم في تكويننا الفكري والشرعي .
وكان الأستاذ المستشار علي جريشة يكتب في القضايا الدستورية من و جهة نظر إسلامية وكان من أشهر ما كتبه في هذه القضية مقالة بعنوان: (القرآن فوق الدستور). وفي قضايا الفكر الحركي كان يكتب الأستاذ فتحي يكن من لبنان سلسلة مقالات مهمة لتحفيز الشباب الإسلامي على العمل ضمن الحركة تحت عنوان: "ماذا يعني انتمائي للإسلام"، ونشرت فيما بعد في كتاب بالعنوان نفسه.
كانت المجلة تركز على نقد الحقبة الناصرية وأركان النظام الناصري بمن فيهم الرئيس جمال عبد الناصر، ففتحت ملفات التعذيب والمذابح التي تعرض لها الإخوان في سجون ناصر مثل مذبحة ليمان طرة التي راح ضحيتها عشرات الإخوان ما بين قتيل وجريح بعدما أطلق الجنود النار على المعتقلين حتى إن بعضهم أصيب بالجنون من هول المذبحة!.
كما كانت تخوض حربا ضروسا ضد اليسار والماركسيين خاصة من مثقفي هذا التيار ورموزه الذين كانوا ضمن السلطة في العهد الناصري أو الذين ظلوا فيها في عهد السادات.
وكانت مجلة الدعوة من أهم المنابر التي أثارت قضية الشريعة الإسلامية والنص عليها في الدستور وتطبيق أحكامها فجعلتها محورا للاهتمام والنقاش في الحياة الثقافية والسياسية في مصر... وكانت ملتقى كل من يهمهم أمر هذه القضية بمن فيهم شيخ الأزهر الإمام الأكبر عبد الحليم محمود الذي كان أقوى من حمل عبء هذه الدعوة . وأذكر أنها نشرت له ذات مرة رسالة وجهها إلى سيد مرعي رئيس مجلس الشعب مفادها: (الله حرم الخمر في شيراتون وشارع الهرم كما حرمها في بولاق وكلوت بك!) وذلك ردا على قانون يحظر الخمر في الأماكن والمحال العامة ويسمح بها في الفنادق والمنشآت السياحية للأجانب.
الحلقة السابعة
الثورة الإيرانية
في نهاية السبعينيات بدأت نذر الثورة الإسلامية في إيران، وقتها كنّا شبابا نفيض حيوية وتسيطر علينا روح ثورية ورغبة في التغيير واقتلاع أنظمة الجور والاستبداد والعمالة للأجنبي وتعطيل شرع الله، وكان شاه إيران بالنسبة لنا أحد طواغيت هذه الأنظمة ورموزها التي لم تعد تستحي من إعلان الاستبداد والعمالة للولايات المتحدة الأمريكية، وجاءت الثورة؛ ثورة شعبية إسلامية تريد اقتلاع طاغية من طواغيت العصر، وكان هذا كافيا للتعاطف مع هذه الثورة بل الإعجاب بها وتقديرها، فهي نموذج لثورة الشعوب على الظلم والاستبداد والفساد، وكنّا نرى فيها أملا لنا كقادة لحركات إسلامية تعيش إحساس الاضطهاد من قبل أنظمة ظالمة فاسدة.
والحقيقة أن موقفنا من الثورة الإسلامية في إيران كان جد معقد، فنحن أيدناها ورحبنا بها ورأينا فيها نموذجا يحتذى لكن كونها ثورة شيعية كان سببا في الحد من الانفتاح عليها والتفكير في الاقتراب منها والتأثر المباشر بها، كانت السلفية الوهابية حاضرة بقوة في تكويننا الفكري وقتها فأقامت حاجزا بيننا وبين هذه الثورة وهو الحاجز الذي صار جدارا شاهقا بسبب ما أحدثته هذه الثورة من خوف وهلع لدى الأنظمة العربية الحاكمة التي فعلت الكثير للتخويف منها خشية أن تقوم الدولة "الشيعية" الجديدة بتصدير الثورة إليها.
ورغم تأثرنا بالفكر السلفي ووقوعنا في دائرة الدعاية الرسمية المضادة فقد استقبلنا الثورة الإسلامية في إيران بحماس شديد، واعتبرناها نصرا للمشروع الإسلامي وأعلنا رفضنا للموقف الرسمي المناهض لها وانتقدنا موقف الرئيس السادات واستقباله للشاه المخلوع في القاهرة وإيوائه في مصر بعد أن رفضت دول كثيرة بما فيها حليفته أمريكا استقباله، فقد كان الشاه في نظرنا حاكما ظالما مستبدًا يستحق من شعبه أن يثور عليه ويخلعه ورأينا في سلوك السادات إساءة للثورة الإسلامية بل وطعنا فيها، وأذكر أننا حركنا المظاهرات المناهضة لموقف السادات واستقبال الشاه في مصر والمؤيدة للثورة في إيران.
كان مسؤول الاتصال بين الإخوان وقيادة الثورة الإيرانية إلى هذا الوقت الأستاذ يوسف ندا رجل الأعمال المصري المقيم في سويسرا، وكان يوسف ندا مصدر المعلومات الرئيسي للإخوان عن الثورة ورؤيتها وأدائها وكل ما يتعلق بها من تفاصيل .وزار وفد من قيادات الإخوان خارج مصر إيران للتهنئة بالثورة وكان على رأس الوفد الأستاذ عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان في الأردن الذي كان وقتها نائبا عن المرشد العام، وتم ذلك بناءً على اقتراح من يوسف ندا قبله الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام.
لكن حماسنا للثورة بدا يخفت تدريجيا خاصة بعدما بدرت منها روح طائفية في بعض المواقف والتي استغلت للتشهير بها وتقديمها على أنها دولة صفوية جديدة تكن العداء لأهل السنة، ثم جاءت الحرب بينها وبين العراق لتزيد من فتور مشاعر التضامن معها .
الغزو السوفييتي لأفغانستان
في نهاية عام 1979 اجتاحت الجيوش السوفييتية أراضي أفغانستان لدعم الحكومة الشيوعية في كابول، فقمنا لنصرة إخواننا في تعاطف فطري وبتصور بسيط بل ساذج لمفهوم الجهاد وإقامته. كنّا – خاصة القيادات الطلابية - نتصور أن المسألة سهلة لا تبعد كثيرا عمّا فعله الإخوان المسلمون في فلسطين في حرب عام 1948.
نظّمنا عددا من الفعاليات الشعبية ومنها مؤتمرات في الأزهر الشريف دعونا فيها الشباب للتطوع من أجل الجهاد، وشارك في هذه الحملة عدد من العلماء والشيوخ في مقدمتهم عمر التلمساني ومحمد الغزالي وأحمد المحلاوي وحافظ سلامة.
في هذا الوقت دار نقاش طويل بين قيادة الإخوان حول الشكل الأنسب لدعم الشعب الأفغاني وقضيته. وبعد أخذ ورد استقر الرأي على أن تقتصر جهود الإخوان على الإغاثة والدعم المالي والتعريف بالقضية ونشرها. وكان هناك سببان لعدم المشاركة العسكرية، أولهما أنها كانت رغبة عدد من قادة المجاهدين ممن لنا بهم صلات مباشرة مثل عبد رب الرسول سيّاف وبرهان الدين ربّاني، فقد أكدوا لنا أنهم لا يحتاجون أفرادا أو جنودا، ولكنهم بحاجة إلى المال والمؤونة. أما السبب الثاني والذي لا يقل أهمية فهو عدم ثقتنا في الأنظمة العربية التي فتحت أبوابها أمام الشباب للجهاد، فقد كنا نشعر أن ذلك العمل ليس لوجه الله، وأن هذه الأنظمة لو كانت حريصة على الإسلام لكان أولى بها أن تعمل له في بلادها، وأنها لم تفعل ذلك إلا بعد أن أذنت لها أمريكا. وأنها من السهل أن تنقلب على أولئك الشباب الطيبين بعد ذلك، وهو ما حدث بالفعل!.
كان عدد من الإخوان القدامى يؤيدون المشاركة العسكرية والعمل الجهادي، لكن الاتجاه العام - الذي حسم موقف الجماعة - كان عدم المشاركة العسكرية والاكتفاء بالدعم الإغاثي والإنساني والمعنوي.
وللتاريخ أقول أن أول مسؤول عن الملف الأفغاني في الإخوان كان الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله، ولكن لم يكن دوره ظاهرا في البداية خاصة أنه لم يمكث كثيرا حتى اعتقل في أحداث سبتمبر 1981 ثم استشهد من جراء التعذيب في المعتقل وكان في الزنزانة الملاصقة لي بالمعتقل، ثم تولي المسؤولية بعده عن ملف أفغانستان الدكتور أحمد الملط وكنت مساعده، ومعه كانت أول زيارة قمت بها إلى أفغانستان عام 1984، ومنها تفقدت تجمعات اللاجئين في بيشاور وكويتا.
الاحتقان الداخلي وبداية الصدام مع السادات
حين بدأ السادات مشروعه للصلح شعرنا بالتغير نحو الأسوأ في طريقة معاملته مع الحركة الإسلامية، وبعد زيارة القدس اتضحت الأمور أكثر، وكان أول ما لاحظناه هو تغير أسلوب تعامل إدارة الجامعة معنا، كان الدكتور صوفي أبو طالب نائب رئيس الجامعة حتى تخرجي سنة 1977، وكان لا يرد لي طلبًا بصفتي رئيس اتحاد الطلاب، ولكن سياسته معنا أخذت تتغير فيما بعد، فبدأ يعيق تحركاتنا ويعرقل عملنا في الجامعة.
وبعد توقيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني سنة 1979 وبدء حملة قوية من الحركة الإسلامية ضدها بدأ الصدام يحتدم، وبدأت تسفر سياسة التضييق الأمني عن نفسها، فكان هذا دليلا على تغير الأجواء بين السادات وبين الحركة الإسلامية.
لقد بدأت في هذه الفترة سياسة التضييق على معسكرات الجماعة الإسلامية، وهذه السياسة وإن كنا رأيناها بعد اغتيال جماعة شكري مصطفى (أطلق عليها الإعلام: التكفير والهجرة) للشيخ الذهبي رحمه الله، إلا أنها اشتدت تدريجيا بعد مشروع السادات للصلح مع إسرائيل وما تولد عنه من رفض إسلامي واسع للسادات وسياساته.
بدأنا نواجه بعراقيل إدارية تضعها إدارة رعاية الشباب وتضييق من مشرفي المدن الجامعية تتمثل في التشديد المبالغ فيه في الإجراءات ووقف كل التيسيرات التي كانت تمنح لنا في السابق... وكذلك تقليص الوجبات التي تقدم لطلاب المعسكرات وضعف الخدمات عموما... كما بدأت تثار الشائعات كل سنة حول النية في إلغاء المعسكرات أو ضربها واعتقال السلطات لمن فيها!
وكان عام 1978 أول عام تواجه فيه الجماعة الإسلامية تضييقا شديدا في ترشيح أعضائها للانتخابات الطلابية واستبعادهم من قوائم الانتخابات. ثم حرمان الاتحادات التي يفوزون فيها من الدعم وكانت جامعة عين شمس من أولى الجامعات التي استبعد فيها طلاب الجماعة الإسلامية من الانتخابات الطلابية.
وفي عام 1979 أصبحت المواجهة سافرة وبدأ الصدام باعتقال عشرة طلاب من الجماعة الإسلامية في اتحاد طلاب جامعة المنيا، منهم الإخوان محي الدين عيسى وأبو العلا ماضي وكان رئيسا لاتحاد طلاب الجامعة ونائبا لرئيس اتحاد طلاب الجمهورية. وصدرت ضد هؤلاء العشرة قرارات بالفصل والحرمان من الدراسة... وكانت هذه أول مواجهة مباشرة من النظام للجماعة الإسلامية في الجامعة.
وتصاعدت المواجهة في عدد من الجامعات الأخرى بغرض ضرب النشاط الإسلامي حتى وصلت إلى الضربة الكبرى التي تمثلت في إصدار الدولة للائحة طلابية جديدة للقضاء على الحركة الطلابية ومحاصرتها... فصدر القرار الجمهوري رقم 265 لسنة 1979 الذي يلغي القرار الجمهوري رقم 235 لسنة 1976... وقد جمدت اللائحة الجديدة الاتحادات الطلابية المنتخبة وجمدت أموالها وأغلقت مقارها وحظرت اجتماعاتها.
وتصاعدت الضربات تدريجيا فكان عام 1980 آخر الأعوام التي استطعنا فيها إقامة المعسكرات الإسلامية حيث أقمنا معسكرا منتصف العام – في فصل الشتاء- في قرية درنكة بمحافظة أسيوط وكنا قد اعتدنا على التخييم فيها لقربها من الجبل واتساع الأرض والفضاء بها، كما أقمنا معسكرا في إجازة الصيف في شاطىء أبو يوسف بالإسكندرية على أرض تابعة لرجل الأعمال الشهير المهندس طلعت مصطفى كانت قريبة من الشاطىء.
في عام 1981 ألغيت كل المعسكرات الطلابية بعد أن بدأ السادات يصعد من مواجهته ليس معنا وحدنا فحسب بل ومع كل القوى السياسية.
ربما كانت واقعة الصدام الشهيرة بين السادات وبين الأستاذ عمر التلمساني أهم المؤشرات على أن العلاقة بين السادات والحركة الإسلامية سارت في طريق مسدود، وأن الصدام قادم ولا يبقى عليه إلا القليل، فقد تعمد السادات في لقائه الشهير الحديث إلى الأستاذ عمر بأسلوب مهين على غير عادته، وزاد من الإهانة أن اللقاء كان يبثه التلفزيون كعادته في نقل اللقاءات الفكرية التي كان ينظمها السادات.
يروي الأستاذ عمر التلمساني، الواقعة في كتابه "أيام مع السادات" فيقول: "قمت بزيارة إلى وزير الثقافة والإعلام منصور حسن في مقر عمله بناء على طلب الوزير… وحاول أن يقنعني بحضور اللقاء الفكري للرئيس السادات بالإسماعيلية يوم 28 رمضان عام 1979 وفي النهاية ومع إلحاح الوزير وافقت على الحضور.
وعندما وصلت إلى مكان الاجتماع جلست في آخر الصفوف، وبعد دقائق جاءني المشرف على تنظيم الحفل، وألح وأصر على أن أجلس في الصف الأول، وقلت إن ذلك تكريماً منهم لي فتفاءلت خيراً، ولعل هناك بدءاً لتفاهم جديد، ولكن هذه الجلسة كانت لغرض كشفت عنه أحداث الحفل، فقد أجلسني منظم الحفل في الصف الأول على كرسي، لو مددت منه خطاً مستقيماً لوجدته ينتهي عند الكرسي الذي يجلس عليه السادات في المنصة، وكأنهم أرادوا بذلك أن أكون أقرب ما أكون من السادات عندما بدأ سيل اتهاماته المنهمر، يترامى من حولي شمالاً وجنوباً ويساراً ويميناً، رجاء أن يصيب مني مقتلا.ً تهم لي وللإخوان لا حصر لها بتخريب وعمالة وإثارة للطلبة، والعمالة والفتنة الطائفية، وكل ما في أجواء الخيال والانسجام مع الجو الشاعري الذي كنا نجلس فيه، بين أحضان حدائق الإسماعيلية الندية الوارفة الظلال، تهم من النوع الذي اعتاد السادات أن يلقيها على كل ما لا يرى فيه نابغة الزمان، وباتعة العصر والأوان.
وطال السباب وضاق الصدر، ونفد الصبر، واستثارتني عاطفة الحب للإخوان، فقاطعته قائلاً "إن هذا كلام يحتاج إلى ردود" فأجابني: "لما أخلص كلامي رد كما تشاء"، وظل سادراً في غلوائه، وغاب الحاضرون في أنفسهم، والذين سمعوه على أجنحة الأثير، أنه كان في نهاية كل مقطع من كلامه يقول:"مش كده يا عمر؟!"، استنكر الشعب كله، حتى بعض من كان معه، أن يخاطبني باسمي مجرداً، غير مراع في ذلك حرمة السن، ولا طهارة شهر الله، ولا الصفة التي منحتني إياها الجامعة عندما أعطتني ليسانس الحقوق، ولا حرمة المنصب الذي يشغله، والذي يجب أن يزدان بكل لياقة وتهذيب، ولكن العيار انفلت، "والبيبة صهللت"، والخيال انفتح ولم يكن في كل عيب من العيب الذي يحلو له دائماً أن يردده، وإني لأحمد الله على أن أسلوبه لم يسؤني كما أساءه، ولم ينل مني كما نال منه، أليس البغي مرتعه وخيم؟!
وكان طوال مدة حديثي يشد الأنفاس الملهلبة، من بيبته الأنيقة، حتي ظننت أنها تدانيه بكل ما أراد، وتوحي إليه بما شاء من نسج الخيال، كان الله في عوني وعونه... عوني على الصبر، وعونه على الابتداع، وما إن انتهى من حديثه، حتى وقفت أمام الكرسي الذي كنت أجلس عليه، ولم يكن أمامي مذياع ولا مكبر للصوت، ولم يكن في ذهني رد معد، ولكن الله ألهم منظمي الحفل أن يأتوني بمكبر للصوت، أتحدث من خلاله، ولعلهم حرصوا من وراء ذلك أن يسمعوا العالم اعتذاراتي وأسفي وحسرتي على ما بدر مني، فيبعث ذلك الراحة إلى صدره المثقل بعدوانه للإخوان المسلمين، ولكن أراد عمراً وأراد الله خارجة، فكان في تصرفهم ما أوضح للناس جميعاً أن من بين من في مصر، من يقول للظالم لقد جُرت وتعديت.
فندت كل التهم التي وجهها إلي وإلى الإخوان واحدة واحدة، بالدليل والبرهان وختمت ردي بالعبارات الآتية:"لو أن غيرك وجه إلي مثل هذه التهم لشكوته إليك، أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها، فإني أشكوك إلى أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، لقد آذيتني يا رجل وقد أُلزَم الفراش أسابيع من وقع ما سمعت منك"، وأشهد صادقاً أن البيبة ارتعشت بين شفتيه، وقال: "إنني لم أقصد الإساءة إلى الأستاذ عمر ولا إلى الإخوان المسلمين... اسحب شكواك بقى"، فأجبته بأنها رفعت إلى من لا أستطيع استرداد ما وضعته بين يديه... كانت أول مرة يخاطبني فيها بكلمة أستاذ، طوال خطابه الممل الطويل!! وانتهى الاجتماع وأرسل لي في أعقابه فوراً وزير الأوقاف ومنصور حسن وزير الثقافة والإعلام، يبلغاني أمام من كان موجوداً، أن سيادة الرئيس لم يقصد الإساءة إلي، وأنه سيحدد موعداً لمقابلتي."
ويبدو أن تسارع الأحداث وقسوة تيارات المعارضة في نقدها للسادات ومشروعه للصلح مع إسرائيل - على غير ما كان يتوقع- جعله يصبح حادا عصبي المزاج، مما أدخله في صدام مع كل القوى السياسية لم يبق له بسببه صديق.
في هذه الفترة وقعت أحداث الفتنة الطائفية بمنطقة الزاوية الحمراء في القاهرة سنة 1981، ورغم أجواء الاحتقان والتوتر تفاعل الإخوان المسلمون إيجابيا وكونوا سريعا فريقا للمصالحة بين المسلمين والأقباط ضم الأساتذة: عمر التلمساني ومصطفى مشهور وحافظ سلامة وأحمد المحلاوي وكنت عضوا بهذا الفريق معهم ... ونجحت المصالحة في وأد الفتنة التي لم يكن لها أسباب حقيقية وإن تفاعلت بصورة غريبة.
فقد بدأت الأحداث بسيطة بـ"خناقة" بين مسلم ومسيحي، فتم الاعتداء على مسجد بالزاوية الحمراء وكان الرد بالاعتداء على المسيحيين في المنطقة مما أدى إلى سقوط قتلى من الطرفين، وبدت الفتنة مرشحة للتفاقم أكثر من ذلك بعدما امتد التوتر والصدام إلى صعيد مصر حيث قام شباب الجماعة الإسلامية بمدينة المنيا بجمع الطلاب الأقباط في المدينة الجامعية واحتجزوهم في غرفهم، ووقتها اتصل وزير الداخلية بالأخ حلمي الجزار باعتباره أمير أمراء الجماعة الإسلامية، ورجاه التوجه إلى المنيا وحل المشكلة، فتجاوب الأخ حلمي معه ونجح في إنهاء الأزمة والإفراج عن الطلاب الأقباط .
والحقيقة أنني أحسست وقتها أن هناك أسبابا غير طبيعية للفتنة، وكنت أشعر مما يحدث- مثلا- في الصعيد بين شباب الجماعة والأقباط أن هناك جهة ما داخل النظام تريد أن تشعل الدنيا ولا تنطفئ النار... مثلا كان يصلنا أن بعض الشباب كانوا يهاجمون من يرونه يسير صحبة فتاة في الشارع، فكنا ننصحه بالتصرف القانوني وتحرير محضر في قسم الشرطة، ثم نسمع بأن هذه المحاضر تحفظ ولا تتصرف فيها الشرطة ولا تأخذها على محمل الجد رغم خطورة الموضوع، وهو ما كان يعطي الفرصة لزيادة تطرف الشباب واتجاههم أكثر إلى العنف، خاصة أن الشرطة لم تكن- وقتها- تتحرك إذا ما جاءها شاب قبطي يريد الإبلاغ عن واقعة اعتداء ضده ولا تقوم معه باللازم ضد من قام بالاعتداء.
وأتصور أن هذه الجهات داخل النظام كانت تتعمد ترك الشباب القبطي يضرب ويُعتدى عليه دون أن تتحرك رغبة منها في جره إلى الرد بالمثل ومن ثم دخول البلد في دوامة عنف… لقد بقيت أجهزة الدولة أمام أحداث الزاوية الحمراء، وكان الشباب المسلم يأتي إلينا- في بعض الأحيان- مستغيثا من أن بعض الشباب الأقباط يحملون السلاح دون أن تتحرك الدولة لمنعهم، وكانوا يطلبون منا السماح لهم بحمل السلاح لمواجهة الأقباط المتطرفين!
لقد ظلت الفتنة مشتعلة ثلاثة أيام كاملة في الزاوية الحمراء دون تحرك جاد لاحتوائها وكأنما كان هناك – داخل السلطة- من لا يريد وأدها أو التحرك لنزع فتيلها.
والآن أتساءل : هل كان هناك – داخل النظام- من يسعى لاستدراج الحركة الإسلامية للعنف والطائفية لضربها بين يدي اتفاقية كامب ديفيد وبيع فلسطين؟ أتصور أن هذا التفسير يبدو الأكثر قبولا عندي... وأتصور أيضا أنه كان حاضرا في ذهن الأستاذ عمر التلمساني الذي قاد مبادرة المصالحة لدرء هذه الفتنة لتفويت الفرصة على النظام.
ورغم ذلك يمكن القول أن السادات استغل- فعلا- حالة التوتر والاحتقان التي أدخل فيها البلاد لضرب الحركة الإسلامية وهو ما كانت إشارته قراره بإغلاق مجلة الدعوة لسان حال الإخوان عام 1980 مرة أخرى دون رجعة، وقد خطب- وقتها - خطبة هاجم فيها الحركة وأشاع فيها مناخا من التوتر، وأظن أن السبب الحقيقي لغضبه كان معارضة الإخوان لاتفاقية كامب ديفيد، وهو الموقف الذي أراد أن يستغله السادات لتحجيم التيار الإسلامي الآخذ في النمو والتضخم والتحول إلى تيار جارف.
ورغم أن مبادرة السلام كانت خطأ بل وسقطة كبرى للسادات في رأي الإخوان أو غيرهم من الاتجاهات السياسية الأخرى؛ إلا أن الموقف الذي واجهته به المعارضة كان بالغ القسوة والعنف وكان مسؤولا إلى حد كبير عن خروجه عن وعيه وفقدانه السيطرة على أعصابه… فعلى صفحات مجلة الدعوة وفي المؤتمرات وداخل الجامعة جرى الهجوم على السادات واتهامه بالعمالة والخيانة بعدما قال إن 99 % من أوراق اللعبة في يد أمريكا.
وبلغ عنف الهجوم على السادات أقصاه من الشيخ أحمد المحلاوي في الإسكندرية الذي انتقل إلى الهجوم على زوجته السيدة جيهان واتهامها باتهامات قاسية!.
كان صعبا علينا ألا نهاجم السادات أو نتهمه بالخيانة والعمالة؛ لكن الإخوان الكبار كانوا أعقل منا، فلم يتعرض أحد منهم لشخص السادات أو زوجته، بعكس الإسلاميين المستقلين الذين كان هجومهم عليه عنيفا وشخصيا كما فعل الشيخ حافظ سلامة أو الشيخ محمود عيد والشيخ أحمد المحلاوي في الإسكندرية.
ورغم رفضي لمبادرة السادات جملة وتفصيلا إلا أنني أذهب إلى أن هذا الإقدام على الصلح مع اليهود والصداقة معهم بعد هذه العداوة والحرب الكبيرة بيننا وبينهم لم يكن من صنع السادات فقط بل وبضغوط خارجية شديدة عليه.
في نهاية السبعينيات بدأت نذر الثورة الإسلامية في إيران، وقتها كنّا شبابا نفيض حيوية وتسيطر علينا روح ثورية ورغبة في التغيير واقتلاع أنظمة الجور والاستبداد والعمالة للأجنبي وتعطيل شرع الله، وكان شاه إيران بالنسبة لنا أحد طواغيت هذه الأنظمة ورموزها التي لم تعد تستحي من إعلان الاستبداد والعمالة للولايات المتحدة الأمريكية، وجاءت الثورة؛ ثورة شعبية إسلامية تريد اقتلاع طاغية من طواغيت العصر، وكان هذا كافيا للتعاطف مع هذه الثورة بل الإعجاب بها وتقديرها، فهي نموذج لثورة الشعوب على الظلم والاستبداد والفساد، وكنّا نرى فيها أملا لنا كقادة لحركات إسلامية تعيش إحساس الاضطهاد من قبل أنظمة ظالمة فاسدة.
والحقيقة أن موقفنا من الثورة الإسلامية في إيران كان جد معقد، فنحن أيدناها ورحبنا بها ورأينا فيها نموذجا يحتذى لكن كونها ثورة شيعية كان سببا في الحد من الانفتاح عليها والتفكير في الاقتراب منها والتأثر المباشر بها، كانت السلفية الوهابية حاضرة بقوة في تكويننا الفكري وقتها فأقامت حاجزا بيننا وبين هذه الثورة وهو الحاجز الذي صار جدارا شاهقا بسبب ما أحدثته هذه الثورة من خوف وهلع لدى الأنظمة العربية الحاكمة التي فعلت الكثير للتخويف منها خشية أن تقوم الدولة "الشيعية" الجديدة بتصدير الثورة إليها.
ورغم تأثرنا بالفكر السلفي ووقوعنا في دائرة الدعاية الرسمية المضادة فقد استقبلنا الثورة الإسلامية في إيران بحماس شديد، واعتبرناها نصرا للمشروع الإسلامي وأعلنا رفضنا للموقف الرسمي المناهض لها وانتقدنا موقف الرئيس السادات واستقباله للشاه المخلوع في القاهرة وإيوائه في مصر بعد أن رفضت دول كثيرة بما فيها حليفته أمريكا استقباله، فقد كان الشاه في نظرنا حاكما ظالما مستبدًا يستحق من شعبه أن يثور عليه ويخلعه ورأينا في سلوك السادات إساءة للثورة الإسلامية بل وطعنا فيها، وأذكر أننا حركنا المظاهرات المناهضة لموقف السادات واستقبال الشاه في مصر والمؤيدة للثورة في إيران.
كان مسؤول الاتصال بين الإخوان وقيادة الثورة الإيرانية إلى هذا الوقت الأستاذ يوسف ندا رجل الأعمال المصري المقيم في سويسرا، وكان يوسف ندا مصدر المعلومات الرئيسي للإخوان عن الثورة ورؤيتها وأدائها وكل ما يتعلق بها من تفاصيل .وزار وفد من قيادات الإخوان خارج مصر إيران للتهنئة بالثورة وكان على رأس الوفد الأستاذ عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان في الأردن الذي كان وقتها نائبا عن المرشد العام، وتم ذلك بناءً على اقتراح من يوسف ندا قبله الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام.
لكن حماسنا للثورة بدا يخفت تدريجيا خاصة بعدما بدرت منها روح طائفية في بعض المواقف والتي استغلت للتشهير بها وتقديمها على أنها دولة صفوية جديدة تكن العداء لأهل السنة، ثم جاءت الحرب بينها وبين العراق لتزيد من فتور مشاعر التضامن معها .
الغزو السوفييتي لأفغانستان
في نهاية عام 1979 اجتاحت الجيوش السوفييتية أراضي أفغانستان لدعم الحكومة الشيوعية في كابول، فقمنا لنصرة إخواننا في تعاطف فطري وبتصور بسيط بل ساذج لمفهوم الجهاد وإقامته. كنّا – خاصة القيادات الطلابية - نتصور أن المسألة سهلة لا تبعد كثيرا عمّا فعله الإخوان المسلمون في فلسطين في حرب عام 1948.
نظّمنا عددا من الفعاليات الشعبية ومنها مؤتمرات في الأزهر الشريف دعونا فيها الشباب للتطوع من أجل الجهاد، وشارك في هذه الحملة عدد من العلماء والشيوخ في مقدمتهم عمر التلمساني ومحمد الغزالي وأحمد المحلاوي وحافظ سلامة.
في هذا الوقت دار نقاش طويل بين قيادة الإخوان حول الشكل الأنسب لدعم الشعب الأفغاني وقضيته. وبعد أخذ ورد استقر الرأي على أن تقتصر جهود الإخوان على الإغاثة والدعم المالي والتعريف بالقضية ونشرها. وكان هناك سببان لعدم المشاركة العسكرية، أولهما أنها كانت رغبة عدد من قادة المجاهدين ممن لنا بهم صلات مباشرة مثل عبد رب الرسول سيّاف وبرهان الدين ربّاني، فقد أكدوا لنا أنهم لا يحتاجون أفرادا أو جنودا، ولكنهم بحاجة إلى المال والمؤونة. أما السبب الثاني والذي لا يقل أهمية فهو عدم ثقتنا في الأنظمة العربية التي فتحت أبوابها أمام الشباب للجهاد، فقد كنا نشعر أن ذلك العمل ليس لوجه الله، وأن هذه الأنظمة لو كانت حريصة على الإسلام لكان أولى بها أن تعمل له في بلادها، وأنها لم تفعل ذلك إلا بعد أن أذنت لها أمريكا. وأنها من السهل أن تنقلب على أولئك الشباب الطيبين بعد ذلك، وهو ما حدث بالفعل!.
كان عدد من الإخوان القدامى يؤيدون المشاركة العسكرية والعمل الجهادي، لكن الاتجاه العام - الذي حسم موقف الجماعة - كان عدم المشاركة العسكرية والاكتفاء بالدعم الإغاثي والإنساني والمعنوي.
وللتاريخ أقول أن أول مسؤول عن الملف الأفغاني في الإخوان كان الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله، ولكن لم يكن دوره ظاهرا في البداية خاصة أنه لم يمكث كثيرا حتى اعتقل في أحداث سبتمبر 1981 ثم استشهد من جراء التعذيب في المعتقل وكان في الزنزانة الملاصقة لي بالمعتقل، ثم تولي المسؤولية بعده عن ملف أفغانستان الدكتور أحمد الملط وكنت مساعده، ومعه كانت أول زيارة قمت بها إلى أفغانستان عام 1984، ومنها تفقدت تجمعات اللاجئين في بيشاور وكويتا.
الاحتقان الداخلي وبداية الصدام مع السادات
حين بدأ السادات مشروعه للصلح شعرنا بالتغير نحو الأسوأ في طريقة معاملته مع الحركة الإسلامية، وبعد زيارة القدس اتضحت الأمور أكثر، وكان أول ما لاحظناه هو تغير أسلوب تعامل إدارة الجامعة معنا، كان الدكتور صوفي أبو طالب نائب رئيس الجامعة حتى تخرجي سنة 1977، وكان لا يرد لي طلبًا بصفتي رئيس اتحاد الطلاب، ولكن سياسته معنا أخذت تتغير فيما بعد، فبدأ يعيق تحركاتنا ويعرقل عملنا في الجامعة.
وبعد توقيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني سنة 1979 وبدء حملة قوية من الحركة الإسلامية ضدها بدأ الصدام يحتدم، وبدأت تسفر سياسة التضييق الأمني عن نفسها، فكان هذا دليلا على تغير الأجواء بين السادات وبين الحركة الإسلامية.
لقد بدأت في هذه الفترة سياسة التضييق على معسكرات الجماعة الإسلامية، وهذه السياسة وإن كنا رأيناها بعد اغتيال جماعة شكري مصطفى (أطلق عليها الإعلام: التكفير والهجرة) للشيخ الذهبي رحمه الله، إلا أنها اشتدت تدريجيا بعد مشروع السادات للصلح مع إسرائيل وما تولد عنه من رفض إسلامي واسع للسادات وسياساته.
بدأنا نواجه بعراقيل إدارية تضعها إدارة رعاية الشباب وتضييق من مشرفي المدن الجامعية تتمثل في التشديد المبالغ فيه في الإجراءات ووقف كل التيسيرات التي كانت تمنح لنا في السابق... وكذلك تقليص الوجبات التي تقدم لطلاب المعسكرات وضعف الخدمات عموما... كما بدأت تثار الشائعات كل سنة حول النية في إلغاء المعسكرات أو ضربها واعتقال السلطات لمن فيها!
وكان عام 1978 أول عام تواجه فيه الجماعة الإسلامية تضييقا شديدا في ترشيح أعضائها للانتخابات الطلابية واستبعادهم من قوائم الانتخابات. ثم حرمان الاتحادات التي يفوزون فيها من الدعم وكانت جامعة عين شمس من أولى الجامعات التي استبعد فيها طلاب الجماعة الإسلامية من الانتخابات الطلابية.
وفي عام 1979 أصبحت المواجهة سافرة وبدأ الصدام باعتقال عشرة طلاب من الجماعة الإسلامية في اتحاد طلاب جامعة المنيا، منهم الإخوان محي الدين عيسى وأبو العلا ماضي وكان رئيسا لاتحاد طلاب الجامعة ونائبا لرئيس اتحاد طلاب الجمهورية. وصدرت ضد هؤلاء العشرة قرارات بالفصل والحرمان من الدراسة... وكانت هذه أول مواجهة مباشرة من النظام للجماعة الإسلامية في الجامعة.
وتصاعدت المواجهة في عدد من الجامعات الأخرى بغرض ضرب النشاط الإسلامي حتى وصلت إلى الضربة الكبرى التي تمثلت في إصدار الدولة للائحة طلابية جديدة للقضاء على الحركة الطلابية ومحاصرتها... فصدر القرار الجمهوري رقم 265 لسنة 1979 الذي يلغي القرار الجمهوري رقم 235 لسنة 1976... وقد جمدت اللائحة الجديدة الاتحادات الطلابية المنتخبة وجمدت أموالها وأغلقت مقارها وحظرت اجتماعاتها.
وتصاعدت الضربات تدريجيا فكان عام 1980 آخر الأعوام التي استطعنا فيها إقامة المعسكرات الإسلامية حيث أقمنا معسكرا منتصف العام – في فصل الشتاء- في قرية درنكة بمحافظة أسيوط وكنا قد اعتدنا على التخييم فيها لقربها من الجبل واتساع الأرض والفضاء بها، كما أقمنا معسكرا في إجازة الصيف في شاطىء أبو يوسف بالإسكندرية على أرض تابعة لرجل الأعمال الشهير المهندس طلعت مصطفى كانت قريبة من الشاطىء.
في عام 1981 ألغيت كل المعسكرات الطلابية بعد أن بدأ السادات يصعد من مواجهته ليس معنا وحدنا فحسب بل ومع كل القوى السياسية.
ربما كانت واقعة الصدام الشهيرة بين السادات وبين الأستاذ عمر التلمساني أهم المؤشرات على أن العلاقة بين السادات والحركة الإسلامية سارت في طريق مسدود، وأن الصدام قادم ولا يبقى عليه إلا القليل، فقد تعمد السادات في لقائه الشهير الحديث إلى الأستاذ عمر بأسلوب مهين على غير عادته، وزاد من الإهانة أن اللقاء كان يبثه التلفزيون كعادته في نقل اللقاءات الفكرية التي كان ينظمها السادات.
يروي الأستاذ عمر التلمساني، الواقعة في كتابه "أيام مع السادات" فيقول: "قمت بزيارة إلى وزير الثقافة والإعلام منصور حسن في مقر عمله بناء على طلب الوزير… وحاول أن يقنعني بحضور اللقاء الفكري للرئيس السادات بالإسماعيلية يوم 28 رمضان عام 1979 وفي النهاية ومع إلحاح الوزير وافقت على الحضور.
وعندما وصلت إلى مكان الاجتماع جلست في آخر الصفوف، وبعد دقائق جاءني المشرف على تنظيم الحفل، وألح وأصر على أن أجلس في الصف الأول، وقلت إن ذلك تكريماً منهم لي فتفاءلت خيراً، ولعل هناك بدءاً لتفاهم جديد، ولكن هذه الجلسة كانت لغرض كشفت عنه أحداث الحفل، فقد أجلسني منظم الحفل في الصف الأول على كرسي، لو مددت منه خطاً مستقيماً لوجدته ينتهي عند الكرسي الذي يجلس عليه السادات في المنصة، وكأنهم أرادوا بذلك أن أكون أقرب ما أكون من السادات عندما بدأ سيل اتهاماته المنهمر، يترامى من حولي شمالاً وجنوباً ويساراً ويميناً، رجاء أن يصيب مني مقتلا.ً تهم لي وللإخوان لا حصر لها بتخريب وعمالة وإثارة للطلبة، والعمالة والفتنة الطائفية، وكل ما في أجواء الخيال والانسجام مع الجو الشاعري الذي كنا نجلس فيه، بين أحضان حدائق الإسماعيلية الندية الوارفة الظلال، تهم من النوع الذي اعتاد السادات أن يلقيها على كل ما لا يرى فيه نابغة الزمان، وباتعة العصر والأوان.
وطال السباب وضاق الصدر، ونفد الصبر، واستثارتني عاطفة الحب للإخوان، فقاطعته قائلاً "إن هذا كلام يحتاج إلى ردود" فأجابني: "لما أخلص كلامي رد كما تشاء"، وظل سادراً في غلوائه، وغاب الحاضرون في أنفسهم، والذين سمعوه على أجنحة الأثير، أنه كان في نهاية كل مقطع من كلامه يقول:"مش كده يا عمر؟!"، استنكر الشعب كله، حتى بعض من كان معه، أن يخاطبني باسمي مجرداً، غير مراع في ذلك حرمة السن، ولا طهارة شهر الله، ولا الصفة التي منحتني إياها الجامعة عندما أعطتني ليسانس الحقوق، ولا حرمة المنصب الذي يشغله، والذي يجب أن يزدان بكل لياقة وتهذيب، ولكن العيار انفلت، "والبيبة صهللت"، والخيال انفتح ولم يكن في كل عيب من العيب الذي يحلو له دائماً أن يردده، وإني لأحمد الله على أن أسلوبه لم يسؤني كما أساءه، ولم ينل مني كما نال منه، أليس البغي مرتعه وخيم؟!
وكان طوال مدة حديثي يشد الأنفاس الملهلبة، من بيبته الأنيقة، حتي ظننت أنها تدانيه بكل ما أراد، وتوحي إليه بما شاء من نسج الخيال، كان الله في عوني وعونه... عوني على الصبر، وعونه على الابتداع، وما إن انتهى من حديثه، حتى وقفت أمام الكرسي الذي كنت أجلس عليه، ولم يكن أمامي مذياع ولا مكبر للصوت، ولم يكن في ذهني رد معد، ولكن الله ألهم منظمي الحفل أن يأتوني بمكبر للصوت، أتحدث من خلاله، ولعلهم حرصوا من وراء ذلك أن يسمعوا العالم اعتذاراتي وأسفي وحسرتي على ما بدر مني، فيبعث ذلك الراحة إلى صدره المثقل بعدوانه للإخوان المسلمين، ولكن أراد عمراً وأراد الله خارجة، فكان في تصرفهم ما أوضح للناس جميعاً أن من بين من في مصر، من يقول للظالم لقد جُرت وتعديت.
فندت كل التهم التي وجهها إلي وإلى الإخوان واحدة واحدة، بالدليل والبرهان وختمت ردي بالعبارات الآتية:"لو أن غيرك وجه إلي مثل هذه التهم لشكوته إليك، أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها، فإني أشكوك إلى أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، لقد آذيتني يا رجل وقد أُلزَم الفراش أسابيع من وقع ما سمعت منك"، وأشهد صادقاً أن البيبة ارتعشت بين شفتيه، وقال: "إنني لم أقصد الإساءة إلى الأستاذ عمر ولا إلى الإخوان المسلمين... اسحب شكواك بقى"، فأجبته بأنها رفعت إلى من لا أستطيع استرداد ما وضعته بين يديه... كانت أول مرة يخاطبني فيها بكلمة أستاذ، طوال خطابه الممل الطويل!! وانتهى الاجتماع وأرسل لي في أعقابه فوراً وزير الأوقاف ومنصور حسن وزير الثقافة والإعلام، يبلغاني أمام من كان موجوداً، أن سيادة الرئيس لم يقصد الإساءة إلي، وأنه سيحدد موعداً لمقابلتي."
ويبدو أن تسارع الأحداث وقسوة تيارات المعارضة في نقدها للسادات ومشروعه للصلح مع إسرائيل - على غير ما كان يتوقع- جعله يصبح حادا عصبي المزاج، مما أدخله في صدام مع كل القوى السياسية لم يبق له بسببه صديق.
في هذه الفترة وقعت أحداث الفتنة الطائفية بمنطقة الزاوية الحمراء في القاهرة سنة 1981، ورغم أجواء الاحتقان والتوتر تفاعل الإخوان المسلمون إيجابيا وكونوا سريعا فريقا للمصالحة بين المسلمين والأقباط ضم الأساتذة: عمر التلمساني ومصطفى مشهور وحافظ سلامة وأحمد المحلاوي وكنت عضوا بهذا الفريق معهم ... ونجحت المصالحة في وأد الفتنة التي لم يكن لها أسباب حقيقية وإن تفاعلت بصورة غريبة.
فقد بدأت الأحداث بسيطة بـ"خناقة" بين مسلم ومسيحي، فتم الاعتداء على مسجد بالزاوية الحمراء وكان الرد بالاعتداء على المسيحيين في المنطقة مما أدى إلى سقوط قتلى من الطرفين، وبدت الفتنة مرشحة للتفاقم أكثر من ذلك بعدما امتد التوتر والصدام إلى صعيد مصر حيث قام شباب الجماعة الإسلامية بمدينة المنيا بجمع الطلاب الأقباط في المدينة الجامعية واحتجزوهم في غرفهم، ووقتها اتصل وزير الداخلية بالأخ حلمي الجزار باعتباره أمير أمراء الجماعة الإسلامية، ورجاه التوجه إلى المنيا وحل المشكلة، فتجاوب الأخ حلمي معه ونجح في إنهاء الأزمة والإفراج عن الطلاب الأقباط .
والحقيقة أنني أحسست وقتها أن هناك أسبابا غير طبيعية للفتنة، وكنت أشعر مما يحدث- مثلا- في الصعيد بين شباب الجماعة والأقباط أن هناك جهة ما داخل النظام تريد أن تشعل الدنيا ولا تنطفئ النار... مثلا كان يصلنا أن بعض الشباب كانوا يهاجمون من يرونه يسير صحبة فتاة في الشارع، فكنا ننصحه بالتصرف القانوني وتحرير محضر في قسم الشرطة، ثم نسمع بأن هذه المحاضر تحفظ ولا تتصرف فيها الشرطة ولا تأخذها على محمل الجد رغم خطورة الموضوع، وهو ما كان يعطي الفرصة لزيادة تطرف الشباب واتجاههم أكثر إلى العنف، خاصة أن الشرطة لم تكن- وقتها- تتحرك إذا ما جاءها شاب قبطي يريد الإبلاغ عن واقعة اعتداء ضده ولا تقوم معه باللازم ضد من قام بالاعتداء.
وأتصور أن هذه الجهات داخل النظام كانت تتعمد ترك الشباب القبطي يضرب ويُعتدى عليه دون أن تتحرك رغبة منها في جره إلى الرد بالمثل ومن ثم دخول البلد في دوامة عنف… لقد بقيت أجهزة الدولة أمام أحداث الزاوية الحمراء، وكان الشباب المسلم يأتي إلينا- في بعض الأحيان- مستغيثا من أن بعض الشباب الأقباط يحملون السلاح دون أن تتحرك الدولة لمنعهم، وكانوا يطلبون منا السماح لهم بحمل السلاح لمواجهة الأقباط المتطرفين!
لقد ظلت الفتنة مشتعلة ثلاثة أيام كاملة في الزاوية الحمراء دون تحرك جاد لاحتوائها وكأنما كان هناك – داخل السلطة- من لا يريد وأدها أو التحرك لنزع فتيلها.
والآن أتساءل : هل كان هناك – داخل النظام- من يسعى لاستدراج الحركة الإسلامية للعنف والطائفية لضربها بين يدي اتفاقية كامب ديفيد وبيع فلسطين؟ أتصور أن هذا التفسير يبدو الأكثر قبولا عندي... وأتصور أيضا أنه كان حاضرا في ذهن الأستاذ عمر التلمساني الذي قاد مبادرة المصالحة لدرء هذه الفتنة لتفويت الفرصة على النظام.
ورغم ذلك يمكن القول أن السادات استغل- فعلا- حالة التوتر والاحتقان التي أدخل فيها البلاد لضرب الحركة الإسلامية وهو ما كانت إشارته قراره بإغلاق مجلة الدعوة لسان حال الإخوان عام 1980 مرة أخرى دون رجعة، وقد خطب- وقتها - خطبة هاجم فيها الحركة وأشاع فيها مناخا من التوتر، وأظن أن السبب الحقيقي لغضبه كان معارضة الإخوان لاتفاقية كامب ديفيد، وهو الموقف الذي أراد أن يستغله السادات لتحجيم التيار الإسلامي الآخذ في النمو والتضخم والتحول إلى تيار جارف.
ورغم أن مبادرة السلام كانت خطأ بل وسقطة كبرى للسادات في رأي الإخوان أو غيرهم من الاتجاهات السياسية الأخرى؛ إلا أن الموقف الذي واجهته به المعارضة كان بالغ القسوة والعنف وكان مسؤولا إلى حد كبير عن خروجه عن وعيه وفقدانه السيطرة على أعصابه… فعلى صفحات مجلة الدعوة وفي المؤتمرات وداخل الجامعة جرى الهجوم على السادات واتهامه بالعمالة والخيانة بعدما قال إن 99 % من أوراق اللعبة في يد أمريكا.
وبلغ عنف الهجوم على السادات أقصاه من الشيخ أحمد المحلاوي في الإسكندرية الذي انتقل إلى الهجوم على زوجته السيدة جيهان واتهامها باتهامات قاسية!.
كان صعبا علينا ألا نهاجم السادات أو نتهمه بالخيانة والعمالة؛ لكن الإخوان الكبار كانوا أعقل منا، فلم يتعرض أحد منهم لشخص السادات أو زوجته، بعكس الإسلاميين المستقلين الذين كان هجومهم عليه عنيفا وشخصيا كما فعل الشيخ حافظ سلامة أو الشيخ محمود عيد والشيخ أحمد المحلاوي في الإسكندرية.
ورغم رفضي لمبادرة السادات جملة وتفصيلا إلا أنني أذهب إلى أن هذا الإقدام على الصلح مع اليهود والصداقة معهم بعد هذه العداوة والحرب الكبيرة بيننا وبينهم لم يكن من صنع السادات فقط بل وبضغوط خارجية شديدة عليه.
الحلقة الثامنة
أحداث سبتمبر واحتدام الصدام
تسارعت الأحداث في مصر، وبدا أن التوتر سيمتد وأن الصدام بين السادات والمعارضة خاصة الإسلامية سيمضي إلى القطيعة... وفي أوائل سبتمبر كنت أزور معسكرا طلابيا إسلاميا في العاصمة الإيطالية روما، وفي يوم الثلاثاء الموافق 3 سبتمبر 1981 كنت بالمعسكر، وذكر لي أحد الأشخاص أن هناك حديثا في دوائر سياسية وأمنية عن أن السادات أعد قائمة اعتقالات سيقوم بها قريبا، وأكد لي أنه من المرجح وجود اسمي بها، وأنه من المرجح أيضا أن السادات سوف يعلن عنها مع الخطاب الذي سيلقيه يوم السبت 7 سبتمبر.
وقد طلب مني بعض الإخوة عدم العودة إلى مصر، ولكنني رفضت وقلت لهم: إن (سجن) أبو زعبل أفضل من البقاء خارج مصر!.
وأتصور أنه كانت هناك اختراقات أمنية في النظام الحاكم تسببت في معرفة أمر هذه القوائم، حتى إن الإخوان في مصر كانوا يعلمون بها، وهو ما سمح بأن يسافر الأستاذ مصطفي مشهور قبل اعتقاله بأيام، وقد قابلته في هذا المخيم- في روما- وكان هو في طريقه إلى فرنسا لإلقاء محاضرة، وقد أخبرني أنه لن يعود إلى مصر في الوقت الراهن استجابة لنصيحة الأستاذ عمر التلمساني نظرًا لتوتر الأوضاع، وأنه سيبقي في فرنسا حيث تقيم ابنته مع زوجها الأخ أحمد نشأت - وكان معيدا وقتها بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية الذي يقضي منحة الدكتوراه هناك.
وحين زرت الأستاذ عمر أكد لي علمه بأن هناك اعتقالات في الأيام المقبلة، وفي ليل يوم الأربعاء 11 سبتمبر كانت قوات من أجهزة الأمن تلقي القبض عليّ من منزلي ضمن نحو 1500 آخرين كانوا ضمن قائمة التحفظ الشهيرة تم اعتقالهم آنذاك.
نقلوني إلى سجن استقبال طرة وهو سجن كبير جدا مكون من مبنيين كل منهما مكون من أربعة أدوار وكل دور به 20 زنزانة سعتها 10 أفراد... وكان سجنا فسيحا ونظيفا بناه السادات في نفس التوقيت الذي تم تصويره وهو يهدم المعتقلات والسجون... وكانت هذه أول اعتقالات يشهدها السجن... وكنّا أول من افتتح هذا السجن.
في البداية لم أكن أعلم بأن هناك معتقلين غيري في المكان نفسه حتى فوجئت بأن هناك العشرات بل والمئات معي من جميع التيارات والرموز السياسية والفكرية في مصر، فرأيت حافظ سلامة وأحمد المحلاوي ومحمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين والأستاذ عمر التلمساني والدكتور عصام العريان،... ورموز السياسة والدين في مصر.
في اليوم التالي لاعتقالنا فتحت الزنازين وكانت المعاملة حسنة، وكان معي في نفس الزنزانة الدكتور محمد حلمي مراد وزير التعليم السابق والأستاذ الشاعر جمال فوزي - رحمه الله - والشيخ حافظ سلامة والأستاذ لاشين أبو شنب والدكتور محمد السيد إسماعيل أستاذ الجراحة بطب عين شمس.
كان الدكتور محمد حلمي مراد رجل قانون بارز فأراد أن يعرف سبب الاعتقال، وكان في حيرة من أمره لأسباب الاعتقال ومبرراته القانونية، فلم تكن مصر قد دخلت وقتها نفق الطوارئ البغيض الذي عاشته طوال عصر مبارك، وكان الدكتور مراد يحاول تفسير الأمر قانونيا خاصة أنه لم يكن هناك قرار من النيابة، وهداه فكره إلى أن استنتج أنه من الممكن أن تقبض الشرطة على أي شخص لمدة أربع وعشرين ساعة، ومن ثم توقع أنه طالما أن اليوم التالي هو الجمعة (أجازة) وأن الرئيس السادات سيخطب يوم السبت، فإنهم سيفرجون عنّا بعد الخطاب مباشرة وسنرجع إلى بيوتنا عصر السبت بعد الخطاب مباشرة خاصة أنه لم يكن هناك إعلان حالة طوارئ حيث كان السادات قد أوقفه قبل ستة أشهر.
كان الدكتور حلمي مراد يتعامل مع الأمر بعقلية قانونية... وكان معنا الأستاذ جمال فوزي الذي قضي سنوات عمره مع الإخوان في السجون فكان يداعبه قائلا: يا دكتور خلي بالك إذا كنت هنا معنا فلا تفكر في الخروج إلا بعد 20 سنة!
النجدة، وكان رجلا مهذبًا يمرّ بنفسه على المعتقلين يتفقدهم ويسلم عليهم فردا فردا، وقد سأله الدكتور حلمي مراد – آنذاك - بأي تهمة تم اعتقالنا؟. فرد عليه بطيبة: والله يا دكتور حلمي أنا عامل زي أمين المخزن يأتون لي بأشياء ويطلبون مني أن أحفظها فيه!... فقد جاؤوا بكم وأنتم أمانة عندي حتى يأتي جديد، ولكني لا أدري لماذا جئتم هنا.
ألقى الرئيس السادات خطابه يوم السبت ولم نسمعه بالطبع بسبب كوننا معزولين تماما عن العالم، وانتظر الدكتور حلمي مراد الخروج الذي لم يحدث. لم نكن نعرف سبب اعتقالنا حتى أخذونا إلى المدعي الاشتراكي، وهناك علمنا أنه قد قبض علينا بموجب قانون المدعي الاشتراكي، وهو قانون حماية القيم من العيب، وعلمنا أننا متحفظ علينا. وبعد حوالي أسبوعين نودي على بعض السياسيين مثل هيكل وفؤاد سراج الدين وحلمي مراد وتم نقلهم إلى ملحق طرة، ونقل الأستاذ عمر التلمساني إلى مستشفي ليمان طره، وكان الغرض تقريبا عزلهم عنا، وظل بقية المعتقلين، وظللنا على تلك الحال حتى يوم السادس من أكتوبر 1981.
اغتيال السادات
استقبل اغتيال السادات استقبالا حافلا وخر الشيخ حافظ سلامة ساجدا فور سماع النبإ، وحدثت حالة هرج ومرج في السجن فحاول بعض المتحفظ عليهم كسر باب السجن والخروج، وكان مأمور السجن يناشدهم الهدوء، فتدخل بعض كبار الإخوان مثل الحاج أحمد حسنين والأستاذ كمال السنانيري لتهدئة الوضع فاستقرت الأمور بعدها.
وبعد حادث الاغتيال بدأت موجة اعتقالات جديدة وبدأت أفواج جديدة تأتي علينا وعلمنا منهم كيف تم الاغتيال، وكان من المعتقلين صاحب مقهى قبض عليه لأنه حين علم بنبإ الاغتيال أخذ يوزع مشروبا على الناس مما عكس فرحة الناس بذهاب السادات...
وكان مما أثار الناس وجعلهم يفرحون باغتياله أن في خطابه سب حلمي الجزار أمير الجماعة الإسلامية وسب الشيخ أحمد المحلاوي الذي قال عنه: هو دلوقتي مرمي (ملقى) في السجن زي الكلب!!. كما قام باعتقال رموز الدعوة الإسلامية المحبوبين بين الناس.
وأعتقد أن مقتل السادات لم يكن عن طريق تنظيم محكم كما قيل، وإنما هو غضب بعض الضباط في الجيش الذين لم يعجبهم صلح السادات مع الصهاينة، فلم يكن تنظيما بمعنى كلمة تنظيم ولكن هم مجموعة متدينة غاضبة، كانت لهم علاقة ارتباط فكري بمحمد عبد السلام فرج صاحب كتاب الفريضة الغائبة الذي يدعو للتغيير بالقوة وكان يؤمن بالعنف، والدليل على أنه لم يكن تنظيما أن بعض الشباب كان يعلم أن السادات سوف يقتل في ذلك اليوم.
مع الظواهري في سجن القلعة
عقب اغتيال السادات تم نقلنا إلى سجن أبو زعبل في الثامن من نوفمبر، وحتى هذا التاريخ لم يكن يسمح لنا بزيارة الأهل أو الاتصال بهم ولا حتى بدخول الملابس أو الأطعمة من خارج السجن ولم يكن يسمح لنا حتى براديو نتابع منه العالم خارج السجن.
وحتى يتم النقل بهدوء أوهمنا المسؤولون في الداخلية أننا سوف نخرج، ولم يخبرونا أننا سننتقل إلى سجن آخر، وكان أبو زعبل ممتلئا بالمعتقلين إثر حادث الاغتيال، وهناك تغيرت المعاملة تماما إلي النقيض فأصبحت بالغة السوء، وكان أول ما صادفنا عند دخولنا أننا وجدنا عمليات تعذيب بشعة للمعتقلين!. ثم عزلنا في زنازين خاصة بنا بعيدا عن معتقلي واقعة الاغتيال.
وبعد فترة قصيرة نقلت من السجن ومعي الأخ عصام العريان، أنا لسجن القلعة وهو إلى سجن استقبال طرة، وظللت شهرًا في القلعة في تعذيب وتحقيقات، وكان سجن القلعة خاصًا بأمن الدولة يتم فيه الاستجواب والتحقيق، ولما لم يتحمل الأعداد الكبيرة، تم إعداد سجن استقبال طرة ليكون هو السجن الخاص بأمن الدولة.
وفوجئت أن الزنزانة المجاورة لي بالقلعة كان بها الدكتور أيمن الظواهري، وكان معنا بالكلية، ولم يكن له أي نشاط ظاهر، كما لم يكن أيضا من الطلاب النشطين أو المشاكسين... كان متدينا هادئا ولم يكن يشارك حتى في المظاهرات التي كانت تعج بها الجامعة وقتها.
كان الحديث محظورًا بين المعتقلين، وكان من يضبطون في حديث يتعرضون لعقاب شديد، فكنا نتحايل على ذلك بأن نحدث بعضنا بعضا بما يشبه تلاوة القرآن، حتى نُعمّي على الشاويشية والسجّانين فيظنون أننا نقرأ القرآن، فمثلا كنت أقول: يا أيها الأخ فلان، ماذا فعلت اليوم في النيابة رضي الله عنك؟! فيجيبني كما لو كان يقرأ القرآن: سألوني عن كذا وكذا والحمد لله رب العالمين...! وهكذا...
وفيما كنت أتحدث مع أيمن الظواهري عن سبب القبض عليه، إذا به يخبرني أنه قبض عليه بسبب كمية كبيرة من السلاح كان يخبئها في منزله بالمعادي!! فكانت تلك مفاجأة كبيرة بالنسبة لي من هذا الرجل هادئ الطباع الذي لا يبدو عليه أي ميل للعنف... وكانت مفارقة أخرى أن الظواهري أنكر في التحقيقات أي علاقة له بالإخوان باعتبار أنهم جماعة مهادنة للسلطة!.
تم التحقيق معنا ضمن آلاف المعتقلين، وفي جلسات التحقيقات الطويلة ظهر أن رجال التحقيق كانوا يحاولون أن يتعرفوا منّا على أمثال أيمن الظواهري هؤلاء المجهولين الذين فجرّوا الأحداث وظهروا فجأة في صدارة المشهد..وكان أيمن الظواهري يرفض هو وزملاؤه في التنظيم أن يتحدثوا مع أحد يعلمون أو حتى يظنون أنه من الإخوان المسلمين.
استمرت التحقيقات معنا وكانت تدور كلها حول أنشطتنا وعلاقاتنا حتى نقلت إلى سجن استقبال طرة في مايو 1982، وفتح باب الزيارة، وكانت فترة تحقيقات واستجوابات قاسية حيث كان السجن يخضع لسيطرة جهاز أمن الدولة، وكانوا يرسلون للنيابة كل من يرون أنه عضو في تنظيم مسلح أو مرتبط به.
استشهاد الأستاذ السنانيري
في سجن استقبال طرة تعرضنا للتعذيب والإساءة كثيرا لكن أكثر ما أصابنا هو قتل الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله، كان رحمه الله من أكبر الإخوان سنًا حين تم القبض علينا في سبتمبر 1981.
وبعد مقتل السادات وزيادة جرعة التعذيب كان الشهيد السنانيري من أكثر من طالهم التعذيب، وكنت أسمعه يصرخ مستجيرا بالله من شدة التعذيب وبشاعته، فقد كانوا يصبون عليه العذاب للضغط عليه ظنًا منهم أنه هو المسؤول عن سفر الشباب المسلم إلى أفغانستان، وقد كان رحمه الله مسؤولا عن ملف القضية الأفغانية.
وفي أحد الأيام – ربما يوم 4/11/1981 - كان الوضع غريبا داخل السجن بما يوحي بحدوث شيء غير عادي، ولم يلبث أن جاءني الشاويش وقال لي: إن الرجل العجوز الذي في الزنزانة المجاورة لك قد مات!. وكان قائد السجن في هذا الوقت فؤاد علام ضابط مباحث أمن الدولة المعروف ورئيس ما كان يعرف بقسم مكافحة النشاط الديني!... ولم يمض إلا وقت قليل حتى أعلنت نتائج تحقيق "وهمي" قال فيها أن السنانيري انتحر!، وفؤاد علام دائما وحتى هذه اللحظة يعلن براءته من قتل السنانيري ويصر على أنه انتحر!... لكنني لا أصدقه ولا يمكن أن أصدقه، فقد كنت في نفس السجن وفي الزنزانة المجاورة له. وقد رأيته بنفسي ورأيت توقيعاته، وحين ذهبت إلى مستشفى السجن في هذا الوقت قابلت قائد المستشفى وهو ضابط، وعلمت منه أنه رأى توقيعات فؤاد علام بخط يده على كل ما كان يحدث في السجن من انتهاكات لحقوق البشر ومن تعذيب وإيذاء نفسي وبدني حقير.
وما قاله فؤاد علام في واقعة استشهاد السنانيري متناقض ويؤكد كذب القول بانتحاره... فهو يقول أحيانا أن السنانيري شنق نفسه بحزام قماش كان يربط به بنطلونه في كوع حوض الماء يغسل فيه يده داخل زنزانته! وهذا كلام لا يقبله عقل فلا يمكن أن ينتحر إنسان بحزام قماش مهترئ وفي حوض ماء ارتفاعه لا يزيد عن متر واحد!... وحين شعر بتهافت روايته قال أنه ربط رقبته بملاءة سرير وعلقها بسيفون كان في أعلى الحوض ووقف على كرسي ثم أزاحه فشنق نفسه ومات! وهذا كلام تافه وساقط أيضاً إذ لم يكن في الزنازين أي سيفون كما يصعب تخيل وجود كراسي داخلها.
ومهما قال فؤاد علام وزبانية التعذيب فلن أصدق أن رجلا مؤمنا زاهدا قوي الإيمان والصبر مثل الأستاذ كمال السنانيري يمكن أن ينتحر فيكفر بالله !... لقد صبر الرجل عشرين عاما في سجون عبد الناصر ولم تفتر له همة ولم تلن له قناة ولم يخضع للطغاة... وأوذي بأشد وأعنت مما لاقاه من تعذيب في السجن الذي مات فيه ولم نسمع أنه اشتكى أو فقد صبره... لقد كان رحمه الله مثالا في الثبات والصبر لإخوانه ولا أتصور مطلقا أن يفقد يقينه بالله وهو الذي قضى عمره كله مجاهدا أسيرا صابرا محتسبا... ما أثق فيه أن الرجل وقع عليه من العذاب الكثير خاصة وأنه كان مسؤولا عن ملف القضية الأفغانية الذي أثار خوف الأجهزة الأمنية، وأنهم لما يئسوا منه قتلوه تحت التعذيب ثم اختلقوا قصة انتحاره. رحمه الله.
حوارات في السجون مع دعاة العنف
كان أول المفرج عنهم من الإخوان المتحفظ عليهم الأستاذ عمر التلمساني والأخ جابر رزق في يناير 1982 في حين بقينا نحن إلى نهاية العام تقريبا، وكان الرئيس مبارك قد تولى الحكم وقام باستقبال كل القوى السياسية في البلاد ولكنه رفض أن يدعو الأستاذ عمر التلمساني لهذا اللقاء... وكان ذلك مؤشرا سلبيًا أكّد لنا أن الدولة لن تتعامل معنا مستقبلا بطريقة جيدة.
وأثناء الاعتقال بدأت الدولة فكرة الحوار مع الشباب الإسلامي المؤمن بالعنف، فكانت تستدعي عددا من العلماء ورجال الأزهر للحوار مع الشباب المعتقلين المتهمين بالانتماء لتنظيمات مسلحة، وأعدت الحكومة جدول محاضرات لهذه الحوارات، لكن معظم هؤلاء العلماء كانوا يسيئون كثيرًا في حديثهم وكانوا رسميين يمثلون وجهة نظر السلطة، ولم يكن له أدنى قبول عند الشباب المعتقل بل كانوا منفرين لهم!.
ومع ظهور سلبية هذه الحوارات ونتائجها العكسية اتصل وزير الداخلية بالأستاذ عمر التلمساني معاتبا بأنه ليس له دور في إصلاح عقول هؤلاء الشباب، فرد عليه الأستاذ عمر مؤكدا أنه على استعداد أن يذهب لهؤلاء الشباب في المعتقل ويتحدث معهم ويحاورهم في قضية العنف... وبالفعل جاء الأستاذ عمر إلى ليمان طرة محاضرًا، والتقى بالشباب من الاتجاهات الإسلامية المختلفة، وكان له أثر كبير فيهم حيث لم يكونوا ينظرون إليه كعالم سلطة أو من المحسوبين عليها خاصة أنه قد سبقهم إلى الاعتقال!.
ورغم تأثيره الكبير في الشباب وربما بسببه أوقفت السلطة زيارة الأستاذ عمر ولقاءاته، ربما خشية أن ينضم هؤلاء الشباب إلى الإخوان، وكانت هذا آخر مرة يلتقي فيها الأستاذ عمر بالمعتقلين من الشباب.
في عنبر واحد مع قتلة السادات!
بعد ذلك نقلت إلى ليمان طرة الذي وصلته ليلا، وكان قائد السجن المقدم محمد مرسي وقد أراد أن يدخلني عنبر "التجربة" وهو عنبر كان محجوزا فيه قتلة السادات. وحين أخبرته أنني من المتحفظ عليهم في قرار التحفظ الشهير وأنني لست محبوسا على ذمة قضية وليس محكوما علي، أصر على إدخالي هذا العنبر، وعاملني بعنف، وقال لي إن الأوامر عنده بذلك، وكنت قد ظننت أنني إذا وضعت معهم في نفس الزنزانة فسوف يفتح التحقيق مرة أخرى في قضية السادات وتتم محاكمتي معهم.
أدخلت عنبر "التجربة" وكان معي في الزنزانة من نزلائه الشيخ عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية، وناجح إبراهيم وكرم زهدي وعبود الزمر وحين علموا بشخصي رحبوا بي ترحيبًا شديدًا.
وظللت معهم في العنبر نحو 20 يومًا، وكان مسؤول هذا العنبر الضابط محمد عوض وقد علمت منهم أنهم ينوون ضربه لأنه كان ممن يعذبونهم أثناء التحقيقات، فحاولت إثناءهم عن هذا العزم الذي سيزيد الأمور سوءا في السجن، ويبدو أن الشيخ عمر عبد الرحمن لم يكن موافقًا على هذا الإجراء العنيف، ولكنهم لم يأخذوا برأيه، ويبدو أيضًا أن المتحمس بينهم كان هو الذي يقود الآخرين إلى أي رأي يتخذونه، فيما يعد من يعارض مثل هذه القرارات متخاذلا، وكانت كل أمورهم تؤخذ بهذا الشكل.
وبالفعل نفذوا ما عزموا عليه، فحين أتى الضابط محمد عوض مساء إلى الزنزانة لأخذ التمام أمسكوا به وأخذوا يضربونه ضربًا عنيفًا، وهو يستغيث حتى جاءته النجدة من مسؤولي السجن والحراس الذين خلصوه من بين أيديهم… وبعد هذه الواقعة تحول العنبر إلى نار الله الموقدة!.
كنا نخرج صباحًا في طابورين ومعنا دلو للبول ودلو آخر للماء النظيف، وكان يفرض علينا أن نذهب إلى دورة المياه ونعود في دقيقتين فقط! وأثناء تلكم الدقيقتين نأخذ وجبة ساخنة من الضرب ذهابًا وإيابًا، وكنت- على الرغم من أنني لم أشاركهم الفعل- لا أستثنى من هذا الضرب إلا عندما يكون الضابط محمد عوض موجودًا، حيث كان يمنع العساكر من ضربي وإهانتي لأنني لم أكن ممن اشترك في موقعة الاعتداء عليه... وظللت على تلك الحال أسبوعًا كاملا حتى انتقلت إلى عنبر المعتقلين الآخرين.
وأثناء وجودي مع معتقلي عنبر (التجربة) حدثت مناقشات وحوارات حول قضية التغيير ومنهج العمل الإسلامي، وكان رأيهم أن العنف هو الطريق الوحيد للتغيير ولا طريق سواه، وأنه لن يمنعهم فشل التجربة من أن يكرروها مرة أخرى.
وأتصور أنه بسبب تلك النقاشات بدأ بعضهم يتراجع عن ذلك الفكر المتشدد، وأذكر منهم الدكتور محمد طارق طبيب الأسنان، وكان يحب الجلوس معي بمفرده كي يتحدث في جدوى ذلك الفكر المتطرف، وقد علمت- بعد ذلك- أنه انفصل عنهم وقضى بقية مدة عقوبته) عشرين عامًا) في سجن مزرعة طرة بعيدًا عنهم.
الحلقة التاسعة/الأخيرة
إعادة بناء تنظيم الإخوان بعد حادث المنصة
قضينا ــ معظم من اعتقلوا من الإخوان وخاصة أبناء جيلي- نحو عام في المعتقل، فلم نخرج إلا في سبتمبر من عام 1982، وكان أول ما شغلنا بعد الخروج من المعتقل هو البدء في إعادة تنظيم جماعة الإخوان من جديد والاهتمام بالبناء الداخلي، وهو ما شرعنا فيه فور الخروج مباشرة، خاصة وأن نظام الرئيس حسني مبارك لم يغلق الباب مباشرة في وجه الإخوان فقد استمر نشاطنا قويا إلى نهاية عقد الثمانينيات تقريبا، وإن كنّا على قناعة - وقت خروجنا - أن عصر السادات لن يعود بما كان فيه من انفتاح وحرية في العمل والتنظيم السياسي.
يمكن القول بأن الدكتور أحمد الملط هو أبرز من حملوا عبء هذه المرحلة وتولّوا عملية إعادة البناء، وكان أول ما فعله -رحمه الله - الاتصال بمجموعتنا التي كانت ناشطة في قيادة الجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية، وكان كلامه واضحا في أن الأولوية هي لإعادة البناء الداخلي وهو ما بدأ العمل فيه على قدم وساق تحت مسؤوليته مباشرة بعد أيام قليلة من خروجنا من المعتقلات، وقد كنت على رأس تلك المجموعة المسؤولة عن إعادة البناء وترتيب صفوف الجماعة التي اهتزت كثيرا بعد أحداث سبتمبر 1981.
وقد أطلق على مجموعتنا (مكتب مصر) تمييزا عن التنظيمات القطرية للإخوان خارج مصر، ووضعنا خطة لتقسيم القطر المصري إلى قطاعات، فكان الأخ ممدوح الدّيري هو مسؤول شرق الدلتا، والأخ إبراهيم الزعفراني مسؤول غرب الدلتا، والأخ أنور شحاتة مسؤول وسط الدلتا والأخ محمد حبيب مسؤول قطاع الصعيد، والأخ السيد عبد الستار المليجي مسؤول القاهرة... ولحق بنا في هذه المجموعة الأخوان جابر رزق وإبراهيم شرف رحمهما الله. ثم بدأنا في ترتيب المكاتب الإدارية للجماعة في كل محافظات مصر والتي تنقسم إلى مناطق وشُعب، مع التركيز على تعميق وتقوية التنظيم ووضع القواعد الإدارية التي تضمن فاعليته وكفاءته وانسجام تكويناته وتراتبيته، وهو عمل استغرق الجهد الأكبر من نشاط الجماعة ما يقرب من سنوات متواصلة، فلم يأت عام 1987 حتى تبلور التنظيم وظهر بشكله الضخم واستقر النظام الإداري للجماعة.
وفي هذه الأثناء كان هناك جهد موازٍ في ترتيب الجماعة على المستوى الخارجي، فبعد تولي مكتب مصر مسؤوليته عن القطر المصري تحت إشراف الدكتور أحمد الملط، تفرغ الأستاذ مصطفى مشهور ـ رحمه الله ـ للتنظيم خارج مصر فكان صاحب الجهد الأكبر في تأسيس التنظيم الدولي وهيكلته ووضع لائحته التي صدرت في مايو من عام 1982، وكان أبرز الإخوة الذين ساهموا في بناء التنظيم الدولي وتنشيط عمله الأستاذ مهدي عاكف المرشد الحالي والمهندس خيرت الشاطر والدكتور محمود عزت، وكانوا جميعا قد خرجوا من مصر قبيل اعتقالات سبتمبر 1981 وبعدها واستمروا في الخارج حتى عام 1986.
استقرار جماعة الإخوان المسلمين
أذهب إلى القول بأن جماعة الإخوان المسلمين لم تستقر فكرًا وتنظيمًا على الصورة التي نراها عليها الآن إلا عام 1989 على الأرجح وهو العام الذي أجريت فيه أول انتخابات لاختيار مسؤولي الجماعة بعدما كانوا يتولون مناصبهم ــ في كل القطاعات تقريبا - بالتعيين، وأن الحسم على المستوى الفكري والتنظيمي بما يرسم الصورة التي عليها الآن مر بعدة محطات وأحداث تاريخية مهمة.
فإذا تكلمنا عن الموقف من التكفير سنجد أنها حسمته مبكرا مع أول فتنة تكفير واجهتها بعد اعتقالات عام 1965، في هذه الفترة الحالكة من تاريخ الجماعة وقعت فتنة التكفير بعدما تعرض كثير من شبابها للظلم والتعذيب والقهر في سجون العهد الناصري، فتغذى بعض الشباب من كتابات الشهيد سيد قطب ثم أضافوا إليها رؤيتهم الخاصة فخرج ما عرف بالتيار القطبي ثم تيار التكفير والهجرة كما تجسدت في تنظيم جماعة المسلمين الذي أسسه الشاب شكري مصطفى الذي كان سجينا مع الإخوان. والحق أن التاريخ سيشهد بفضل الأستاذ المستشار حسن الهضيبي مرشد الجماعة وقتها والذي تعالى على جراح التعذيب والتنكيل وتصدى لفتنة التكفير التي بدأت في السجون، فأصدر كتابه المرجع "دعاة لا قضاة" التي استعاد بها منهج الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا رحمه الله، مؤكدا أن منهج الجماعة هو دعوة الناس وليس القضاء فيهم، وأنها لا تكفر مسلما مهما كان جرمه حتى ولو طالها أذاه مثلما حدث معها في السجون الناصرية، وقد حسم فيها حسن الهضيبي رحمه الله موقف الجماعة نهائيا وللأبد في قضية التكفير، وأحسب أنها كانت القاضية في هذه القضية فتطهر منها الصف الإخواني من دون رجعة.
كان موقف الجماعة من قضية التكفير حازما وحاسما وفوريا بعكس موقفها من قضية العنف والذي تأخر وتم بطريقة تدرجية وعملية وليس بمراجعة أو موقف واضح ونهائي كما في قضية التكفير، ويمكن القول بأن النقاشات التي دارت في بداية عام 1984 تمهيدا لحسم الموقف من المشاركة في الانتخابات البرلمانية كانت مهمة في نقل وجهة الحركة باتجاه التيار السلمي في التغيير الذي تزعمه أستاذنا عمر التلمساني على حساب بعض القادة الذين لم يكن لديهم رفض مبدئي لفكرة استخدام العنف على الرغم من عدم لجوئهم إليه فعليا. وأتصور أن نبذ فكرة استخدام العنف تم داخل الجماعة تدريجيا ومع دخولها في العمل العام حتى انحسرت تماما إلا ــ ربما - في قناعات مستترة لبعض الأفراد القليلين الذين لا يجدون سبيلا لنشرها داخل الجماعة فضلا عن الدعوة إليها علانية، وقد تم هذا الحسم بتدرج وهدوء ولم تضطر الجماعة فيه إلى تكرار ما فعله الأستاذ حسن الهضيبي مع فتنة التكفير في نهاية الستينيات.
أما القطع مع العمل السري وحسم قضية علنية الجماعة ورفضها للسرية فقد تم بشكل رسمي ومكتوب عام 1987، حيث اجتمعت كل قيادات الجماعة من مسؤولي المحافظات إلى أعضاء مكتب الإرشاد وتداولنا هذه القضية وظهر ما يشبه الإجماع على الإقرار بعلنية الجماعة ورفض العمل السري، وخرجنا وقتها بوثيقة رسمية مكتوبة عرفت باسم "جماعة الإخوان جماعة علنية"، أقر بها مكتب الإرشاد وأرسلت إلى كل أقسام الجماعة ومكاتبها الإدارية للالتزام بما جاء فيها.
لقد كان النصف الأول من عقد الثمانينات – في رأيي- امتدادا لعهد السادات؛ عهد الانفتاح وحرية العمل والتنظيم السياسي، فكان حاسما في بناء جماعة الإخوان المسلمين واستقرار منهجها الفكري واستراتيجية عملها وصورتها لدى الرأي العام ولدى قواعدها أيضا، وقد شهدت سنواتها القطع في قضايا كثيرة كانت غير واضحة من قبل مثل الموقف من العنف والعمل السري، كما شهدت وضع القاعدة الصلبة للتنظيم الإخواني وتحديد قواعده الإدارية ومناهج التكوين والتربية ورسم مسار حركته. وهو ما أهل الجماعة للانطلاق بقوة وملأ فراغ العمل العام في مصر والعالم العربي على الرغم من أن عقبات كثيرة بدأت تظهر في الأفق كان من شأنها أن تعرقل سير الجماعة وحركتها.
علماء الجماعة وشيوخها
ومما يجب التوقف عنده كثيرا عند حديثنا عن استقرار رؤية الجماعة ووضوح منهجها الفكري موضوع علماء الجماعة وشيوخها، فعلى خلاف ما يتصوره البعض لم تعرف الجماعة في هذه الفترة ما يمكن أن نسميه بجناح أو تيار المشايخ والعلماء، وإنما كان لدى الجماعة علماء وشيوخ أجلاء ظلوا طوال فترة إعادة بناء الجماعة جزءا من نسيج حركتها وبنيانها الفكري والتنظيمي، ولم نشهد في حركتنا ونقاشاتنا الطويلة التي قضيناها في إعادة البناء خلافات ذات وزن تؤشر إلى أن هناك انفصالا بين الشيوخ والعلماء وبين الحركيين أو إخوان العمل العام. اللهم إلا مواقف قليلة بل ونادرة جدا أشهرها ما حدث مع الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد.
كنّا قد حسمنا أمرنا بالدخول في تحالف مع حزبي العمل والأحرار عرف بـ "التحالف الإسلامي" في الانتخابات البرلمانية عام 1987، وقد رشح حزب العمل على قائمته بإحدى دوائر محافظة الجيزة امرأة هي السيدة عزيزة سند، وكان الموقف المبدئي للإخوان هو الترحيب بهذا الترشيح وعلى أن يضم الإخوان امرأة في قوائمهم لما يعنيه ذلك من مواجهة الاتهامات التي تطلقها التيارات العلمانية وتشيع فيها أن الإخوان أعداء للمرأة وسيقفون ضد مكاسبها، لكن الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد وهو أستاذ للتفسير في جامعة الأزهر من قدامى الإخوان وكان عضوا بمكتب الإرشاد وقتها رفض الأمر تماما وبقوة، وساق جميع الآراء الشرعية التي تعارض مشاركة المرأة بالبرلمان.
والحقيقة أن ما ساقه فضيلة الشيخ عبد الستار في المسألة كان أقرب لرأي شرعي يقبل المراجعة، فهو غير مجمع عليه كما أن كثيرا مما طرحه من حجج شرعية كان مردودًا عليها. وكنت ممن عارضوا رأي فضيلته، فعرض عليه الإخوان في مكتب الإرشاد تكوين لجنة من علماء الشريعة تدرس القضية ثم تخرج بعدة آراء يختار منها مكتب الإرشاد ما يراه مناسبًا للجماعة، إلا أن فضيلته رفض الاقتراح وقال إن الرأي الراجح الذي ستراه اللجنة هو الذي يجب أن يلتزم به مكتب الإرشاد وأنه سيكون ملزما للجماعة، وهو ما قوبل بالرفض.
كنت ممن عارضوا رأي الشيخ عبد الستار فتح الله، وكان من أشد معارضيه ومن تولى الرد عليه الأستاذ المستشار مأمون الهضيبي رحمه الله وكان مشرفا على القسم السياسي وقتها (تولي منصب المرشد السادس للجماعة)، كنّا نرى أن جماعة الإخوان ليست ملزمة بمذهب فقهي أو برأي شرعي محدد لا تتجاوزه إلى غيرها؛ بل يسعها ما يسع الإسلام، وأن الأفضل في قضية ترشيح المرأة للبرلمان أو عملها بالسياسة أن نوسع المسألة ونعرضها على فقهاء وعلماء من هيئات ومؤسسات دينية معتبرة حتى من خارج الجماعة، ونسمع لما تراه في القضية المثارة ثم نأخذ بما يناسبنا طالما وسعه الشرع. ولكن الشيخ عبد الستار فتح الله رفض رأينا وأصر على موقفه بل وتطور الأمر إلى أن قدم استقالته من مكتب الإرشاد!. وقد ظل - حفظه الله - متمسكا برأيه مخلصا له، وتجددت معارضته حين رشح الإخوان الأخت جيهان الحلفاوي (زوجة الأخ إبراهيم الزعفراني) في الانتخابات البرلمانية عن دائرة الرمل بمحافظة الإسكندرية عام 2000، ثم عاد مجددا لينتقد هذا الموقف حين رشح الإخوان الأخت مكارم الدّيري (زوجة المرحوم الأخ إبراهيم شرف الذي عمل سكرتيرا للمرشد) في الانتخابات الأخيرة 2005 عن دائرة مدينة نصر بالقاهرة، وانتقد بحدة هذا العمل حتى في خطبة الجمعة بالمسجد الذي يؤم الناس فيه، على الرغم من أنه مازال واحدا من جماعة الإخوان وأن استقالته كانت من مكتب الإرشاد فقط وليس من عضوية الجماعة.
وقد كانت الواقعة مهمة جدا في تأسيس منهج للتعامل مع القضايا التي يختلط الشرعي بالسياسي فيها، فحين بدأنا النقاش عام 1994 لإصدار الوثيقة الشهيرة عن موقف الإخوان من الشورى والتعددية الحزبية وعمل المرأة في السياسة، وكان المستشار مأمون الهضيبي وقتها مسؤولا عن القسم السياسي، انتهينا في مكتب الإرشاد إلى دعوة مجموعة من علماء الشرع لحضور مناقشات القسم السياسي في الجماعة مع عدد من أعضاء مكتب الإرشاد وإدارة حوار موسع حول هذه القضايا خاصة قضية التعددية وإمكانية قبول الجماعة بالتعددية الحزبية، وقد دام هذا الحوار وقتًا طويلا نوقشت فيه قضايا أخرى مثل قضية الأقباط وكان ممن حضروه فضيلة الشيخ طه ريان عميد كلية الشريعة آنذاك مع الإخوة من القسم السياسي عصام العريان وعبد الحميد الغزالي (الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة).
(1) نشرت هذه المذكرات في جريدة الشروق المصرية في شهر تموز/يوليو 2009. ونشرها موقع الحقول كاملة يوم 2 ايلول/سبتمبر 2009. ونعيد اليوم (13 آذار /مارس 2012) نشرها بسبب الإقبال الكثيف على قراءة هذه المذكرات، الذي سجل في موقع الحقول بواسطة Google Analytics خلال الشهر المنصرم. وبهذه المناسبة لا بد أن نذكر الجهد الذي بذله سكرتير التحرير في الحقول المناضل السياسي والإجتماعي الزميل علي يوسف الموسوي من لبنان، الذي توفي بعد سنة من تاريخ نشر هذه المذكرات للمرة الأولى. كما لا بد أن نذكر الباحث حسام تمام الذي تولى تحرير هذه المذكرات وتحضيرها للنشر. وقد توفي في السنة الماضية. فرحمة الله عليهما. لن نضيف كثيرا لكن هذه المذكرات لا تلحظ "خروج" الدكتور أبو الفتوح من حزب "الإخوان" بعد ثورة يناير المصرية، وهو أمر لا يبدل من تقديرنا العلمي والتاريخي والسياسي للرجل ومذكراته.
ملاحظة : نشر عصام العريان وهو قيادي في "جماعة الإخوان المسلمين" في مصر، تعليقا على مذكرات أبو الفتوح يوم 2 أيلول/سبتمبر 2009، وذلك على الرابط التالي :
http://www.al-khbar.com/ar/node/154693
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق