رسالة قلقة إلى السيد رجب طيب أردوغان [2]
عاشت العلمانية التركية بدون خبرة التعدد الاسلامي – المسيحي ولكنها تواجه راهنا وبالحاح متفجر تحدي التعدد القومي مع الاكراد والحاح غير متفجر التعدد المذهبي مع العلويين .
"ثار" عليك ليس النظام السوري فقط بل ايران وروسيا والصين. بدا الامر لإيران وسوريا انخراطا تركيا في السياسة السعودية الاقليمية وبدا الامر لروسيا عودة الى ايام كانت تركيا فيها جدار الحلف الاطلسي المباشر ضد الاتحاد السوفياتي. على ان ما يمكن ان يصبح خطرا هو ان الصراع الايراني - السعودي يعتمد سياسة المواجهة السنية - الشيعية لاسيما في الخليج. واحدى اكثر الاوراق جاذبية في البيئات العربية الليبرالية الشابة التي كانت ولا تزال المحركة لِـ – لا المسيطرة على - الانتفاضات ان صورة تركيا الدولة السنية العريقة في المنطقة كانت صورة انها دولة تتصرف على اساس غير مذهبي في الصراعات العربية - العربية قبل "الربيع" وبعده. فلماذا سمحتَ بشطط ما مذهبي في خطابك خلال الانتخابات وبعدها بينما لم يكن دعمك للتغيير في سوريا محتاجا اليه؟ ناهيك اصلا عن ان صديقة تركيا اللدودة ايران، والتي تريد تركيا ان تأخذ سوريا ذات الاكثرية السنية منها مقابل العراق ذي الاكثرية الشيعية، هذه الإيران ليست في وضع قادر على المنافسة مع جاذبيات "الربيع العربي" لانها هي نفسها خرجت من "اللعبة" الاستقطابية القيمية (دون ان تدري الا لاحقا) يوم قمعت الانتفاضة الشبابية السياسية التي قامت ضد اعادة انتخاب الرئيس احمدي نجاد عام 2009.
فقد كان رأيي دائما ان "الربيع العربي" بدأ بمسرحه ومضمونه وضحاياه في طهران 2009 وليس في تونس 2010. وهكذا بينما تحاول مصر ميدان التحرير ان تخرج من لعبة التركيز على الاستقطاب المذهبي الذي وضعها فيه عهد الرئيس السابق مبارك دون ان تتساهل مع التدخل الايراني في الخليج، اذا بتركيا تحت قيادتك تتسرع في اظهار وجه مذهبي.
مكمن الخطأ في هذا الوجه المذهبي ليس في محض الحسابات السياسية التي ستظهر نتائجها السلبية عاجلا ام اجلا على تركيا في العراق تحديدا حيث نفوذها الاقتصادي يمتد من اربيل الكردية الى البصرة، بل في ما هو اكثر جوهرية باعتقادي: انه المساس بالتكوين الحداثي التركي العميق المفترض ان يجعل العامل المذهبي هامشيا في آلية اتخاذ القرار على مستوى دولة تتقدم بنيويا مثل تركيا. قد يتوسل الاميركيون العامل المذهبي في الشرق الاوسط ولكن مصالحهم اوسع بكثير، فقد "تشيعوا" في عراق 2003 وها هم "يتسنّنون" في سوريا 2011! المسألة بالنسبة لهم هي مسالة الأكثرية لا هويتها الخاصة الا بالدرجة الثانية. او لكي اعطي مثالا حداثيا آخر، كنا نظن ان "النموذج التركي" بلغه بصورة من الصور هو المتعلق بفرنسا: فلو وضعنا جانبا الإرث الاستعماري لفرنسا وهو امر نرفض اي تشبيه له بالتاريخ العثماني في بلادنا والذي هو تاريخنا الداخلي، هل يجوز اعتبار الخطاب الديني الكاثوليكي حاسما في صناعة القرار الرسمي الفرنسي؟ الجواب معروف وهو لا، مع ان فرنسا هي البلد ذو مجتمع الاغلبية الكاثوليكية؟
لكل ما سبق اشعر انك ذهبت بعيدا في سياستك الجديدة. لقد كان بامكانك ان تحتفظ برهانك المشروع على الديموقراطية في سوريا حيال نظام من المؤكد انه لم يعد يستطيع الاستمرار ولكن مع غياب الحدة الطائفية التي طبعت هذا الرهان لأن دخول تركيا على خط الازمة العميقة في سوريا يجب ان يكون عامل عقلنة للعبة الطائفية سواء من النظام او من بعض المعارضة الفعالة على الارض، كما ان الدور التركي يجب ان يكون عامل لجم لقوى اقليمية لا تتقن الا التحريض المذهبي.
السيد رئيس الوزراء
في هذه الرسالة عليَّ ان اصارحك بأن حدسا سياسيا يوجهني نحو الملاحظة التالية:
انت في الولاية الثالثة ونعرف ان البرلمان التركي بدأ عملية مناقشة اقتراحات دستور جديد. لكن في الوقت نفسه المسألة الكردية عادت تتفاقم على الارض بشكل خطر. والعديد من تصريحاتك في هذا السياق لا ينم عن طاقة تجديدية عوّدتنا عليها في مجالات اخرى وتحديدا الاقتصاد والاصلاحات المؤسساتية. لهذا تبدو في المسألة الكردية مع الأسف وكأنك استمرار للطبقة التقليدية الكمالية في عجزها عن تقديم حل تاريخي للمسألة الكردية يليق بانجازات الجمهورية التحديثية منذ 1923. فهل هو التعب العميق بدأ يظهر على تجربتك وحزبك في الحكم خلال الولاية الثالثة بحيث انك والحزب قدمتما افضل ما عندكما وبدأ التعب التاريخي الذي من شأنه ان يصيب اي جيل حاكم عندما "تنتهي" طليعيته او تصطدم بما لا طاقة له عليه، فكرا وادوات؟ هذا قانون تاريخي في أي مجتمع صاعد ولهذا اشعر انك بدأت تراوح – عدا المغامرات الاقليمية- امام مسألتين داخليتين رئيسيتين تمثلان الآن الجدار الكبير امام تطور العلمانية التركية: المسألة الكردية كموضوعة تعايش- تكامل على المستوى القومي والمسألة العلوية كموضوعة تعايش- تكامل على المستوى الديني وبما تحمله من تحديات للفقه الحنفي التركي ذي التراث الاجتهادي الغني والتجربة التاريخية التعددية كما للدولة العلمانية في تركيا.
هل تسمح لي بلفت نظرك الى ان تركيا "العائدة" الى المشرق العربي قد لا تكون تملك الحساسية الكافية (ولا اقول قطعا انها غير مبالية) لفهم اهمية بعض المكونات الراهنة في هذا المشرق لأن هذا المكون ليس ضاغطا بالمعنى البنيوي على الحياة العامة في الجمهورية التركية. انه المكون المسيحي. فعندما غادر الاتراك معظم منطقة "الليفانت" العربية اواخر عام 1918 لم تكن هي فقط تعج بالديموغرافيا المسيحية تحت ادارتهم بل كان الاناضول نفسه واسطنبول يعجان بحضور مسيحي (يوناني اساسا) الى حد ان مدينة مثل ازمير كانت تعتبر حتى اواخر العهد العثماني مدينة "يونانية". كان الفراغ الديموغرافي الكبير الاول لاشك قد حصل في القوقاز العثماني عندما ادت "الحرب الاهلية" بين المسلمين الاتراك والاكراد وبين الارمن، وجميعهم عثمانيو الجنسية، وتبني القيادة العسكرية في اسطنبول لسياسة سحق المنشقين الارمن بقيادة حزب"الطاشناق" المتحالف مع روسيا، خوفا من تسهيلهم اختراقا روسيا كبيرا على تلك الجبهة من الحرب العالمية المندلعة عام 1914... وهو ما تحوّل الى سحق لمعظم الارمن أدى الى مأساة تهجير مئات الالوف نحو بعض الولايات السورية كما سيتواصل نزوح الطوائف السريانية من بعض مناطق الجنوب الاناضولي الى الجزيرة (البريطانية والفرنسية) مع قيام الجمهورية الكمالية.
هذه الجمهورية التي لم يكن ممكنا لأتاتورك تأسيسها لولا نجاحه في رد الغزو اليوناني المنظم الذي جاء من شبه الجزيرة الايبيرية بعد خسارة السلطنة العثمانية الحرب بهدف "استعادة" اليونان القديمة في الاناضول، فأدت المواجهة الى رحيل شبه كامل لمئات الوف بل ملايين اليونانيين المسيحيين المقيمين اصلا وبلا انقطاع في الاناضول وبسبب تضخم الاحلام الوطنية للدولة اليونانية المستقلة عن الامبراطورية العثمانية منذ اوائل القرن التاسع عشر. وللتاريخ مفارقاته المذهلة: فلقد ادى هذا الوضع بشكل تلقائي الى ان تولد التجربة العلمانية التركية بدون خبرة التعدد المسيحي - الاسلامي عمليا حتى لو كانت اسطنبول مقرا للبطريركية المسكونية الارثوذكسية البالغة الاهمية المعنوية والرمزية المقدسة في العالم الارثوذكسي الشاسع (كما طبعا بطريركية ارمنية).
الذي تواجهه الآن العلمانية التركية هو تحديات التعدد القومي مع الاكراد والمذهبي مع العلويين. ولكن ليس تحديات التعدد الديني مع المسيحيين والتي اصبحت (رغم بعض مشاكل الحقوق القانونية للبطريركية المسكونية) من الماضي التركي. لهذا ألفت نظرك، دولة الرئيس، الى ضرورة التحسس الكافي لهذا العامل المهم في الثقافة السياسية للمشرق العربي والذي يفرض نفسه هذه الايام بمأساوية على الثورة المصرية بما يستدعي التساؤل المشروع عن حدود تجديد افتعاله صِداميا في بلد ذي تقاليد ليبرالية فعلية حتى في اقسى عهود الاستبداد. وهذا يعني تحديا لاي تبسيطية في خطاب "الاخوان المسلمين" حيال هذا الموضوع في زمن لبرلة (من ليبرالية) خطابهم. وهذا يتعلق بقوة مجرَّبة ومدربة كـ"الاخوان" المصريين فكيف بـ"الاخوان" غير المصريين و غير المجرَّبين؟! انها تبسيطية في الخطاب التعددي نقترح ايضا على الاصدقاء المثقفين الليبراليين المنخرطين في المعارضة السورية - لاسيما في الداخل- معالجتها.
تَصوَّر سوء التفاهم الذي اصابك شخصيا في مصر عندما تسرّع الاسلاميون المصريون بانتقادك لمجرد دعوتك الى العلمانية... فلم يفهموا ما اردت ولم تفهم - على ما اظن - لماذا هاجموك! كان كلاكما يتحدث بلغة "اجنبية" عن الآخر. فانت كنت تقصد انه يمكن التيار الديني تجاوز "عقبة" العلمانية، وهم كان عقلهم في "مصر الشرع الاسلامي" حتى لو احترقت القاهرة بعد اسابيع قليلة! هذا مع التذكير بأنه لا يجب المبالغة في درجة جاهزية النخب المصرية الليبرالية والعلمانية واليسارية للاندفاع في علاقة تحالف مع تركيا رغم اعجابها المتفاوت بـ"النموذج التركي" والكثير منها – و ليس في الامر مزاح هنا- معجب بدور الجيش التركي في حماية العلمانية اي بالصيغة التقليدية للاتاتوركية التي قاتلتها انت!
"الربيع العربي" سيغير المنطقة بالتأكيد. وقد بدأ ذلك. وهو يحمل معه بحكم التأثير بل التفوق الحضاري نفوذا غربيا متصاعدا سيظل مشبوها بل مسموما بالمظلومية الفلسطينية و صانعتها الاسرائيلية. لكن الاندفاع مع مد صاعد لا يعني بالضرورة نجاحا لكل الاطراف المنخرطة فيه. فحذارِ ان تخطىء في مؤشرات الصعود والافول.
مع الاحترام
جهاد الزين
jihad.elzein@annahar.com.lb
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق