First Published: 2011-10-08 |
علاقة فهم المسلمين للدين بفاعليته في الحكم والتشريع
ما لم يتمكن المسلمون من إعادة تجديد فهمهم للدين بما يتناسب ظرفهم التاريخي، واجتراح آليات حكم عصرية تؤمن الشراكة الحقيقية للمجتمع وتعالج ظاهرة الاستبداد السياسي، ويتم من خلالها التداول السلمي على السلطة، فسيبقى دور الإسلام في الحكم والتشريع على المحك دائما.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: محمد الشيوخ
في القرن التاسع عشر وتحديدا مع تحول الدولة العثمانية إلى دولة علمانية بدأ يتضاءل دور الاسلام باعتباره مصدرا للتشريع عن مسرح الحكم، وعلى اثر هذا التحول الكبير سارت دول اسلامية أخرى في نفس الاتجاه.
ما قبل ذلك التأريخ لم يكن يرد في بال المسلمين قيام دولة على بلادهم يكون دستورها الاساس إما مغايرا لنهج الاسلام أو ان الاسلام كمصدر للحكم ياتي في المرتبة الثانية او الثالثة في التشريع، كما لم يرد الشك لدى المسلمين قبل تأسيس الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924، في عدم قدرة الدين على قيادة الحياة، رغم وجود بعض مظاهر الخلل في تطبيق النظام الاسلامي في معظم التجارب الاسلامية التي اتت بعد تجربة الدولة الاسلامية الأولى.
وكان الاتجاه العام السائد لدى عامة المسلمين آنذاك، ان الاسلام دين شامل ومتكامل ولديه كل مقومات القدرة على تنظيم امور الناس العقدية والروحية وادارة شؤونهم المادية، سواء على المستوى الفردي أو الاسري أو الاجتماعي، بل كان ينظر للاسلام على انه دين ودولة وصالح لكل زمان ومكان وانه كل لا يتجزأ، وبالتالي ينبغي ان يؤخذ جملة.
اذن، وكما هو واضح كان الاسلام في نظر المسلمين الأوائل وحتى عهد الدولة العثمانية، يمثل منهجا كاملا للحياة مترابط الاحكام ولديه القدرة على قيادة شؤون الناس العامة والخاصة، ففي الوقت الذي كان يعتبر الاسلام عقيدة ومنهجا للعبادة والاخلاق، كان ينظر اليه باعتباره شريعة متكاملة. وبعبارة اخرى كان الدين الاسلامي يمثل خارطة طريق للفرد والاسرة والمجتمع والدولة معا، فعلى صعيد العقيدة، تضمن الاسلام اصول الدين التي تتفرع منها سائر الاحكام والتشريعات، وكان ينظر لمفهوم العبادة في الدين الاسلامي باعتبارها التعبير الحي عن العقيدة المستقرة في القلب، واما التعاليم الاخلاقية فكان ينظر لها بوصفها قواعد ضابطة لسلوك الفرد والجماعة الخاصة والعامة، في حين ان الشريعة ككل تتكفل بتنظيم حياة الانسان الفردية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخ.
لم تكتف الشريعة الاسلامية عند حد تنظيم شؤون المسلمين مع بعضهم البعض وداخل بلدهم، وانما راحت تنظم علاقة المسلمين بغيرهم من الامم الاخرى، وذلك في حالتي السلم والحرب، ضمن قواعد الحق والعدل والخير، وهذا ما نجده من احكام المعاملات المرتبطة بالدعوة والجهاد والصلح والمعاهدات (القانون الدولي) وتنظيم امور الاسرة (قانون الاحوال الشخصية) وطرق المعاملات المالية (القانون المدني) ونظام العقوبات (القانون الجزائي) وما يتصل بنظام القضاء (اصول المحاكمات) والعلاقة مع الحاكم والمحكوم والحقوق والواجبات (القانون الدستوري)، وغيرها من المجالات الواسعة والمتعددة.
فترة ما بعد تحول الدولة العثمانية الى دولة علمانية حتى عصرنا الراهن، خصوصا بعد إخفاق تجارب اسلامية عديدة في الحكم، حدث تغير كبير وملحوظ في رؤية بعض المسلمين للإسلام باعتباره منهج حكم وتشريع. وعلى اثر ذلك برزت بعض الاتجاهات تشكك علنا في قدرة الاسلام على القيادة والحكم، وربما كثيرون ذهبوا الى ان الاسلام فقد قدرته على الحكم والقيادة واضحي مجرد طقوس للعبادة الفردية ولا صلة له بواقع الناس الاجتماعي والسياسي، كما ليس لديه القدرة على مواكبة متغيرات الزمن. هذه الرؤية كانت ولازالت تمثل تحديا جديا للمسلمين. لذا نرى من الأهمية بمكان مناقشة بعض الفرضيات التي اسهمت في إضعاف دور الإسلام في الحكم والتشريع في الكثير من البلاد الإسلامية:
1- فرضية استهداف الإسلام
يرى انصار هذه الفرضية ان الدين الاسلامي الذي استطاع قبل أكثر من الف واربعمائة سنة ان يؤسس دولة فيها نظام حكم واضح يستوعب الجميع ويتمكن من قيادة الناس على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم الدينية والقومية، هو ذاته الاسلام الذي وصل الينا. وطلما ان الامر كذلك، فان الدين الاسلامي لازال لديه ذات القدرة والفاعلية في الحكم والتشريع، كما ان لديه القدرة ايضا على مواكبة كل متغيرات العصر ومواجهة تحدياته. غاية ما في الأمر، هنالك اطراف وجهات معادية للدين عملت منذ زمن بعيد وبمختلف الوسائل لا بعاد الدين عن مسرح الحياة، وهي التي اضعفت دوره وشلت فاعليته، بل انها عملت جاهدة ايضا على تشويه صورته ليس في نظر غير معتنقيه وخصومه فحسب، وانما في نظر اتباعه وانصاره، وقد نجحت مساعي التشويه في احداث تغير ملحوظ في اذهان العديد من المفكرين المسلمين وليس عوامهم فحسب.
بروز طروحات لمفكرين اسلامين منادية يا بعاد الدين عن السياسة وعزله عن مسرح الحياة وحصره في نطاقات ضيقة جدا، بحيث لا يتعدى حدود دائرة علاقة الفرد العبادية بمعبوده، هي مؤشرات تعزز وجود حالة الشك في قدرة الدين الاسلامي على القيادة والحكم ومواكبة متغيرات الزمن. بعد إخفاق العديد من التجارب الاسلامية في الحكم، اكتفت العديد من الدول بالنص في دساتيرها على ان الاسلام دين الدولة الرسمي، وان الشريعة مصدر من مصادر التشريع، دون ان يكون لذلك أثر في سائر التشريعات وواقع الحياة، وقد نحيت العديد من القوانين الشرعية واستبدل محلها بفوانين وضعية، ولم يبق للقوانين الاسلامية أثر في كثير من البلاد الا في نطاق الاحوال الشحصية (الزواج والطلاق)، بل حتى هذه الزاوية وجهت لها السهام، وثارت حولها الشبهات مع السعي الدؤوب لتعديلها أو مسخها، بل ذهب البعض إلى انكار وجود نظام للحكم في الاسلام اصلا، وقد قال بعضهم: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة.
على اثر ذلك ساد التناقض بين الاسلام وواقع المسلمين في كثير من الاحيان وعلى كثير من الاصعدة، فعلى المستوى الرسمي والقانوني، تنص بعض الدساتير على ان الاسلام هو دين الدولة الرسمي، لكن الواقع العملي والقوانين التي تحكم الناس تناقض كليا قوانين الاسلام جملة وتفصيلا. وفي أحيان كثيرة يتم الاستفادة من النصوص الدستورية الاسلامية لا ضفاء الشرعية على بعض الانظمة غير الاسلامية او الممارسات المضادة للاسلام واخلاقياته وقيمه. يمتلك انصار هذه الفرضية العديد من الشواهد والادلة القديمة والحديثة التي تبين من خلالها حجم الاستهداف الذي تعرض له الدين الاسلامي لا ضعاف دوره وشل قدرته وفاعليته في الحكم والتشريع.
2- فرضية عدم قدرة الاسلام كمنهج على مواكبة متغيرات العصر
يرى انصار هذه الفرضية ان الدين الإسلامي كمنهج حياة كان صالحا لحقب تاريخية ماضية فقط، وذلك لان حياة الناس في ذلك الوقت كانت بسيطة وغير معقدة. في زمننا الراهن أضحت الامور اكثر تعقيدا، كما ان ايقاع العصر صار متسارعا والمتغيرات الطارئة فيه كثيرة. وفي غمرة حركة الزمن المتسارع لم يعد الدين الاسلامي كمنهج حكم يمتلك القدرة على مواكبة تلك المتغيرات، وبالتالي سيبقى اليوم خارج مسرح الحياة وتأثيراتها، وهذا ما ادى الى ضعف فاعليته في القيادة وانحسار دوره في التشريع. كما يرون ايضا ان الدين واحكامه وتشريعاته كانت مفصلة لظرف زمني معين وفي منظقة جغرافية محددة ولأناس معينين، وهم بالمناسبة اناس ماتوا وقد شبعوا موتا. وبتغير ذلك الزمن وموت اصحابه مات الدين الذي كان يحكمهم وينظم شؤنهم معهم بموتهم.
فعملية انحسار دور الدين وفاعليته، وفق اصحاب هذه الفرضية، لا علاقة لها بعملية الاستهداف الخارجي او الداخلي للاسلام، وانما هي راجعة في الاساس الى طبيعة الدين وما هيته وحيوته وديمومته ليس الا. وبعبارة ادق، فان انصار هذه الفرضية يرون ان الدين الاسلامي هو دين عبادة يحتوي على توجيهات اخلاقية وطقوس عبادية ولا يحتوي على قواعد وانظمة حكم وبالتالي فانه لا يمتلك مقومات القدرة على قيادة الناس وتنظيم شؤونهم الحياتية المختلفة.
3-فرضية سوء الفهم للدين وخلل التطبيق
في حين يرى انصار هذا الفرضية، ان الدين الاسلامي يتصف بالكمال والشمول والصلاح والديمومة، فهو دين كامل وصالح لكل زمان ومكان ولديه ذات القدرة التي كان يمتلكها قبل ألف وأربعمائة عام، وستظل هذه القدرة لصيقة بالدين الى ان يرث الله الارض ومن عليها. غاية ما في الامر ان هنالك مجموعة من العوامل لا علاقة لها ببنية الدين وجوهره ومفاهيمه، وانما لها صلة بكيفية فهم الأتباع للدين وتطبيقه.
ان عدم قدرة المسلمين المتأخرين على تجديد فهمهم للدين بما يتلاءم مع ظرفهم التاريخي والسياسي، مضافا الى الممارسة الخاطئة للحكم في مختلف الحقب الماضية، هما العاملان الأساسيان اللذان اديا الى تشويه صورة الدين ومن ثم التقليل من اثره وفاعليته في القيادة والتشريع، كما هما اللذان دفعا العديد من الدول الإسلامية اما إلى استيراد قوانين بديلة عن قوانين الإسلام أو تهميش دوره.
حالة الاستبداد في الحكم التي سادت البلاد الإسلامية، هي الأخرى لعبت دورا كبيرا في تشويه الدين والإضرار بسمعته وإضعاف فاعليته، كما ساهمت في إفراز العديد من المشاكل العويصة في البلاد الإسلامية. ان مشكلة الاستبداد في الحكم بقدر ما هي مشكلة عامة وقديمة، الا انها أضحت مشكلة لصيقة بحكام المسلمين اكثر من غيرهم، وهي راجعة لسوء اختيار آلية الحكم الملائمة مضافا الى وجود خلل في توزيع موازين ومصادر القوة في الدولة. حينما اعتمدت وسيلة التوريث في الحكم، واجتمعت مصادر القوة في يد الحاكم (الخليفة)، في اغلب بلاد المسلمين، وصودر حق الناس في النقد والتقويم والمشاركة، تم صناعة حكام مستبدين، الأمر الذي أدى الى افساد البلاد واضعافها وانتهاك الحرمات وازهاق العديد من الأرواح وإراقة الكثير من الدماء.
فور قيام الدولة السياسية الأولى في المدينة المنورة، باشر الرسول (ص) في كتابة صحيفة المدينة، وهي أول نص دستوري تعاقدي سياسي وضعه نبي الإسلام، مبينا فيه الصلاحيات والحدود والواجبات والضوابط. كل ذلك تم لغرض منع الاستبداد والتعسف والظلم وانتهاك الحقوق، ولكي لا يتحول الحكم الى ملك عضوض وادة للبطش والقمع، ولكي لا تصبح الدولة أيضا إلى بيئة ملائمة لصناعة حكام ظلمة ومستبدين في آن. لقد ميز الرسول في صحيفته ايضا بين المجتمع الديني (مجتمع المؤمنين من المهاجرين والأنصار)، والمجتمع السياسي (الذي يضم المؤمنين ويضم عرباً وثنيين لم يدخلوا الإسلام بعد، ويضم قبائل يهودية كانت تعيش في المدينة المنورة)، لكي لا يتداخل الشأن السياسي بالديني والعام بالخاص، وليقضي تماما على البيئة التي تتولد من خلالها نزعة الاستبداد والظلم والاعتداء على الحقوق وانتهاكها. ان إتاحة الفرصة للحكام في تجميع مصادر القوة بأيديهم واحتكارها، وعدم إخضاعهم للمحاسبة والرقابة والمسائلة والنقد الشعبي، يؤديان بشكل طبيعي إلى الاستبداد والظلم والطغيان. وهنا تكمن معضلة الأمة الإسلامية تحديدا.
ولسوء حظ المسلمين العاثر، فان معظم حكامهم وصلوا إلى سدة الحكم وفق آليات غير مشروعة، ولم يعيروا تجربة الرسول (ص) الرائدة في الحكم أي أهمية تذكر، كما انهم لم يتيحوا المجال لمشاركة الناس في صنع القرار، ومنعوهم من ممارسة دورهم في الرقابة والمحاسبة والانتقاد والتقويم، كي يتمادوا في طغيانهم، وكإفراز طبيعي لتلك المعادلة الخاطئة، تولدت حالة الاستبداد في الحكم واحتكرت الثروة وهدر المال العام، وصودرت حقوق الناس وأريقت دماء آخرين وشوت مفاهيم الدين الإسلامي وتضاءل دوره في القيادة والتشريع.
ما لم يتمكن المسلمون من إعادة تجديد فهمهم للدين بما يتناسب ظرفهم التاريخي، واجتراح آليات حكم عصرية تؤمن الشراكة الحقيقية للمجتمع وتعالج على اثرها ظاهرة الاستبداد السياسي، ويتم من خلالها التداول السلمي على السلطة، مالم يتم ذلك فسيبقى دور الإسلام في الحكم والتشريع على المحك دائما.
محمد الشيوخ
باحث سعودي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق