As-Safir Newspaper - سليمان تقي الدين : لا حرية للهويات خارج المواطنة
أحدث الصدام بين الشبان الأقباط والجيش المصري في «ماسبيرو» ارتجاجاً في الوعي حول الهوية الوطنية المصرية. مصر أكثر الدول رسوخاً وثباتاً واستقراراً في هويتها الوطنية. لم يسبق ان كانت وحدة مصر موضع جدل حتى مع الذين قالوا بفرادتها واستقلالها. لا النزعة الفرعونية ولا النزعة المتوسطية ولا النزعة الأفريقية ولا النزعة العروبية طرحت علامة استفهام على وحدة مصر. ثمة من يسأل اليوم عن الوحدة الوطنية والعيش المشترك بين المسلمين والأقباط، ومن يسأل عن وحدة الكيان الجغرافي.
في مطلع ثورة 25 يناير وقعت حادثة إحراق الكنيسة في الإسكندرية. لم يكن لهذه الحادثة الأثر الخطير وقد ظهر أنها واحدة من الجرائم التي ارتكبها أمن النظام وبالتحديد وزير الداخلية. قبل وبعد حصلت حوادث بعضها لا يخرج عن سياق التوتر الطائفي. لكن أحداً لم يفكر بالقطيعة بين مكونات الشعب المصري ولم يرفع القضية إلى مستوى التحدي الكبير الذي يواجه الثورة. حادثة «ماسبيرو» تدخل في سجل السلطة المصرية والمؤسسة العسكرية وليس في إطار العلاقات بين جمهور الأقباط والمسلمين. كأن الذي جرى في مصر يظهر أزمة كل المجتمعات العربية التعددية ويؤكد الحذر من الثورات والتغيير والقلق على الحريات ومستقبل الأقليات ولا سيما المسيحيين. ثمة من رسم مشهداً لمؤامرة على وحدة كيانات المنطقة. وثمة من وجد تبريراً للاستبداد بوصفه ضامناً للاستقرار وكابحاً للنزاعات الدينية والطائفية. وثمة من رأى ان الأمور تسير في خط التحالف بين الجيوش وحركات الإسلام السياسي لبناء نظام إقليمي تحت السيطرة الغربية. لكن أحداً لم يبرهن بعد على أن واقع العرب الراهن، كمجتمعات وكدول، هو أفضل مما يتوالد في هذا المخاض الكبير. لا الكيانات العربية أثبتت نجاحاً في وحدة وتقدم المجتمعات، ولا في ضمان الكرامة الوطنية والإنسانية، ولا في إرساء علاقات العيش الحر الكريم بين مكوناتها. ولا هي استطاعت ان توفر السيادة والاستقلال والتنمية وتمنع الاستباحة الامبريالية بالسيطرة المباشرة أو غير المباشرة على ثروات المنطقة وإرادة شعوبها.
تواجه الثورات العربية قوى كبيرة وتحديات. فتحت الثورات آفاقاً أكبر بكثير من منظومة العلاقات السياسية والاجتماعية السائدة. لم يكن الاستبداد شخصاً عابراً أو طارئاً على دول لم تعرف منذ زمن طويل السيادة الشعبية. تجذر الاستبداد عبر مصالح قوى اجتماعية وقوانين وثقافات وتقاليد. لم يكن سهلاً فك الارتباط بين مؤسسات أي نظام وبين هذا الإرث الكبير الذي تحميه قوى النظام من جهة، وضعف وسائل المجتمع وأدواته التغييرية من جهة أخرى. لم يحصل تفكيك المؤسسات التي كانت تمسك بمقاليد السلطة. باستثناء حل جهاز الأمن الداخلي وإنهاء ولاية مجلسي النواب والشورى وعزل رئيس الجمهورية وتغيير الحكومة لم تتغيّر مواقع النظام. قامت سلطة معنوية موازية في الشارع تلعب دور المحرك والكابح للقرارات والسياسات، غير انها سلطة معنوية لم تتجسد في البرلمان والحكومة ولم تمتلك أدواتها التنظيمية ومؤسساتها القادرة على الإمساك بالمفاصل الأساسية لإدارة البلاد. هذه الفجوة بين الثورة والسلطة لا يمكن ردمها إلا باستكمال المسار الديموقراطي والانتخابات. خلال المرحلة الانتقالية لم تنشأ جمعية تأسيسية لإعادة صياغة النظام. هذه الثورات لا تطرح على نفسها مهمات أكثر من التغيير السياسي الديموقراطي. الحرية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والمشاركة هي العناوين الأساسية التي كانت محل إجماع القوى والتيارات التي شاركت في التغيير. التواطؤ الإيجابي هو الذي سمح بتحييد المؤسسة العسكرية وتعاونها في مرحلة لاحقة لضبط الأمن واستبعاد العنف والحفاظ على النظام العام. هذا المسار كان طبيعياً في غياب الديموقراطية وغياب المؤسسات الشعبية السياسية القوية المسيطرة على الحراك الواسع.
لا تملك الثورات العربية برنامجاً إيجابياً يحدد شكل النظام الجديد وآليات عمله. لم يسبق ان توافقت جهات المعارضة على جدول أعمال محدد للدستور وتوزيع السلطات وقانون الانتخاب ودور المؤسسات. لم يسبق أن اجتمعت المعارضة على فكرة وطنية موحدة في السياسة الخارجية والاقتصادية والاجتماعية. لا يعني ذلك ان الثورات يتيمة وأنها فاقدة لشرعيتها ووجهتها. ثورات تعيد إنتاج نفسها في الحوار الوطني والصراع الديموقراطي.
لا يمكن الاستهانة بحادثة «ماسبيرو» لكنها تكشف عن حقائق واضحة. إن القانون الذي ينظم الطقوس الدينية هو المسؤول الأول عن مخالفة بناء الكنيسة وجريمة إحراقها. إن المؤسسة الأمنية هي الجهة التي تورطت في قمع الشبان الأقباط المحتجّين. إن ثقافة «الذمية» التمييزية هي جزء من إرث الدولة والمجتمع. إن التعددية الدينية والإثنية تستثمر في المشاريع السياسية الداخلية والخارجية ولا تعالج إلا في إطار دولة تضمن الحريات وتقوم على المساواة في الحقوق وعلى الديموقراطية. إذا صح ذلك فالمعركة مفتوحة لبناء دولة القانون ضد كل شكل من أشكال الاستبداد، بما فيه الاستبداد الديني والثقافي والتمييز في المواطنة. لا تحل مشكلات الحرية إلا بالحرية، ولا محل للحرية في حروب التفكيك والتقسيم أو في منطق الحمايات الداخلية والخارجية. وحده الانخراط في مشروع الدولة الضامنة للحرية والحقوق هو ما يمكن ان يردع احتمالات الهيمنة والتسلّط. إذا كانت الأقليات تشعر بضعفها كأقليات فهي أولى بأن تسعى لكي لا تكون أقلية في مجتمع سياسي أساسه المواطنة. حادثة «ماسبيرو» لا تعطي شرعية لأي نظام أمني جديد يستظل «الشعبوية الإسلامية» لتحويل الثورة من مسار مدني ديموقراطي إلى بناء حزب سلطوي جديد يصادر الحرية باسم الدين. ما زالت الثورة في قلب معركة الحرية.
لا حرية للهويات خارج المواطنة
سليمان تقي الدينأحدث الصدام بين الشبان الأقباط والجيش المصري في «ماسبيرو» ارتجاجاً في الوعي حول الهوية الوطنية المصرية. مصر أكثر الدول رسوخاً وثباتاً واستقراراً في هويتها الوطنية. لم يسبق ان كانت وحدة مصر موضع جدل حتى مع الذين قالوا بفرادتها واستقلالها. لا النزعة الفرعونية ولا النزعة المتوسطية ولا النزعة الأفريقية ولا النزعة العروبية طرحت علامة استفهام على وحدة مصر. ثمة من يسأل اليوم عن الوحدة الوطنية والعيش المشترك بين المسلمين والأقباط، ومن يسأل عن وحدة الكيان الجغرافي.
في مطلع ثورة 25 يناير وقعت حادثة إحراق الكنيسة في الإسكندرية. لم يكن لهذه الحادثة الأثر الخطير وقد ظهر أنها واحدة من الجرائم التي ارتكبها أمن النظام وبالتحديد وزير الداخلية. قبل وبعد حصلت حوادث بعضها لا يخرج عن سياق التوتر الطائفي. لكن أحداً لم يفكر بالقطيعة بين مكونات الشعب المصري ولم يرفع القضية إلى مستوى التحدي الكبير الذي يواجه الثورة. حادثة «ماسبيرو» تدخل في سجل السلطة المصرية والمؤسسة العسكرية وليس في إطار العلاقات بين جمهور الأقباط والمسلمين. كأن الذي جرى في مصر يظهر أزمة كل المجتمعات العربية التعددية ويؤكد الحذر من الثورات والتغيير والقلق على الحريات ومستقبل الأقليات ولا سيما المسيحيين. ثمة من رسم مشهداً لمؤامرة على وحدة كيانات المنطقة. وثمة من وجد تبريراً للاستبداد بوصفه ضامناً للاستقرار وكابحاً للنزاعات الدينية والطائفية. وثمة من رأى ان الأمور تسير في خط التحالف بين الجيوش وحركات الإسلام السياسي لبناء نظام إقليمي تحت السيطرة الغربية. لكن أحداً لم يبرهن بعد على أن واقع العرب الراهن، كمجتمعات وكدول، هو أفضل مما يتوالد في هذا المخاض الكبير. لا الكيانات العربية أثبتت نجاحاً في وحدة وتقدم المجتمعات، ولا في ضمان الكرامة الوطنية والإنسانية، ولا في إرساء علاقات العيش الحر الكريم بين مكوناتها. ولا هي استطاعت ان توفر السيادة والاستقلال والتنمية وتمنع الاستباحة الامبريالية بالسيطرة المباشرة أو غير المباشرة على ثروات المنطقة وإرادة شعوبها.
تواجه الثورات العربية قوى كبيرة وتحديات. فتحت الثورات آفاقاً أكبر بكثير من منظومة العلاقات السياسية والاجتماعية السائدة. لم يكن الاستبداد شخصاً عابراً أو طارئاً على دول لم تعرف منذ زمن طويل السيادة الشعبية. تجذر الاستبداد عبر مصالح قوى اجتماعية وقوانين وثقافات وتقاليد. لم يكن سهلاً فك الارتباط بين مؤسسات أي نظام وبين هذا الإرث الكبير الذي تحميه قوى النظام من جهة، وضعف وسائل المجتمع وأدواته التغييرية من جهة أخرى. لم يحصل تفكيك المؤسسات التي كانت تمسك بمقاليد السلطة. باستثناء حل جهاز الأمن الداخلي وإنهاء ولاية مجلسي النواب والشورى وعزل رئيس الجمهورية وتغيير الحكومة لم تتغيّر مواقع النظام. قامت سلطة معنوية موازية في الشارع تلعب دور المحرك والكابح للقرارات والسياسات، غير انها سلطة معنوية لم تتجسد في البرلمان والحكومة ولم تمتلك أدواتها التنظيمية ومؤسساتها القادرة على الإمساك بالمفاصل الأساسية لإدارة البلاد. هذه الفجوة بين الثورة والسلطة لا يمكن ردمها إلا باستكمال المسار الديموقراطي والانتخابات. خلال المرحلة الانتقالية لم تنشأ جمعية تأسيسية لإعادة صياغة النظام. هذه الثورات لا تطرح على نفسها مهمات أكثر من التغيير السياسي الديموقراطي. الحرية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والمشاركة هي العناوين الأساسية التي كانت محل إجماع القوى والتيارات التي شاركت في التغيير. التواطؤ الإيجابي هو الذي سمح بتحييد المؤسسة العسكرية وتعاونها في مرحلة لاحقة لضبط الأمن واستبعاد العنف والحفاظ على النظام العام. هذا المسار كان طبيعياً في غياب الديموقراطية وغياب المؤسسات الشعبية السياسية القوية المسيطرة على الحراك الواسع.
لا تملك الثورات العربية برنامجاً إيجابياً يحدد شكل النظام الجديد وآليات عمله. لم يسبق ان توافقت جهات المعارضة على جدول أعمال محدد للدستور وتوزيع السلطات وقانون الانتخاب ودور المؤسسات. لم يسبق أن اجتمعت المعارضة على فكرة وطنية موحدة في السياسة الخارجية والاقتصادية والاجتماعية. لا يعني ذلك ان الثورات يتيمة وأنها فاقدة لشرعيتها ووجهتها. ثورات تعيد إنتاج نفسها في الحوار الوطني والصراع الديموقراطي.
لا يمكن الاستهانة بحادثة «ماسبيرو» لكنها تكشف عن حقائق واضحة. إن القانون الذي ينظم الطقوس الدينية هو المسؤول الأول عن مخالفة بناء الكنيسة وجريمة إحراقها. إن المؤسسة الأمنية هي الجهة التي تورطت في قمع الشبان الأقباط المحتجّين. إن ثقافة «الذمية» التمييزية هي جزء من إرث الدولة والمجتمع. إن التعددية الدينية والإثنية تستثمر في المشاريع السياسية الداخلية والخارجية ولا تعالج إلا في إطار دولة تضمن الحريات وتقوم على المساواة في الحقوق وعلى الديموقراطية. إذا صح ذلك فالمعركة مفتوحة لبناء دولة القانون ضد كل شكل من أشكال الاستبداد، بما فيه الاستبداد الديني والثقافي والتمييز في المواطنة. لا تحل مشكلات الحرية إلا بالحرية، ولا محل للحرية في حروب التفكيك والتقسيم أو في منطق الحمايات الداخلية والخارجية. وحده الانخراط في مشروع الدولة الضامنة للحرية والحقوق هو ما يمكن ان يردع احتمالات الهيمنة والتسلّط. إذا كانت الأقليات تشعر بضعفها كأقليات فهي أولى بأن تسعى لكي لا تكون أقلية في مجتمع سياسي أساسه المواطنة. حادثة «ماسبيرو» لا تعطي شرعية لأي نظام أمني جديد يستظل «الشعبوية الإسلامية» لتحويل الثورة من مسار مدني ديموقراطي إلى بناء حزب سلطوي جديد يصادر الحرية باسم الدين. ما زالت الثورة في قلب معركة الحرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق