التوفيق بين الدين والفلسفة معقد الطرافة في الفلسفة الإسلامية
محمد حلمي عبد الوهاب
على الرغم من أن كتاب «المدخل إلى دراسة الفلسفة الإسلامية»، الذي ألفه المستشرق الفرنسي ليون جوتييه وترجمه إلى العربية الدكتور محمد يوسف موسى عام 1945، تضمن العديد من الرؤى المؤدلجة والمغالطات التاريخية – وخاصة ما يتعلق بمسألة الفروق الكائنة بين العقلية السامية والعقلية الآرية - فإنه أكد في المقابل فكرة رئيسية مفادها: أن الفلسفة الإغريقية – وهي الأساس للفلسفة الإسلامية بحسب قوله - تعد أسمى ما وصلت إليه العقلية الآرية في التفكير، وأن الإسلام هو خير ما خلّفت العقلية السامية من تراث وأنضج ثمراتها، وأن بين هاتين العقليتين تعارضا حادا حينا، وغير حاد حينا آخر، في جميع مظاهر الحياة من أدناها إلى أعلاها، ومن أجل ذلك كله كان العمل على التوفيق بين هذين الطرفين المتعارضين (الدين والفلسفة) أنضج ثمار تفكير فلاسفة الإسلام! ومن المعلوم أن دراسات المستشرقين كانت قد انتهت إلى نفي الأصالة الفلسفية عن العرب والمسلمين: إما بحجة تفوق «الجنس الآري» على الجنس السامي بحسب النظرية التي اشتهرتْ منذ مَطلع القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان، خاصة في كتابه «تاريخ اللغات السامية»، وإما بحجة أن المسلمين كانوا مجرد ناقلين للإرث الفلسفي الإغريقي ليس إلا! وقد قامت في مواجهة تلك الدعاوى مدرسة فلسفية تأصيلية بزعامة الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي وجّه تلامذته للعناية بدراسة الفكر الفلسفي الإسلامي، وإبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من فلسفة في آياته التي تعرضت لأمهات المشكلات الفلسفية: الإلهية، والطبيعية، والإنسانية، وتأكيد أنه كان من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف، ودحض مقولة الاستشراق الخاصة بتعارض القرآن مع النظر العقلي الحر، أو القول بأنه كان من أهم العوائق التي حالت دون تقدم المسلمين في مجال الفلسفة! ففي كتابه «القرآن والفلسفة» يؤكد محمد يوسف موسى (توفي 1963) مجموعة من الأمور المهمة في مقدمتها القول: إن القرآن الكريم كان المصدر الأول، أو الأصيل، الذي استوحاه المتكلمون في صياغة آرائهم ومذاهبهم الكلامية على اختلافهم وتنوعهم، ولكنه كان مع ذلك حاجزا دون نوع آخر من التفكير، ذلك الذي كان عماده الفلسفة الإغريقية، وأنه لم يُدرس من هذا الجانب - جانب معارضة ومقاومة الفكر الوثني - بعدُ الدراسة الوافية التي يجب أن يقوم بها المتخصصون، كما لم يفد منه المشتغلون بعلم الكلام قديما الفائدة الكاملة.
والواقع أن قضية «التوفيق بين الدين والفلسفة» شغلت مساحة مهمة من اهتمامات وكتابات رواد النهضة بصورة عامة، والدكتور محمد يوسف موسى بصفة خاصة، حيث توزعت على أغلب أعماله الفلسفية، فضلا عن أن اهتمامه بها يعود إلى مرحلة مبكرة نسبيا من حياته. ففي عمل من أول أعماله المطبوعة (كتابه عن «ابن رشد الفيلسوف») نجده يتحدث عما سماه «إحساس فيلسوف قرطبة برسالته الخاصة» ألا وهي: «الانتصافُ للفلسفة وردّ الاعتبار لها وإحياؤها بعد ما لقيت من الغزالي، والتوفيق بينها وبين الدين أو الشريعة»، معقبا على ذلك بالقول: «وتلك الرسالة أسمى الرسالات التي يندبُ لها نفسه فيلسوف متدين، وهي مع هذا رسالة جعلتها أمرا لازما الظروفُ التي اجتازها التفكيرُ الإسلامي قبل ابن رشد وكان يجتازها في عصره أيضا». ولا شك عندي أن الجهود الخارقة التي بذلها فيلسوف قرطبة من أجل التوفيق بين الدين والفلسفة، أو الحكمة والشريعة، جاءت متممة لجهود سابقة عليه ابتداءً من الكندي، أول فلاسفة الإسلام، ومرورا بابن سينا والفارابي، وليس انتهاء بكل من ابن باجه وابن طفيل. ومن ثمة؛ فإن حالة كهذه، تلك التي وجد فيها فيلسوفنا، كانت تتطلب بلا ريب مَن يعمل بقوة على الانتصاف للفلسفة وإحيائها والتوفيق بينها وبين الشريعة. وقد كان ابن رشد نفسه هو المُرجّى لهذه الرسالة؛ حيث جمع بين الاستعداد لها من جهة، والحظوة لدى أمير يشجع على الفلسفة ويقرب رجالها من جهة أخرى. وبالتالي؛ فإن تلك المحاولة كانت من أهم الوسائل التي انتهجها فيلسوفنا لتحقيق الرسالة التي ندب نفسه لها، فضلا عن أنها تمثل معقد الطرافة في الفلسفة الإسلامية؛ على نحو ما يقول ليون جوتييه في كتابه سابق الذكر. على أنه من الحق أن نقرر أيضا أن محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة لها أصلها الإغريقي الذي لا ينكر؛ وأن محاولات فلاسفة الإسلام في سبيل التوفيق بين هذين الطرفين مسبوقة بمحاولات كثير من رجال المذاهب الفلسفية في العصر القديم. فالباحث في تاريخ التفكير الديني والفلسفي يلاحظ أن المدارس الفلسفية كافة تقريبا في ذلك العصر قد احتفظت بمكان صغير أو كبير للعناية بالمسائل الدينية، كما حرصت على تأكيد ما للدين من فائدة خلقية واجتماعية؛ وأخيرا يلاحظ نزعة لتأسيس علاقة طيبة بين الدين والفلسفة تزداد قوة لدى فيلون Philon اليهودي، وأمثاله من متفلسفي مدرسة الإسكندرية، وكذلك لدى بعض آباء الكنيسة المسيحية.
أما في الإسلام؛ فإن الذي يَفهم الإسلام وروحه وتعاليمه، التي تدعو للأخذ بالوسط في كل الأمور، وتوجب الإصلاح بين المتخاصمين والتوفيق بين المتنافرين؛ والذي درس تاريخ الإسلام ـ خاصة ما يتعلق بجوانبه العملية– فإنه يصل إلى قناعة تامة بأن روح التوفيق هذه كانت طابعا للمسلمين في كل الفروع النظرية تقريبا، وأنه كلما وجدت مذاهب مختلفة أو متعارضة، وجدت مذاهب متوسطة تحاول التوفيق بينها وتصل بين ما تباعد منها، وأن التاريخ قديمه وحديثه شاهد على صحة ذلك. ففي علم الكلام – مثلا ـ نجد مذهب الأشعري وسطا بين مذهب السلف القائم على التسليم بما جاء به القرآن والحديث من غير تعرض لتأويله تأويلا عقليا، ومذهب المعتزلة الذي يقوم على التأويل. وفي الفلسفة نصادف محاولة الفارابي للتوفيق بين أفلاطون وأرسطو، كما نلاحظ أن من مميزات المشائين العرب نزعة التوفيق بين كثير من المذاهب الفلسفية السابقة بصفة عامة.
ومن الحق أيضا، أن نقرر أن الفلاسفة المسلمين قد التزموا في هذه الناحية ـ ناحية التوفيق بين الدين والفلسفة ـ طريقة واحدة، وإن اختلفوا في التفاصيل بعد اتفاقهم على الأصول؛ كما أنهم تأثروا في ذلك، كما سبق وأشرنا، بفلاسفة الإغريق الذين واجهوا نفس المشكلة واضطروا إلى معالجتها وحلها.
ومع أن الشيخ موسى قد ساهم بدوره في عملية التوفيق هذه؛ إلا أنه وقع في مجموعة من الأخطاء المنهجية والموضوعية؛ وتلك سمة عامة تميز الحلول الوسطى بصفة خاصة. فعلى سبيل المثال؛ تبدو فكرة «الكسب» التي اضطُرَّ الأشاعرة إليها لحل مشكلة العمل بين الله والإنسان فكرة غامضة خفية؛ فضلا عن أنها لا تُقنع العقل غير المتعصب لمذهب خاص، ولذلك جاء في المثل: «أخفى من كسب الأشعري!» دلالة على أن هذا الشيء، مضرب المثل، خفي لا يكاد يُدرك أو يُفهم. ومسألة كتلك - أعني نسبة الإرادة والفعل إما إلى الله أو إلى الإنسان - لا يصح فيها تبني الموقف الوسط، لأنها لا تحتمل سوى أحد أمرين: إما أن ننسبها إلى الله ومن ثم نقول بالجبر، أو إلى الإنسان وبالتالي نقول بالحرية الإنسانية، على حين تبوء جميع محاولات التوفيق بين هاتين النظريتين بالفشل الذريع.. وتلك قضية أخرى!
* كاتب مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق