نحو تجديد الحضارة الإسلامية
د. عيسى الغيث
جميع أبناء الأمة الإسلامية الذين يبلغون أكثر من مليار ونصف المليار، ويمثلون ربع البشرية اليوم، يفخرون بتاريخهم، ولكنهم لا يقبلون بواقعهم اليوم، ولذا فلا بد من السعي نحو تجديد منطلقاتنا ووسائلنا والتقييم الدائم للتقويم المستمر، وجميع ذلك لتجديد تلك الحضارة الإسلامية التي لم تكن عالة على غيرها، ولم تكن ملعبا للآخرين وأبناؤها في المدرجات لا يملكون إلا التصفيق أو البكاء.
وإذا أردنا أن نضع اليد على الأسباب الموصلة للظاهرة المتهالكة للواقع المعاش، وذلك بغية المبادرة بالعلاج، فلا بد حينها من المصارحة قبل المصافحة على عقد تجديد الواقع، وفي نظري أن المسؤول عن ذلك مجموعة القائمين على البلاد والعباد، وعلى رأسهم السياسيون وعلماء الدين، حيث نجد أن الحاكم يتحفظ في التجديد خشية من الجمهور المعزز بتوجه سائد يقوده تيار تقليدي ولو كان حركيا له أفكاره وحساباته الخاصة التي يضيف عليها في كثير من الأحيان القداسة السماوية، وما هي إلا مكاسب أرضية، وفي الجهة الأخرى يتحفظ بعض العلماء في التجديد خشية من نفس الجهة الأولى، ولهذا فلا مناص من تعاون بين الفئتين على الإرادة السياسية (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) والعزيمة الشرعية التي أمرت بالتجديد والاجتهاد بما يحقق مصالح العباد بلا تجاوز على الثوابت.
وحتى لا يكون كلامنا مغرقا في التنظير فلا بد من ذكر نموذج واقعي أثبت وجوده على أرض العيان، وهو النموذج الماليزي للإسلام الحضاري، فتراه حقق مصالح الدين والدنيا، وأصبح للأمة الماليزية قيمتها وقدرها ومصالحها الدينية والدنيوية، وكذلك نجد الكثير من النماذج الأخرى، كالنموذج السنغافوري.
ولا يمكن تحقيق هذه الحضارة الجديدة إلا بدعم «موجب» من السياسيين، وكف «سالب» من الشرعيين، فالسياسي يفتح الباب، والشرعي لا يقف عقبة أمام المسيرة، ويكفي منه ذلك.
إنني على يقين جازم بأن وطننا العربي يزخر بأمثال مهاتير محمد وعبد الله بدوي وأنور إبراهيم، ولكن يبقى أن تعليق الجرس هو واجب السياسي الذي يختار مهاتير العربي الوطني الذي يخطط وينفذ بفاعلية وتكاملية بين المراحل والأشخاص، وكذلك واجب الشرعي أن لا يقف عقبة أمام ذلك بدعوى المحافظة على الثوابت، في حين أنها من المتغيرات.
من حقي وحق كل مواطن عربي أن يتساءل: لماذا تقدمت ماليزيا وتخلفت غيرها من الدول العربية والإسلامية؟، مع أنها لم تتنازل عن هويتها الإسلامية وثوابتها الدينية ولغتها القومية وتقاليدها الوطنية! ومن المفارقات في تعليمنا الديني على مدار جغرافيا الوطن العربي ترداده لمقولة أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ولكن ما أن تباشر تطبيق هذه القاعدة الجميلة حتى تتخطفك بعض الأيادي المعارضة بدوافع دينية مدعاة، وليس الأمر من علماء مستقلين أو أفراد غير مؤدلجين أو ردود أفعال عفوية من النخب والمثقفين، وإنما من جماعات وحركات فرضت على الغالبية آراءها واجتهاداتها الحزبية، ولذا تولدت عندنا في البلاد العربية العديد من التنظيمات المتطرفة التي قامت بالتكفير ومن ثم رفع السلاح والإرهاب، وما نعيشه اليوم في مسرح هذه المجموعات أكبر دليل على هذا التخلف الفكري الذي تسبب بتخلفنا الحضاري.
سؤال النهضة الدائم الترداد: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ نردده منذ أن كنا صغارا في مدارسنا ومحاضننا التربوية، ولكننا حينما أفقنا، إذا بنا نرى هذه الحركات التي نفخت في عقولنا تلك المقولات، هي نفسها وقفت في طريق الحضارة، وذلك تحت دعوى المحافظة على الثوابت، وحينما يتم الحوار على ماهية هذه الثوابت فإذا بها اجتهادات فقهية وآراء فكرية وليست من الأصول والكليات، ولذا تجد السياسي لا يحرص كثيرا على التطوير، وإذا عزم عليه في مرحلة من المراحل وجد من يقف في طريقه، فلا هم بالذين بادروا بالنهضة، ولا هم بالذين تركوا غيرهم يبادرون بها.
ولو قلبنا النظر في النموذج التركي الحالي، لرأينا كيف استطاع النهضة بحضارته القومية وخلال وقت قصير، وفي نفس الوقت زادت المحافظة على الثوابت، بل واتهم كثيرا بمقاومة العلمانية، ولذا فلا يلزم أن يكون العمل صافيا كاملا، لأن الواقع أشد ضياعا وضلالا وظلما وتخلفا في بلادنا العربية والإسلامية، ونجد أن علماء أصول الفقه قد عالجوا مثل هذه المسائل بكل شفافية وثقة، وذلك حينما فرقوا بين المصالح والمفاسد، وبين المصلحة الكبرى والصغرى، والمفسدة الكبرى والصغرى، وأنه يجوز - وربما يجب - الوقوع في مفسدة صغرى لدفع مفسدة كبرى، وكذلك تفويت مصلحة صغرى لجلب مصلحة كبرى، وجميع هذه التنظيرات موجودة في الجامعات والمرجعيات العلمية، ولا نجد من يجادل فيها من الناحية النظرية، والجميع يسلم بها، ولكن ما إن تبادر في تطبيق هذه الأصول والقواعد والمقاصد العظيمة، حتى تجد ممن هم أهل هذا العلم من يبادرك بالهجوم وأنك تسعى لتغريب الأمة وتجاوز الثوابت، وهكذا، في سلسلة لا تنتهي من تبريرات مكررة ومملة.
ومن ذلك مثلا تطوير التعليم، فتجد الجميع ينقدون مناهجهم ويدعون لتطويرها، وما إن يبدأ قطار التجديد حتى يبدأوا بالمقاومة والممانعة والتهويل تجاهه، وقل مثله في تطوير الصحة والعمل والحقوق المدنية ونحو ذلك.
وفي النموذج السعودي يمكننا ذكر نموذج قريب، وهو فرح العرب والمسلمين بإنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وقل مثله في نمو الجامعات من ثمانٍ وحتى ضعفيها، حيث بلغت أربعا وعشرين جامعة حكومية إضافة للأهلية، وكذلك ابتعاث ما يصل لمائة ألف طالب وطالبة على حساب الدولة، إضافة لعشرات الآلاف على حسابهم الشخصي، كما شملت الجامعات المحافظات والقرى، وفي الرياض مثلا بلغ عدد كليات الطب خمسا بعد أن كانت واحدة يتيمة وعلى مدى عقود طويلة، وهكذا في مشاريع تطويرية على شتى الأصعدة، ومنها مشروع الملك عبد الله لتطوير مرفق القضاء، الذي رصد له سبعة مليارات ريال، إضافة للميزانيات المعتادة، وصدر بذلك نظام القضاء الجديد ونظام ديوان المظالم، وقريبا سيصدر نظام المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية ونظام المرافعات لدى ديوان المظالم، إضافة لجهود كبيرة تقوم بها وزارة العدل في تطبيق المشروع، وعلى شتى الأصعدة العمرانية والتقنية والعلمية والفنية، ومن أبرز التطويرات صدور قرار هيئة كبار العلماء بجواز التقنين تحت اسم التدوين وبطريقة محددة، حيث سبق تقنين الولايات والتخصص فيها مكانيا ونوعيا، وتقنين الإجراءات كنظام الإجراءات الجزائية، وتقنين وسائل الإثبات كالوارد في نظام المرافعات الشرعية، وتقنين العقوبات كالوارد في نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، وبالتالي فالتقنين فعليا ممارس على أرض الواقع وبجميع أنواعه الإجرائية والفنية والموضوعية، ومن التقنين قرار هيئة كبار العلماء بقتل مهرب المخدرات والمروج للمرة الثانية، وهذا من التقنين الصريح المبني على الأصول الشرعية، وبالتالي يقاس عليه غيره، ولم يبق سوى بعض الشواغر التقنينية كالمسائل الحقوقية المدنية والأحوال الشخصية وما تبقى من الأفعال الجرمية والأحكام الجنائية والعقوبات الجزائية.
إن من حقوقنا بل وواجباتنا أن ننهض بحياتنا، ونجدد حضارتنا، ونبادر بالإرادات العازمة، ونؤيد ونساعد العزائم الحازمة، فيكفي ما نعيشه اليوم في وطننا العربي والإسلامي من تخلف في دنيانا تسبب في تسلط على ديننا، فهل نتأمل الحال قبل المآل، ونسعى نحو تجديد لحضارتنا الإسلامية، التي كانت مصدر فخرنا وعزتنا، وليست مجرد اقتيات نتذكره ولا نكاد نعيده.
* القاضي في وزارة العدل السعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق