الاستشراق الأميركي والشرق الأوسط والدراسات الإسلامية
رضوان السيد
للمرة الواحدة بعد الألف، يصدر كتاب في الولايات المتحدة عن الاستشراق لدونالد ليتل. لكن المقاربات الأميركية لهذا الموضوع تختلف اختلافا كبيرا عن مثيلاتها في أوروبا اليوم؛ ففي حين يعنى الأوروبيون بالدراسات عن الإسلام الأصولي والسياسي، يعنى الأميركيون بالدراسات عن الشرق الأوسط في الولايات المتحدة. وكلا النوعين من الدراسات والبحوث لا علاقة له بالاستشراق الذي نعرفه، الذي دأب اليساريون ثم الإسلاميون على إدانته. فالاستشراق موضع النقد، والنقض هو ذاك الذي كان يعنى (ولا يزال) بالدين الإسلامي، والنصوص الإسلامية (وبخاصة القرآن)، والتاريخ الإسلامي، والحضارة الإسلامية. فهو استشراق تاريخاني وثقافي، ويهتم بمسائل الحضارة قديما وحديثا بالدرجة الأولى. أما الدراسات الأوروبية (وبعض الأميركية)، فهي - كما سبق القول - دراسات ميدانية وشبه ميدانية، وهي تعمل بالتنسيق مع سياسات الدول، وهمها دراسة أو بحث تأثيرات تيارات الصحوة على العرب والمسلمين مجتمعات ودولا، كما تهتم بالتطورات داخل الجاليات الإسلامية في أوروبا بلدانا وثقافات. وفي الولايات المتحدة اليوم دراسات كثيرة عن الإسلام القديم والجديد، لكن هؤلاء الدارسين لا يسمونها استشراقا، بل يسمونها كما هي بالفعل: «دراسات إسلامية».
أما الكتاب الذي نقرؤه اليوم للأستاذ دونالد ليتل، وعنوانه: «الاستشراق الأميركي، والعلاقات المضطربة بين أميركا والشرق الأوسط منذ عام 1945» فليس استشراقا على الإطلاق بالمعنى الذي عرضناه سابقا؛ بل يدخل في الدراسات الشرق أوسطية، التي ازدهرت في الولايات المتحدة منذ أواخر الخمسينات من القرن العشرين، إبان اشتعال الحرب الباردة. ولذلك لا يصح على الإطلاق إطلاق اسم الاستشراق عليه! فما أعلنت الولايات المتحدة عن نفسها باعتبارها قوة عالمية في الحرب الأولى (رغم مشاركتها في أواخرها)؛ بل أعلنت عن ذلك في الحرب الثانية، حين شاركت عسكريا في ضرب النازية، ثم اتجهت بعد تنامي مصالحها البترولية والاستراتيجية، إلى وراثة البريطانيين والفرنسيين في «الشرق الأوسط والخليج»، ومصارعة الروس والسوفيات، انطلاقا منه أو منهما، كما من خلال أوروبا، وشرق وجنوب شرقي آسيا.
ومع أن أقسام الدراسات في الجامعات الأميركية، ظل اسمها: «دراسات لغات الشرق الأدنى وحضاراته»؛ لكن الواقع أن تلك الأقسام أو الدوائر «انقسمت» إلى جزأين انقساما حادا: أساتذة يعنون باللغات والثقافة والدراسات التاريخية الكلاسيكية، وأساتذة يعنون بالمسائل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط المعاصر. وللإنصاف؛ فإن أساتذة الشرق أوسطيات هؤلاء، كانوا وما يزالون في أكثريتهم معارضين للسياسات الأميركية في منطقتنا، منذ الحرب الباردة حتى اليوم. ولدى هؤلاء أن السياسات الأميركية تلك حركتها دائما ثلاثة عوامل: الصراع في الحرب الباردة، ودعم المواقف الإسرائيلية، وأخيرا: الحرب على الإرهاب. ولذلك فإن كثرة من هؤلاء تعتبر أن تلك السياسات كانت وما تزال وراء الاضطراب في المنطقة، بل وراء ظهور الأصوليات وتفاقمها. وقد بلغ من غضب «الاستشراق الصهيوني» على هؤلاء أن سموهم: «جماعة إدوارد سعيد»، بسبب كتابه المعروف: «الاستشراق» الصادر عام 1978.
ماذا عن كتاب دونالد ليتل؟ يدرس ليتل في كتابه الجديد (2009) السياسات الأميركية تجاه المنطقة العربية، كيف ظهرت، وكيف تطورت، وكيف استجابت للتحديات التي رأت فيها تأثيرا على مصالح الولايات المتحدة في الحرب الباردة وبعدها. وما يذكره دونالد ليتل حدث بالفعل، لكن الدارسين الاستشراقيين والشرق أوسطيين لم يؤثروا فيه بالسلب أو الإيجاب. فصانعو تلك السياسات كانوا ولا يزالون من رجالات الرئاسة ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع، وبعض المنظرين الاستراتيجيين، وليس بينهم مستشرق أو دارس شرق أوسطي واحد. وقد نبهنا إدوارد سعيد (من قبل)، وزكاري لوكمان (من بعد) إلى تأثير محتمل للمستشرق المعروف برنارد لويس. وبرنارد لويس الذي يذكره إدوارد سعيد أواخر السبعينات، كان ما يزال يعمل في بريطانيا، وعندما انتقل للتدريس بجامعة برنستون زادت دراساته عن الإسلام المعاصر، ونزل إلى السوق مطلع التسعينات بتشخيصه للغضب الإسلامي، وصراع الحضارة الإسلامية مع الغرب. ويقال إنهم أتوا به إلى البيت الأبيض لتشجيع الرئيس بوش على غزو العراق (عمره الآن يزيد على التسعين). وقد يكون ذلك كله صحيحا، لكن بالتأكيد، لا يمكن نسبة السياسات الأميركية تجاه العراق منذ عام 1990 حتى عام 2003 إليه، ولا إلى غيره من المستشرقين القدامى أو الجدد.
ماذا قال ليتل في كتابه بالفعل؟ لقد مهد لذلك بمقولتين: إن الولايات المتحدة هي بنت الثقافة الأوروبية. وإن «الثقافة» تؤثر في السياسة في أميركا أكثر بكثير من تأثيرها في أوروبا. وبالنسبة للشرق الأوسط؛ فإن أفكار الأوروبيين (والأميركيين) عن الشرق والإسلام مأخوذة من ألف ليلة وليلة، وقد أورث الكتاب وأمثاله أفكارا خاطئة عن العرب والمسلمين، صارت انطباعات ثابتة لدى المجتمعات المثقفة، فأثرت في السياسات. إنما عندما بدأ الحديث عن السياسات الأميركية تجاه المنطقة، ما عاد لشيء من ذلك. بل تحدث - كما سبق القول - عن تأثيرات الحرب الباردة، والتدفقات النفطية، وأهميتها بالنسبة للولايات المتحدة، والحلول محل الاستعمار القديم. ثم درس الاتجاهات التحررية والاستقلالية بين العرب بعد الحرب الثانية، وذكر دور مصر وجمال عبد الناصر، والصراع العربي - الصهيوني. ثم لاحظ الانعطافة التي حدثت في سياسة مصر بعد عام 1967، ثم وفاة جمال عبد الناصر، فاستغلال الولايات المتحدة للإسلاميين العرب وغيرهم، في مصارعة السوفيات في أفغانستان، ثم السياسات الأميركية تجاه العراق وصدام وإيران، وصولا إلى ما نعرفه من حروب شاركت فيها الولايات المتحدة مباشرة، وما تزال.
ليست المسألة هنا خطأ حصل في عنوان الكتاب، بل ربما كان الأكثر من ذلك اعتقاد المؤلف أن الثقافة تؤثر في السياسة. وثقافة الساسة الأميركيين تجاه الإسلام والعرب - فيما يعتقد - كانت سلبية، وأورثت تأثيرات غير مباشرة على ما كان وتطور من سياسات. وبهذا المعنى يرى المؤلف أن الأميركيين تعاملوا مع الشرق والعرب تعاملا استشراقيا؛ أي فيه استخفاف بثقافة منطقتنا وأعرافها وأشواقها التحررية والاستقلالية. وهو بذلك يأخذ بمفهوم إدوارد سعيد للاستشراق منذ القرن التاسع عشر، إن لم يكن قبل ذلك.
والذي أراه أن الاستشراق الكلاسيكي العالِم ما كان بهذا السوء أو السطحية. أما الاستشراق المعاصر المعني بحاضر الإسلام السياسي، ففيه السلبي والإيجابي. وسلبياته على أي حال ما كانت لها تأثيرات على الساسة والسياسة في الولايات المتحدة، لا بالمعنى المباشر، ولا بالمعنى غير المباشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق