مع منتصف التسعينات، أصبح الصّدام بين السلفيين وأصحاب الطرق الصوفيّة جزءاً لا يتجزّأ من الحياة الدينيّة في جمهوريّة داغستان. الصّدام بين الطرفين أخذ مظاهر عدّة، ابتداءً بالحرب الهجوميّة الكلاميّة والاتّهامات المتبادلة من الخروج عن الدين وانتهاء بالصّدام المباشر في العديد من المدن والقرى، بما فيها العاصمة "محجّ قلعة". أساسيّات هذا الصّدام كانت عدم وجود أيّة بوادر على الاعتراف بالآخر، ومحاولة احتكار الحقيقة، واعتبار الآخر خارجاً من الملّة والدّين. وبالرّغم من هذا العداء المستشري بين الطرفين، إلا أنّ ذلك لم يمنعهما من التوحّد ضدّ الإدارة الروحيّة المركزيّة في عام 1989، وطالبا بليبراليّة الحياة الدينيّة في المجتمع، والابتعاد عن احتكار الإدارة الروحيّة للمسلمين في داغستان للعمل الدعويّ. ولكن بمجرّد تنحية المفتي غيكييف عاد الطرفان إلى الخلاف حول تقسيم مراكز النفوذ في الشؤون الدينيّة داخل المجتمع. الصراع مفتوح الباحث في شؤون القوقاز رسلان قوربانوف أشار "إلى أنّ الصّراع المفتوح بين الطرفين كان في عام 1994م، يوم ترسّخت غالبيّة المراكز القياديّة الدينيّة في يد مريدي الشّيخ سعيد أفندي، والذين حاولوا اللعب بورقة الوهابيّة لإبعاد السلفيين عن طريقهم وتقوية مكتسباتهم السياسية والضغط على الحكومة وجميع فروع السلطة في الجمهورية". في تلك الفترة، اتّهم السّلفيّون بفرض أفكارهم على المجتمع، وبمحاولة القضاء على الإسلام "التقليديّ"، وعلى كلّ ما يتعلق بالأخلاق والتقاليد الموروثة. بل وصل الحال إلى نشر أخبار عن وجود أسلحة لدى السلفيين، وأنّهم يحاولون بذلك زعزعة الاستقرار وفرض أفكارهم بالقوة. كما اتّهم السلفيون بحصولهم على أموال من دول خليجيّة لفرض ما أسموه بـ "إسلام الدولار" الذي لا يسعى إلى القطيعة بين المجتمع وتراثه وتقاليده فقط، بل يسعى إلى زعزعة "الأمن القوميّ" في الجمهوريّة. تواصل الصّراع وأخذ مظاهر عدّة، إلى أن وصل إلى الصدام المباشر، ففي أغسطس عام 1995 وعلى إثر صدامات، استعملت فيها الأسلحة الخفيفة، بين الصوفيين من مدينة كيزيليورت وأتباع أحد الأئمّة السلفيين، قتل شخص وجرح آخر، وفي شهر نوفمبر من نفس السنة، تمّ الاستيلاء على مسجد بناه السلفيّون بأموال خليجيّة في العاصمة محج قلعة. يقول الباحث قوربانوف "إنّ محاولات جمع الطرفين على طاولة الحوار زادت من حدّة المشكلة، حيث اعتبر الصوفيون أنّ هذا الحوار مكّن السلفيين من طرح أفكارهم على الملأ، وهو ما لم يرضِ الصوفيين؛ وزاد من حدّة المشكلة بين الطرفين محاولة زجّ السّلطات الأمنية والسياسيّة، بل حتّى جماعات “المافيا” في هذا الصراع، ما جعل الجماعات السلفيّة تؤكّد لأتباعها أنّ الصوفية تعادي بالفعل الإسلام "الصحيح"، مع أنّ بعض قادة السّلفيين رفضوا تكفير الصوفيين بجميع أصنافهم. هكذا تفرّق المجتمع وأصبحت المساجد تُقام فيها جماعتان، وتفرّق صفّ المسلمين إلى صوفيين ووهابيين، وتوسّعت الهوة بين الطرفين إلى حدّ بعيد. تبادل الطرفان التكفير في ما بعد، وأصبح الصّراع مفتوحاً على كلّ الجبهات وعلى كلّ الصّعد. التطرف داخل السلفية! قبل عام 1997 اكتفت الجماعات السلفيّة بتوجيه انتقادات كلاميّة للسلطة القائمة، وبعدم الدخول معها في صدام مباشر. الشيخ بهاء الدين، شيخ السلفيين في جمهوريّة داغستان، صرّح في العديد من المرّات أنّ الهدف الأساسيّ من عملهم هو إنشاء دولة إسلاميّة في الجمهوريّة، ولكن ذلك ليس ممكناً الآن، لعدم وجود كوادر، لا في المجتمع الداغستانيّ ولا بين الجماعات الإسلاميّة. كما وجّهوا انتقاداً صريحاً للحركة السريعة التي شهدتها جمهوريّة الشيشان في أسلمة المجتمع، وفرض العديد من القوانين التي لا يقبلها المجتمع المحليّ. فأكّد شيوخ السلفيّة في داغستان أنّ "هذا التسارع لن يولّد إلا نظاماً دكتاتوريّاً، ودولة ديكتاتوريّة"، واعتبروا أنّ الفترة الحاليّة إنّما هي فترة دعوة وليست فترة حكم. وقد حاول السلفيّون أن يقننوا أنشطتهم من خلال تسجيل مدرسة "الحكمة" في كيزليورت عام 1991، وفي عام 1996 المركز السلفيّ الإسلاميّ في "القوقاز" بفروعه في العاصمة محج قلعة ومدينة كيزليورت. أمّا عن الأسباب التي أدّت إلى التصادم مع السلطات المحليّة فيقسّمها المتخصّصون إلى أسباب عدّة، يمكن تلخيصها في ما يلي: · الاتجاه الأيديولوجيّ الذي نقل الأوضاع إلى المعركة المسلحة بتأثير السلفيّة الجهاديّة المؤمنة بالتغيير بقوّة السّلاح، وليس من خلال الإقناع. فالسّلفيون الجهاديّون يمثلون توجهاً داخل السّاحة الإسلاميّة، عرف أصحابه بالصّدام المسلّح والمباشر مع السلطات الحاكمة. ثم إنّ هذا السبب الأيديولوجيّ كان يجد له من داخل الجماعات من يؤصّله على اعتبار أنّه طريقة النبي محمد (ص) في حربه مع الكفّار، بعد 13 سنة من الدعوة... · التأثير الذي جاء من المجموعات المتطرّفة المتواجدة في ذلك الحين في الشيشان، والتي كانت تدعو "إخوانها" الداغستانيين إلى السير على منوالهم ورفع السّلاح في وجه السلطة، وبناء "الدولة الاسلاميّة" المنشودة. كلّ هذه الأسباب ربّما تعطي توجّهاً عامّاً لحركة التطرّف التي شهدتها الجماعات السلفيّة الداغستانيّة. طريق اللاعودة وفي هذا المقام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصّراع أخذ أبعاد اللارجعة بعد الأحداث التي حصلت في 12 مايو 1997 في قرية "كرماخي"، حيث تحوّل من مجرّد مشادات كلاميّة إلى تراشق بالأسلحة، قتل فيه شخص وجرح آخرون. الإشاعات التي انتشرت بعد تلك الحادثة بأن "الجماعات" تملك أسلحة كثيرة ومسلّحين مدرّبين، جعلت السلطة تتحرّك بقوّاتها الأمنيّة نحو تلك القرية، وتقف ضمنياً في صفّ أتباع الطرق الصوفيّة، وأصبحت هذه القوات النظاميّة جزءاً من المشكلة ما أدّى إلى تفاقمها، بالرغم من تدخّل العديد من الشخصيّات الهامّة لوأد الفتنة في مهدها. التحركات الأشد من قبل السلطة ضد "الجماعات" كانت بعد دخول المجموعات المسلّحة الشيشانيّة بقيادة باساييف، وتلك التابعة لقائد المجموعات العربيّة في الشيشان "خطّاب" في 23 ديسمبر 1997، والحديث غير المؤكّد عن مشاركة السلفيين من قرية "كرماخي" في العمليات المسلحة ضد القوات النظامية. كل ذلك رفع من حدة التوتر ودفع السلطات إلى اتخاذ قرارات متسارعة، فبدأت بغلق مركز "القوقاز" واعتقال مديره محمد شافي بتهمة تخزين أسلحة، وعدد آخر من أفراد "الجماعة" وتعرّضهم للمسائلة . · تحرّك عدد من السلفيين وعلى رأسهم الشيخ بهاء الدين إلى الشيشان، حيث أُعلِنَت الحرب على السلطة في الداغستان في 25 يناير 1998 في بيان صدر حينها عن الجماعات السلفيّة المجتمعة في مدينة "غودرميس" الشيشانية. التطرف القادم من الخارج يكثر الحديث في أروقة السلطة حول دور المؤسّسات الإسلامية الخارجيّة والجماعات في رفع وتيرة التطرّف بين الجماعات الداغستانيّة. كما يذكر دور القائد الميدانيّ العربي "خطّاب" ومن معه في زيادة تطرّف الجماعات الإسلاميّة الداغستانيّة... كذلك دور الشباب العربي الذي شارك في الحرب الشيشانيّة الثانية، لا ينكره أيّ مراقب للشأن القوقازيّ، فقد أكّد الباحث رسلان قوربانوف أنّ هذه المجموعات كان لها الأثر في تصعيد العلاقة بين السّلطة والجماعات السلفيّة، من خلال الفتاوى التي كانت تصدر من قبل عدد من العرب المتصدّرين للفتوى بين المقاتلين الشيشان...
العامل الشيشانيّ لكنّ المراقبين يتّفقون تقريباً على أنّ الدور الرئيسيّ في عملية تطرّف الجماعات السلفيّة في داغستان، كان العامل الشيشانيّ، بعد أن التحق في 1995-1996 العديد من المتطوّعين السلفيين الداغستانيين للمشاركة في الحرب الشيشانيّة ضد القوات الروسية. وأثّرت "هزيمة" الجيش الروسي في الشيشان في الحرب الأولى تأثيراً كبيراً على معنويات المقاتلين، وغرس ذلك في نفوسهم الأمل في "التخلص" من الهيمنة الروسيّة على الجمهوريّات المسلمة في شمال القوقاز، بداية من الشيشان، ثمّ تتبعها داغستان على رأس القائمة. هذا الشعور هو الذي دفع المسلحين الشيشان إلى الدخول إلى الأراضي الداغستانيّة بحجّة مساعدة ونجدة إخوانهم في العقيدة، وهو كما يرى المراقبون أدخل المنطقة في حرب طويلة المدى، كانت مختلفة بكلّ معطياتها عن الحرب الشيشانيّة الأولى. وقد أدّى الشعور بنشوة النصر في الحرب الشيشانيّة الأولى، والاعتقاد بأنّ شعوب القوقاز موحّدة في فكرة المطالبة بالحكم الإسلاميّ على أراضيها، دفع مولادي أودوغوف وشامل باساييف في 24 أغسطس/آب 1997 إلى الدعوة إلى مؤتمر حركة "الأمّة الإسلاميّة" السياسيّة في مدينة غروزني؛ الهدف الأساسيّ لهذه الحركة كان توحيد الشعوب القوقازية وتوحيد الشيشان مع داغستان في الدولة التاريخيّة الواحدة، لتنطلق منها الدعوة لتوحيد بقية الشعوب والجمهوريّات الأخرى. السلفيون الداغستانيون شاركوا بنشاط كبير في الترويج لهذه الفكرة والعمل على توحيد الشّعبين، واعتمدوا في ذلك على المساندة القوية التي يمكن أن يحصلوا عليها في حال حصل صدام مسلح مع السلطة في داغستان. ويبدو أنّ نشوة القوّة جعلت المقاتلين يُخطئون في تحليل الواقع، فالظروف التي تعيشها روسيا قد تغيّرت، ووجود رئيس الوزراء فلاديمير بوتين على هرم السلطة التنفيذية آنذاك قد غيّر من موازين القوى. الأخطاء في دراسة الواقع، جعلت المقاتلين يُخطئون في حساباتهم وتقييمهم لقوّة السّلطة القائمة، ولذلك أدخلوا المنطقة في أنهر من الدماء لم تُحقق لهم مآربهم التي اعتقدوا أنّها سهلة المنال.
إسلام أونلاين |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق