الجمعة، 3 فبراير 2012

في أعطاب الفكر الديني العربي المعاصر,

في أعطاب الفكر الديني العربي المعاصر

إميل أمين

تفرز كثير من الظواهر العربية على الساحة الدولية والإقليمية وجود إشكالية حقيقية في فهم العلاقة بين الأديان كجوهر رفيع، وبين تعايش البشر المؤمنين بها، وقد وصل اللغط إلى تجيير الأديان لتحقيق أهداف نسبية، جلها سياسي، ومن أجل مصالح فردية، حتى بات كثير من الميكانيزمات الحياتية تجري برسم الأديان، بدءا من الولايات المتحدة الأميركية، التي تستخدم الدين كمطية لتحقيق رغائبها، وإن كانت لا تفكر استراتيجيا أو تخطط بشكل ديني، وصولا إلى الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي تشهدها مصر برسم طائفي مذهبي، لا علاقة له بأبجديات العمل السياسي أو التنافس الحزبي.

والشاهد أن الانتخابات البرلمانية المصرية، قد كشفت عن وجود عطب أو أعطاب على أكثر من مستوى من مستويات الحياة الفكرية والدينية، ليس في مصر فقط بل في عالمنا العربي، أولها ذلك المتعلق بالتربية الدينية كمدخل رئيسي للتعايش الواحد، ولا نقول المشترك، وثانيها ذاك الذي يختص بالنص الديني ووظيفته في الحياة الروحية للإنسان، وثالثها إشكالية الخطاب الديني وكيف أن الفكر المحيط به له تأثير بالغ في توجيه مساره، إن سلبا أو إيجابا، لا سيما في دول لا تزال نسبة الأمية فيها بالغة الخطورة وعالية بقدر مخيف. ولعل المتابع لما جرى ويجري في بر مصر من انتخابات، يلحظ وبشدة أن منظومة العيش الواحد تتعرض وعن جد لمخاطر جمة، إذ بدا المشهد وكأنه حركة تضاد تاريخية طبيعية، لأطراف لم تعتد العيش الواحد، وهذا ما يخالف التركيبة الوطنية والعرقية المصرية الواحدة، ما يجعل علامة الاستفهام.. لماذا وأين الخطأ؟

الجواب يقودنا أول الأمر وآخره إلى المنظومة التعليمية والتربوية لا في مصر فقط، ولكن في كل ربوع الأقطار العربية.. هل هذه المنظومة تعلم أولادنا كيفية العيش الواحد؟

في دراسة قيمة للأب الدكتور عادل تيودور خوري، مدير معهد علوم الأديان المقارنة في جامعة مونستر الألمانية، يخبرنا أن التعايش هو تقدم على مرحلة التصادم والتجاذب والنزاع، وهو دليل إرادة السلام واحترام الآخر، وليس بالضرورة الموافقة على رأي الآخر، كما يعني احترام الكرامة الإنسانية وحرية الفكر وحرية الإيمان «لا إكراه في الدين»، وكذلك حرية المعتقد واختيار أي نظام، بحيث لا يخل بالأمن الاجتماعي والتربية بعمومها.

والتربية والتنشئة الدينية بخاصة عند الأب خوري في كل الأديان من مهماتها الكبرى وبدءا من مستوى الحضانة إلى مستوى الجامعة، تنشئة الذهنية الحوارية وضد الانعزالية، فهناك واجب أن ننشئ الناس هؤلاء على ذهنية الحوار. غير أن هناك معضلة تواجه هذا الحديث، وهي أن الحوار وحده لا يكفي، لا سيما تحت ضغوطات الخارج، وربما الداخل كذلك، وقد يتعثر على الطريق، فما الحل إذن؟

في الورقة البحثية المشار إليها حل ناجع، يشير إلى وجوب أن تكون هناك مبررات في الأديان، حتى نربي على الحوار ضمن أبعاد ومبادئ الدين، أي يجب أن نبحث في الدين نفسه عن المبررات حتى نصل إلى الحوار، فهناك أمور تسمى دواعي الحوار، بمعنى أننا صرنا في عالم واحد، وهذا الداعي يجعلنا نفكر بضرورة تربية النشء على الانفتاح، ووجود الأديان في حد ذاته هو مبرر للبحث في الحوار.

هل تنمي مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية الأجيال المقبلة على الحوار؟ أم أنها لا تزال تقوم على عقلية متكلسة في زمن تسقط فيه الحواجز الجغرافية بين دول العالم؟

يخشى المرء أن يكون حال التعليم في بلادنا هو المسبب الرئيسي لكثير من الأزمات الحياتية، لا سيما إذا اتسم بالمسحة الدينية الضيقة الأفق، وقد وصف المطران اللبناني جريجوار حداد المعروف باسم المطران الأحمر، لميوله الاشتراكية الخادمة للإنسانية، وليست القريبة من الشيوعية كما اتهم الرجل في مرحلة زمنية ماضية، وصف حال ذلك التعليم بالمنغلق على ذاته المهاجم غيره في كثير من الأحيان، وكان القرآن الكريم يصف هذا الواقع بهذه الآية «فتقطعوا أمرهم» أي تفرقوا في دينهم كما يفسر الجلالان «زبرا» أي أحزابا «كل حزب بما لديهم فرحون» [المؤمنون: 53].

وفي بلد مثل لبنان المتعدد الطوائف والمذاهب الدينية، تتجلى إشكالية التعليم الديني في مشاهد مؤلمة تقودنا للواقع الأليم والمعاصر، فالمسيحيون والمسلمون بحسب المطران حداد، لديهم مدارسهم الخاصة، يعلمون فيها التعليم الديني كما يظنونه التعليم الأفضل، فيحاولون أن يطوروا في المناهج والتعابير والوسائل التشويقية، ولكن يظهر أن ساعات التعليم الديني في أكثر الأوقات غير مشوقة بل مضجرة، لا سيما في الصفوف التكميلية والثانوية.

وفي المدارس الرسمية لديهم الإذن بأن يدرسوا كل فريق ساعة أسبوعيا أتباع دينهم، فيظهر هكذا الانقسام الطائفي لدى جميع التلاميذ منذ حداثتهم ويصبح المجتمع اللبناني أكثر طائفية.

من مصر إلى لبنان يتضح حقا أن هناك إشكالية كبرى ومعضلة أكبر في التمييز بين التثقيف الديني الذي يخرج لنا رجالا أصحاب عقول نافذة وأفئدة متقدة بالمودة، وبين التلقين الديني الذي يتوقف عند النصوص الدينية، بوصفها رؤى ساكنة لا تصلح لكل زمان ومكان، وبما يقطع عليها الطريق للتعاطي مع نوازل الحياة ومستجدات الأحداث.

يقودنا هذا المفترق إلى القضية الثانية، في هذه القراءة السريعة، وهي قضية النص الديني ووظيفته في الحياة الروحية والشخصية والجماعية، في المسيحية والإسلام، وتركن أهمية هذا الموضوع إلى معرفة حقيقة النص الديني وتحديد الغاية منه وانعكاساته على الإنسان كفرد وكمجموعة، فالنص الديني يطلق للتمييز بينه وبين النص البشري والتأكيد هنا على التمييز وليس التضارب أو الاختلاف.. هل من غاية أساسية للنصوص الدينية تختلف عن مجرد تطويع النصوص المقدسة لتحقيق المآرب وتأكيد المشارب الزمنية؟

حكما إن الغاية العظمى من النصوص الدينية في كل الكتب السماوية هي إيصال الحقائق إلى البشر، وهذا هو الحوار الأول والرئيسي بين السماء والأرض، بين الذات الإلهية والطبيعة البشرية، حقائق وجود الله وخلق الكون، والانطلاق منهما إلى عبادة الخالق.

والهدف الرئيسي للنصوص الإلهية تحقيق السعادة للبشر جميعا على الأرض، والمكافأة الأبدية في الآخرة، وهذا ما حدده أصوليو علم الكلام، في تعريفهم للدين إذ قالوا بأن «الدين هو وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود، إلى ما هو خيرهم بالذات».. هل للنصوص الدينية أن تكون مصدرا للفراق أو مسببا للكراهية؟

يرى جمهور علماء المسلمين أن في قوله تعالى «الرحمن علم القرآن» إشارة إلى اندماج اختلاط المفهوم القرآني والرسالي بالرحمة التي تتضمن المحبة، وذلك بأن مصدر الحب في الكون هو الله عز وجل، ولم تكن المفاهيم الصادرة عن الدين إلا حاكية عن مصدر الحب في هذا الكون... هل الأهواء ولا سيما السياسية منها حاجبة لسبر أغوار النصوص الدينية من قديم الزمان وحتى الساعة؟ أغلب الظن أن ذلك كذلك، فليست هناك ثوابت في عالم السياسة إلا ثابت واحد، وهو أنه «لا شيء ثابت في معطيات ومعارك العملية السياسية»، فلا صداقة دائمة ولا عداوة قائمة إلى الأبد، بل مصالح متصلة الحلقات، قد تنفصل أحيانا لتعود وتتصل من جديد وهكذا دواليك.. ماذا يعني ذلك؟ وإلى أين يقودنا؟

من دون اختصار مخل يمكننا الجزم بأن أواصر المحبة لا يمكن أن تكون خارج النصوص الدينية وضمن تعاليم الأنبياء المنزهة عن الأهواء والمنطلقين من مواقع الرحمة واللطف والمحبة للإنسان، والذين يعلمون ما علمهم الله مما هو دور لهم في نشر المحبة من موقع حب الله للناس، وحب الأنبياء لله وحبه لهم وحب الأنبياء للناس. كيف لنا أن نمهد الطريق لمثل هذه المفاهيم المجردة عن الذات، كي تكون حافزا على نشر المحبة بين الإنسان والإنسان، دون أن يكون النص الديني عاملا في إشعال الحروب، وتقطيع أواصر الأوطان في طريق التنازع والتشارع على مكاسب دنيوية سياسية أو مالية زائلة؟

نقرأ في الحديث النبوي المشهور: (الخلق كلهم عيال لله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله). وكلمة «العيال» هذه توحي بالمحبة والمودة بذاتها، وتدفع أتباع النبيين لأن يتعاملوا مع البشرية على أنهم عيال الله، والله يحبهم لأنهم عياله، وبالتالي فإن النفع الذي يجب أن يقدم لهؤلاء يجب أن يقوم على أساس المحبة بعيدا عن كل الآثار التي ترافق عملية النفع عادة.. لماذا إذن نقع في الخطأ، ونحول النصوص الدينية إلى أدوات حربية في معارك أرضية مع أن الحديث الشريف يذهب إلى «إذا أقدرك الله على عدو فاجعل الصفح عنه شكرا للقدرة عليه»؟

الطريق إلى فهم أبعاد المعضلة المتقدمة يمر، ولا شك، بساحة الفكر الديني والخطاب الديني، فعوضا عن رحابة الثيولوجيا والفقه، نعمد إلى ضيق المعرفة والتحزب.

وفي حقيقة الأمر نجد لإشكالية ضيق الفكر الديني أصولا في صراعات كهنة الفراعنة وآلهتهم المتعددة، ونجدها أيضا في اليهودية السابقة في التوحيد للإسلام والمسيحية، كما أن إشكالية الفكر الديني في كل الأديان، غربا وشرقا، شمالا وجنوبا، بين الأغنياء والفقراء، على حد سواء، تتمثل في النظرة الضيقة المجزئة، والعقلية الأحادية التي ترى الحقيقة من جانب واحد، وتعجز تماما عن أن ترى وجهها الآخر، وبالتالي تفتعل المعارك التي لا طائل تحتها ولا جدوى منها.

أفرزت الأيام الأخيرة في مصر خير مثال على حالة البؤس التي يعيشها التفكير الديني، فالبعض ركز على قضايا التقدم التي تمثل روح العصر الذي نعيش فيه الآن كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان واحترام العقل والتقدم العلمي والمعرفي إلى آخره، وعلى الجانب المقابل كان هناك من يجزم باسم الدين أنها قضايا من سبيل الكفر، وأنها تعارض جوهر الدين، وأنه لا خلاص للمجتمع إلا بنبذها، وأن لديه الحلول المطلقة لأوجاع الحاضر وآلام المستقبل دفعة واحدة، في عزل وإقصاء يتفقان وعقلية ملاك الحقيقة المطلقة.

من هذه النظرة الضيقة العاجزة يكون التطرف ويحدث اللبس والخلط، ونعطي تبريرا، ولو دون قصد، للأفعال الشائنة التي تحدث من قلة تفتقر إلى الدين والعلم معا، فتشوه صورة بلادنا وأدياننا وتعطي وازعا ومبررا للتدخلات الخارجية أدبيا وماديا.

يسيطر على مقدرات التفكير الديني في عالمنا العربي توجهان «المحافظة والمعاصرة»، وليس خطأ أن يوجدا، بل ربما كان الأمر مثالا على صحة المجتمع العقلية، لكن تحت شرط وهو أن يؤدي صراع الأفكار بينهما إلى نتائج إيجابية تخدم الإنسان العربي والإنسانية برمتها، من سبيل التقدم والاستنارة ووضوح الرؤيا، واكتشاف الجوانب الكثيرة المشتركة بين هذه الأفكار، وبهذا فإننا نحمي مجتمعاتنا من أزمات ومخاطر الاستقطابات الدينية المنحولة، فالمشكلة إذن هي طريقة التفكير الديني وليس في مفهوم ونصوص دينية مقدسة عند كل الأديان.

حالة القصور في الفكر الديني باتت حتما معها نتائج سلبية من قبيل تسليع الإنسان، وتستخير الأديان في معارك سياسية يسقط فيها القتلى، وينتج عنها جرحى، وتمتهن فيها الكرامة الإنسانية عبر أدوات إعلام مزيفة أو من خلال تقديم معونات غذائية للفقراء في استغلال ممجوج لحالة العوز والفقر المدقع الذي يعيشه البعض.

تبقى الأديان أساسا لكل خلق كريم ومثالا للوفاء بالعهود، ويوم يحول البعض مفهوم الدين إلى تعصب يغص بالحقد والعداء، ويبعث على النزاع والشقاق، وينتهي إلى الفتن وسفك الدماء، حينها يكون الدين قد تحول إلى طائفية، وهنا يكمن الخطر الأكبر والهول الأقرب.


ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |