رد الاعتبار.. لنظرية المؤامرة - جلال أمين - بوابة الشروق
رد الاعتبار.. لنظرية المؤامرة
جلال أمين
نشر فى : السبت 15 يونيو 2013 - 8:00 ص
آخر تحديث : السبت 15 يونيو 2013 - 11:57 ص
آخر تحديث : السبت 15 يونيو 2013 - 11:57 ص
لابد أن القارئ الكريم قد لاحظ أنه مع مرور الوقت، تزداد غرابة الأحداث التى تمر بها مصر، فإذا بكل حدث يثير الدهشة، يعقبه حدث آخر يثير دهشة أكبر، فمن قانون يسمى الصكوك الإسلامية لا علاقة له بالإسلام، إلى مشروع قانون لعزل الأراضى المحيطة بقناة السويس عن بقية الأراضى المصرية، إلى تجرؤ دولة أفريقية على إعلان مشروع يتضمن تحويل مجرى النيل دون استشارة مصر، إلى قطع الكهرباء عن الناس أثناء موسم الامتحانات دون تفسير مقبول، إلى تدهور الأمن فى الشارع وكأن استعادة الأمن مهمة مستحيلة إلى تعيين وزير غريب للثقافة يقوم فور تعيينه بأعمال أكثر غرابة، إلى صدور حكم ملئ بالمتناقضات من المحكمة الدستورية العليا، إذ ينص على أن مجلس الشورى باطل، ولكنه يمنحه الحق فى الاستمرار فى إصدار القوانين.. إلخ.
قد يلاحظ القارئ الكريم أيضا، أنه كلما زادت الأحداث المثيرة للدهشة والمستعصية على التصديق، كلما زاد ميل المفسرين والمعلقين إلى استخدام نوع من التفسيرات ينتمى إلى ما يسمى بنظرية المؤامرة. وليس هذا فى حد ذاته أمرا غريبا، إذ كلما عجز المرء عن تفسير الظواهر الطبيعية بعوامل طبيعية مثلها لجأ إلى «الميتافيزيقا»، أى إلى عوامل تنتمى إلى «ما وراء الطبيعة»، أى إلى تفسير الأحداث المرئية بأسباب غير مرئية، ومن هذا القبيل اللجوء إلى نظرية المؤامرة.
لا عجب إذن أن قرأت منذ فترة قصيرة، بضع مقالات لأستاذ مصرى مرموق فى العلوم السياسية يشرح فيها مشروعا قديما لتقسيم المنطقة العربية إلى قطع من الفسيفساء لصالح إسرائيل. كما نشرت مؤخرا صحيفة مصرية ملخصا لكتاب فرنسى حديث يشرح فيه دور قطر فيما يجرى فى المنطقة، ومقالات أخرى عن العلاقة بين الإدارة الأمريكية والإخوان المسلمين...الخ.
وأنا لا أجد أى غضاضة فى ذلك، إذ لا عيب فى الحقيقة فيما يسمى بنظرية المؤامرة إلا اسمها. «فنظرية المؤامرة» اسم قبيح لعملية عقلية مشروعة تماما، وهى البحث عن تفسير لظاهرة لايساعد فى فهمها ما نراه أو نسمعه مما يقال فى تفسيرها. لقد سمعت مرة الأستاذ الأمريكى (ناعوم تشومسكى)، الذى وصفته جريدة النيويورك تايمز مرة بأنه «قد يكون أهم مثقف على قيد الحياة فى العالم اليوم»، إذ يقول له محاوره «أليس ما تقوله الآن من قبيل نظرية المؤامرة؟» فيرد عليه تشومسكى بأن ما تسمونه نظرية المؤامرة.
قد يكون الاسم الأنسب له هو «التحليل المؤسسى»، أى البحث عن تفسير لما يحدث فى عالم السياسة والمجتمع بالرجوع إلى الدوافع الحقيقية التى تحكم تصرفات المؤسسات السياسية والاجتماعية، كالجيش مثلا، أو البنوك والشركات العملاقة، أى ما حذر منه الرئيس الأمريكى الأسبق أيزنهاور وسماه «تكتل المؤسسات العسكرية والصناعية».
ليس من الصعب أن نكتشف نوع الأشخاص المعادين «لنظرية المؤامرة»، والكارهين لها، فهناك أولا، وبالطبع، «المتآمرون» أنفسهم، الذين يجدون مصلحتهم المباشرة فى إنكار وجود أى مؤامرة أو ترتيب خفى، وفى الاستهزاء بكل من يحاول لفت النظر إلى هذه الترتيبات. لابد أن هؤلاء هم الذين ابتدعوا أو على الأقل روجوا تسميتها بهذا الاسم.
وهذا يذكرنى بالذين ابتدعوا وروجوا لتهمة «العداء للسامية»، وإطلاق هذا الاسم على كل من يتجرأ على اتهام إسرائيل أو الصهيونية بأى اتهام. وقد انتشر هذا الوصف الغريب لهذه التهمة الغريبة «العداء للسامية»، انتشارا مذهلا، حتى اعتاد الناس عليه وضمنت بعض الدول قوانينها عقابا عليها، لأسباب مماثلة، وبنفس الدرجة المدهشة، انتشر استخدام اسم «نظرية المؤامرة» لوصف أى محاولة لاستخدام العقل لاكتشاف أسباب خفية وراء الأسباب المعلنة، إذا تعارضت هذه المحاولة مع مصالح من يخفى الأسباب الحقيقية ويعلن عكسها.
ولكن هناك أعداء آخرين «لنظرية المؤامرة» غير مدبريها والمستفيدين الأصليين من «المؤامرة» أو «الاتفاق الخفى». لقد صادفت كثيرين من المشتغلين بالعلوم السياسية والاجتماعية ممن يبدون حساسية مفرطة ضد «نظرية المؤامرة»، ويدأبون على الاستهانة بها وتحقيرها. ولكن هذا الموقف العدائى من جانب هؤلاء الأساتذة ليس من الصعب تفسيره.
إن كثيرين من هؤلاء حصلوا حقا على شهادات الدكتوراه من جامعات محترمة فى علم من العلوم السياسية أو الاجتماعية، وتعبوا بلا شك خلال سنوات دراستهم فى تحصيل المعلومات اللازمة فى موضوعات تخصهم، وربما اكتشفوا خلال ذلك بعض المعلومات التى لم تكن معروفة من قبل، ولكنهم مع ذلك يفتقدون صفة أو أخرى من الصفات اللازمة لإلقاء أى ضوء مهم على الموضوعات التى تشغل الناس فى الحقيقة. إن معظمهم أثبتوا قدرتهم على تقديم إجابات صحيحة على أسئلة غير مهمة، تاركين الأسئلة المهمة لمن يحبون أن يتهموهم بأنهم «أصحاب نظرية المؤامرة».
قرأت مرة لأستاذ بريطانى تعليقا على رسائل الدكتوراه التى تقدم فى هذه العلوم، فذكر فى تعليقه أن الجامعات البريطانية، (ولا شك أن قوله هذا ينطبق على غيرها أيضا)، ربما لم تكن لتمنح اليوم مفكرا كأرسطو شهادة الدكتوراه على ما ألف من كتب، لسبب أو آخر، ولكنها يمكن أن تمنح هذه الشهادة لشخص أثبت على نحو قاطع أن أرسطو كان يسكن فى البيت رقم (10) مثلا، فى شارع معين فى أثينا، بعكس الرأى الشائع بأن رقم بيته كان (8) أو (6)!
هناك نوع آخر من أعداء نظرية المؤامرة، أفضل بكثير من النوعين السابقين. هؤلاء لا يرفضون احتمال وجود مؤامرة (أو مخطط) لا يرغب أصحابه فى الكشف عنه وقد يعرفون جيدا الفرق بين الأسئلة المهمة والأسئلة الأقل أهمية، ولكنهم بطبعهم أشخاص «عمليون لا يحبون الاستغراق فى التفكير أو الجدل إذا لم يؤد هذا التفكير أو الجدل إلى النصح بالقيام بعمل معين.
إنهم إذن يفضلون عمل أى شىء طيب، مهما كان قليل الأثر، على التفكير فى أشياء أهم بكثير ولكنها لا تؤدى مباشرة إلى نتيجة عملية. من ذلك مثلا محاولة تحديد الحد الأدنى الأمثل، أو الحد الأقصى للأجور، فى وقت يزداد فيه فى كل ساعة عدد من لا يحصلون على أى أجر على الإطلاق، ويفضلون ذلك على محاولة تحديد المسئول عن استمرار مشكلة البطالة فى مصر، أملا فى الحصول على حل لها مهما كانت صعوبة هذا الحل.
يذكرنى موقف هذين النوعين الأخيرين من الناس بالقصة الطريفة المنسوبة لجحا، إذ وقع من جحا دينار ذهبى وهو سائر فى طريق مظلم، ولكنه رؤى وهو يبحث عنه فى مكان آخر بعيد عن المكان الذى وقع فيه الدينار. فلما سئل عن سبب ذلك، قال إن الضوء هنا أقوى! إننى بصراحة أفضل البحث فى الظلام الدامس، ما دام هذا هو مكان وقوع الدينار، ومهما كان الأمل ضئيلا فى العثور عليه، على أن أحاول البحث عنه (أو أن أتظاهر بذلك) فى مكان لا يمكن العثور عليه فيه.
قد يلاحظ القارئ الكريم أيضا، أنه كلما زادت الأحداث المثيرة للدهشة والمستعصية على التصديق، كلما زاد ميل المفسرين والمعلقين إلى استخدام نوع من التفسيرات ينتمى إلى ما يسمى بنظرية المؤامرة. وليس هذا فى حد ذاته أمرا غريبا، إذ كلما عجز المرء عن تفسير الظواهر الطبيعية بعوامل طبيعية مثلها لجأ إلى «الميتافيزيقا»، أى إلى عوامل تنتمى إلى «ما وراء الطبيعة»، أى إلى تفسير الأحداث المرئية بأسباب غير مرئية، ومن هذا القبيل اللجوء إلى نظرية المؤامرة.
لا عجب إذن أن قرأت منذ فترة قصيرة، بضع مقالات لأستاذ مصرى مرموق فى العلوم السياسية يشرح فيها مشروعا قديما لتقسيم المنطقة العربية إلى قطع من الفسيفساء لصالح إسرائيل. كما نشرت مؤخرا صحيفة مصرية ملخصا لكتاب فرنسى حديث يشرح فيه دور قطر فيما يجرى فى المنطقة، ومقالات أخرى عن العلاقة بين الإدارة الأمريكية والإخوان المسلمين...الخ.
وأنا لا أجد أى غضاضة فى ذلك، إذ لا عيب فى الحقيقة فيما يسمى بنظرية المؤامرة إلا اسمها. «فنظرية المؤامرة» اسم قبيح لعملية عقلية مشروعة تماما، وهى البحث عن تفسير لظاهرة لايساعد فى فهمها ما نراه أو نسمعه مما يقال فى تفسيرها. لقد سمعت مرة الأستاذ الأمريكى (ناعوم تشومسكى)، الذى وصفته جريدة النيويورك تايمز مرة بأنه «قد يكون أهم مثقف على قيد الحياة فى العالم اليوم»، إذ يقول له محاوره «أليس ما تقوله الآن من قبيل نظرية المؤامرة؟» فيرد عليه تشومسكى بأن ما تسمونه نظرية المؤامرة.
قد يكون الاسم الأنسب له هو «التحليل المؤسسى»، أى البحث عن تفسير لما يحدث فى عالم السياسة والمجتمع بالرجوع إلى الدوافع الحقيقية التى تحكم تصرفات المؤسسات السياسية والاجتماعية، كالجيش مثلا، أو البنوك والشركات العملاقة، أى ما حذر منه الرئيس الأمريكى الأسبق أيزنهاور وسماه «تكتل المؤسسات العسكرية والصناعية».
•••
ليس من الصعب أن نكتشف نوع الأشخاص المعادين «لنظرية المؤامرة»، والكارهين لها، فهناك أولا، وبالطبع، «المتآمرون» أنفسهم، الذين يجدون مصلحتهم المباشرة فى إنكار وجود أى مؤامرة أو ترتيب خفى، وفى الاستهزاء بكل من يحاول لفت النظر إلى هذه الترتيبات. لابد أن هؤلاء هم الذين ابتدعوا أو على الأقل روجوا تسميتها بهذا الاسم.
وهذا يذكرنى بالذين ابتدعوا وروجوا لتهمة «العداء للسامية»، وإطلاق هذا الاسم على كل من يتجرأ على اتهام إسرائيل أو الصهيونية بأى اتهام. وقد انتشر هذا الوصف الغريب لهذه التهمة الغريبة «العداء للسامية»، انتشارا مذهلا، حتى اعتاد الناس عليه وضمنت بعض الدول قوانينها عقابا عليها، لأسباب مماثلة، وبنفس الدرجة المدهشة، انتشر استخدام اسم «نظرية المؤامرة» لوصف أى محاولة لاستخدام العقل لاكتشاف أسباب خفية وراء الأسباب المعلنة، إذا تعارضت هذه المحاولة مع مصالح من يخفى الأسباب الحقيقية ويعلن عكسها.
ولكن هناك أعداء آخرين «لنظرية المؤامرة» غير مدبريها والمستفيدين الأصليين من «المؤامرة» أو «الاتفاق الخفى». لقد صادفت كثيرين من المشتغلين بالعلوم السياسية والاجتماعية ممن يبدون حساسية مفرطة ضد «نظرية المؤامرة»، ويدأبون على الاستهانة بها وتحقيرها. ولكن هذا الموقف العدائى من جانب هؤلاء الأساتذة ليس من الصعب تفسيره.
إن كثيرين من هؤلاء حصلوا حقا على شهادات الدكتوراه من جامعات محترمة فى علم من العلوم السياسية أو الاجتماعية، وتعبوا بلا شك خلال سنوات دراستهم فى تحصيل المعلومات اللازمة فى موضوعات تخصهم، وربما اكتشفوا خلال ذلك بعض المعلومات التى لم تكن معروفة من قبل، ولكنهم مع ذلك يفتقدون صفة أو أخرى من الصفات اللازمة لإلقاء أى ضوء مهم على الموضوعات التى تشغل الناس فى الحقيقة. إن معظمهم أثبتوا قدرتهم على تقديم إجابات صحيحة على أسئلة غير مهمة، تاركين الأسئلة المهمة لمن يحبون أن يتهموهم بأنهم «أصحاب نظرية المؤامرة».
قرأت مرة لأستاذ بريطانى تعليقا على رسائل الدكتوراه التى تقدم فى هذه العلوم، فذكر فى تعليقه أن الجامعات البريطانية، (ولا شك أن قوله هذا ينطبق على غيرها أيضا)، ربما لم تكن لتمنح اليوم مفكرا كأرسطو شهادة الدكتوراه على ما ألف من كتب، لسبب أو آخر، ولكنها يمكن أن تمنح هذه الشهادة لشخص أثبت على نحو قاطع أن أرسطو كان يسكن فى البيت رقم (10) مثلا، فى شارع معين فى أثينا، بعكس الرأى الشائع بأن رقم بيته كان (8) أو (6)!
هناك نوع آخر من أعداء نظرية المؤامرة، أفضل بكثير من النوعين السابقين. هؤلاء لا يرفضون احتمال وجود مؤامرة (أو مخطط) لا يرغب أصحابه فى الكشف عنه وقد يعرفون جيدا الفرق بين الأسئلة المهمة والأسئلة الأقل أهمية، ولكنهم بطبعهم أشخاص «عمليون لا يحبون الاستغراق فى التفكير أو الجدل إذا لم يؤد هذا التفكير أو الجدل إلى النصح بالقيام بعمل معين.
إنهم إذن يفضلون عمل أى شىء طيب، مهما كان قليل الأثر، على التفكير فى أشياء أهم بكثير ولكنها لا تؤدى مباشرة إلى نتيجة عملية. من ذلك مثلا محاولة تحديد الحد الأدنى الأمثل، أو الحد الأقصى للأجور، فى وقت يزداد فيه فى كل ساعة عدد من لا يحصلون على أى أجر على الإطلاق، ويفضلون ذلك على محاولة تحديد المسئول عن استمرار مشكلة البطالة فى مصر، أملا فى الحصول على حل لها مهما كانت صعوبة هذا الحل.
يذكرنى موقف هذين النوعين الأخيرين من الناس بالقصة الطريفة المنسوبة لجحا، إذ وقع من جحا دينار ذهبى وهو سائر فى طريق مظلم، ولكنه رؤى وهو يبحث عنه فى مكان آخر بعيد عن المكان الذى وقع فيه الدينار. فلما سئل عن سبب ذلك، قال إن الضوء هنا أقوى! إننى بصراحة أفضل البحث فى الظلام الدامس، ما دام هذا هو مكان وقوع الدينار، ومهما كان الأمل ضئيلا فى العثور عليه، على أن أحاول البحث عنه (أو أن أتظاهر بذلك) فى مكان لا يمكن العثور عليه فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق