الدروس المستفادة من النووى الإيرانى
الضجة الكبرى التى تثار من حين لآخر حول البرنامج النووى هنا أو هناك ترتكز فى ظاهرها على الحرص على منع انتشار الأسلحة النووية، على اعتبار أنها أسلحة دمار شامل تهدد كوكب الأرض عمومًا.. ولكن الحقيقة الواضحة أن هناك أهدافاً أخرى مستترة؛ أهمها السيطرة على عملية التقدم التقني، ومنع دول الجنوب "المتخلف" من اللحاق بدول الشمال "المتقدم".. فالتقنية النووية تتطلب إجراءات وممارسات واحتياطات إدارية وعلمية وفنية فائقة الدقة والصرامة.. وغير مسموح فى المحطات النووية بأية نسبة من الإهمال أو التراخى أو التواكل أو الكسل، أو بأقل احتمال من الخطأ؛ وإن ضؤل.. وهذا من شأنه أن يوفر للدولة الممارسة لذلك النشاط جيشاً من الخبراء والتقنيين البارعين المبدعين الذين يمكن أن يكونوا جاهزين وقادرين على الإدارة الناجحة لأى عمل تقنى آخر.. وإذا علمنا أن المحطة النووية تستوعب بطبيعة الحال جميع التخصصات العلمية والتقنية والفنية والإدارية، وأن العاملين فيها يتم استبدالهم دوريًا ومبكرًا لحمايتهم من آثار الإشعاع المحتملة.. فهذا يعنى أن الدولة (النووية) تستطيع- بالاستفادة من هؤلاء الخبراء- أن تُحدث نقلة نوعية تقنية عظيمة فى جميع المجالات، كما حدث فى كل الدول النووية، وهذا بالطبع غير مرحب به من قوى الاستكبار العالمي.. كما أن الاستخدام الناجح للتقنية النووية يؤدى بالتأكيد إلى فوائد اقتصادية عظيمة من خلال توفير مصدر رخيص ونظيف للطاقة، وتحلية مياه البحر بكميات وفيرة تشجع على زراعة الصحراء، وغير ذلك الكثير.
أما قضية الأسلحة النووية فهى على أهميتها وخطورتها ليست بالضبط هى بيت القصيد.. لأنها فى الحقيقة أسلحة للردع أكثر منها للاستخدام، وهى منتشرة بوفرة فى أركان المعمورة، وتمتلكها العديد من الدول الكبرى والصغرى، ووصلت إلى دول تعتبر مارقة أو خارجة عن السيطرة الغربية مثل باكستان وكوريا الشمالية والهند.. ولم يحدث شيء على الإطلاق؛ لأن السلاح النووى لا يمكن استخدامه إلا على بُعد آلاف الأميال.. أى خارج نطاق الصراع بين الدول المتحاربة، لأن أغلب الحروب تكون بين دول الجوار.. فالتلوث الذى ينجم عن استخدام الأسلحة النووية، والذى يمكن أن يصل إلى المستخدم نفسه، يجعل من هذه الأسلحة مجرد وسيلة للتباهى بالقوة، أو لمجرد الردع والشعور بالثقة والاستقلال الفعلي.
وقد يكون الردع والتلويح بالقدرة على إيذاء العدو أحد لوازم الصراع الذى جُبل عليه النوع البشري، ولكن الإحاطة بالصورة الكاملة وبطريقة صحيحة تجعلنا نعطى الموضوع حجمه الحقيقي، ولا نسير معصوبى العينين وراء الإعلام الغربى الموجه، الذى يريد أن يثير لدينا المخاوف، بل والرعب، من البرنامج النووى الإيرانى مثلا، ولا يشير من قريب أو بعيد للترسانة النووية الصهيونية (التى لا نخشاها- بالمناسبة، لأنه يستحيل استخدامها ضد دول الجوار مادام اليهود فى فلسطين المحتلة).. فقد قامت الدنيا ولم تقعد عند الحلف الصهيونى الأمريكى لمحاولة إيران امتلاك جزء من المعارف الحديثة المهمة، وهى المعرفة النووية.. ولجأ هذا الحلف إلى الخداع وإيهام العرب بخطورة امتلاك إيران للسلاح النووي، وأنه (أى السلاح النووي) سوف يكون خطرًا على العرب أنفسهم.. فهل صحيح أن امتلاك إيران للمعرفة النووية، أو حتى للسلاح النووي؛ يشكل خطرًا على العرب؟، وهل من حق الحلف الصهيونى الأمريكى أو غيره منع العرب والمسلمين (أو غيرهم) من امتلاك السلاح النووى كأداة ردع ضد من يهدد وجودهم بترسانته النووية؟.
هناك ما يعرف بالاستراتيجية النووية، والتى تسعى الدول المستهدَفة من عدو إلى تحقيقها، وترتكز على محاور أربعة:
(1) منع العدو من امتلاك السلاح النووى (أو القدرة على امتلاكه) بكافة الوسائل الممكنة، حتى وإن أدى ذلك إلى تدمير المنشآت النووية للعدو، وقد فعل ذلك الكيان الصهيونى عام 1981 ضد المفاعل النووى العراقي، وقبلها فى أحد الموانئ الفرنسية ضد مفاعل عراقى أيضًا، وحاول ضد مصر أثناء حرب الاستنزاف ولكنه أخطأ الهدف ودمر مصنع الحديد والصلب (أبو زعبل).
(2) إذا لم تتمكن الدولة المستهدفة من منع العدو من امتلاك السلاح النووي؛ فهى تسعى لامتلاكه، وقد فعل ذلك الاتحاد السوفيتي، وباكستان، وكوريا ...إلخ.
(3) إذا عجزت الدولة عن تحقيق أحد الخيارين السابقين، فهى تحرص على امتلاك خيار بديل يصلح رادعًا لمنع العدو من استخدام سلاحه النووي، مثل الأسلحة الكيميائية أو حتى التقليدية بشرط استخدامها بكثافة على مئات المواقع فى وقت واحد بالاستعانة بالصواريخ والطائرات.. إلخ، بحيث يفهم العدو أن الرد سوف يكون موجعًا ولا قبل له به.
(4) إذا كانت الدولة (عاجزة) عن تحقيق أى من الخيارات السابقة؛ فعليها اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستيعاب الضربة النووية وتقليل الخسائر بقدر الإمكان، أى تظل على قيد الحياة، وهذا خيار العاجز.. وبالمناسبة فحتى هذا الخيار الأخير (العاجز) غير موجود فعليًا فى الدول العربية.. (ونستكمل الموضوع بالمقال القادم إن شاء الله).
والواقع أن العرب عجزوا عن مجرد التفكير فى الإستراتيجية النووية، رغم امتلاك الصهاينة للسلاح النووى وتهديدهم للجميع، لأنهم لن يشعروا بالأمان أو الراحة ما بقى عربى على قيد الحياة، فاللص لا يمكن أن يستمتع بالنوم فى بيت مسروق. وهناك سؤال استراتيجي: هل من حق العرب والمسلمين امتلاك السلاح النووى أو غيره كوسيلة للردع؟ إننا كمسلمين نؤمن بأن الإسلام يحرم استخدام أسلحة الدمار الشامل، ولكنه يدعونا إلى اليقظة وحماية أنفسنا، ومادام عدوك يمتلك سلاحا فتاكا، فمن السذاجة النوم والتغافل عن الخطر حتى وإن كان يصعب عليه استخدامه.. لابد أن تمتلك رادعا يمنعه من ابتزازك. فوجود رادع هو الذى يمنع من استخدام هذا السلاح غير الإنساني.. ولو أن اليابان كان لديها ما تردع به أمريكا لما جُرّب السلاح النووى فيها، وقد جُمّد السلاح النووى بكل من الهند وباكستان بامتلاكهما له معا. لن يمنع الصهاينة من ابتزاز العرب والمسلمين إذاً، إلا امتلاكنا لسلاح رادع مثيل، إذا فشلنا فى إلزامهم بتوقيع معاهدة حظر الانتشار النووى وإخضاعهم للتفتيش. الأمر إذاً ليس مجرد حق الامتلاك، ولكنه واجب، والتفريط فيه انتحار أو خيانة، وليس مجرد سذاجة. وليس من حق أمريكا أو غيرها منع المهدد بالإبادة من امتلاك سلاح رادع يحمى به نفسه، ولكنها القرصنة التى كان يشجعها الانحناء العربي.. قبل الربيع العربي.
هل يمكن أن تضرب إيران العرب بالسلاح النووي؟ هذا سؤال لا محل له، لأنه لا يمكن لدولة أن تستخدم سلاحا نوويا ضد جيرانها، لأن أكبر مشكلة هى التلوث الإشعاعي، والذى ينتشر بمساحة واسعة جدا ولأزمانٍ طويلة.. فالتدمير والحرق وخلافه مقدور عليه ويحدث بالأسلحة التقليدية، أما التلوث الإشعاعى فهو المشكلة الأخطر التى لا سبيل لمواجهتها بسهولة، وحادثة تشرنوبل خير دليل، لذا فليس واردا أن تستخدم إيران السلاح النووى ضد الجيران. وهذا السؤال فيه خداع كبير: فما الذى يدعو إيران لفعل ذلك؟ هل هناك خطر استراتيجى يهدد وجود الإيرانيين من قِبل جيرانهم العرب؟ وأين هو الخطر المحتمل والعرب لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، وليس ما يهاجمون به الغير؟ إن ترديد هذا الكلام مقصود به الإيقاع بين العرب والإيرانيين ليتمكن الحلف الصهيوأمريكى من استخدام الأراضى العربية لضرب إيران. وإيران فى كل الأحوال، رغم الخلاف المذهبي، دولة مسلمة قوتها فى النهاية مضافة للمسلمين.. ومهما حدث من خلافات سياسية أو مذهبية فإيران هى الأقرب جغرافياً وعقائدياً وسياسياً، وما يؤذى العرب يؤذى إيران بلا شك، والعكس بالعكس.. ومهما اختلفنا فلا يمكن للمسلم الإيرانى أن يفضل الحلف الصهيوأمريكى على العرب، شركاء الجغرافيا والتاريخ والمصير والحضارة والثقافة. وبالتأكيد فإن وجود رادع نووى بإيران وباكستان أو لدى العرب يمنع الصهاينة من ابتزازنا بكثرة التلويح باستخدام ترسانتهم النووية.. علما بأن المساحة التى يحتلها الصهاينة لا تسمح لهم بالمجازفة والانتحار.
أما البرنامج النووى الإيرانى فمازال فى بداياته، وكله موجه للأغراض السلمية.. وكما تشير وثائق الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ فإن إيران لا تمتلك حاليا أية محطات نووية عاملة، ولكن لديها محطتان "تحت الإنشاء" بقدرة إجمالية 2392 ميجاوات كهربائي. وهذا المشروع بدأ منذ عهد الشاه، وعرقل الغرب استكماله بعد الثورة وتحوُّل إيران إلى دولة خارج السيطرة الغربية، ونعتقد أنه لم يكن ليكتمل حتى وإن لم يسقط الشاه.. لأن الغرب لا يفرِّق بين النظام الصديق والنظام العدو عند التعامل مع المسلمين، إذا تعلق الأمر بأية محاولة لامتلاك القوة أو التنمية الجادة المستقلة التى يمكن أن تؤدى إلى امتلاكها. والحقيقة أن إيران نجحت فى الذود عن حقها فى امتلاك المعرفة والتقنية النووية التى أوضحنا أهميتها لأية أمة تريد أن تعيش عصرها باستقلال ونِدّية. وأهم إنجاز لإيران هو قرارها الاستراتيجى بالاعتماد على النفس فى إنتاج الوقود النووي، إذ ماذا يفيد امتلاك المفاعلات والوقود النووى بأيدى من لا يريدون لنا الاقتراب من هذه التقنية، باعتبارها الطريق الأسرع للتنمية المستقلة؟ وماذا تفعل إيران إذا مُنع عنها الوقود بعد إنشاء المفاعلات بتكاليفها الباهظة؟ إن ما فعلته إيران كان عين العقل، ولا سبيل غيره لبدء برنامج نووى حقيقى مستقل. والفرق واضح بين الاستقلال وبين الثقة المفرطة فى الغرب، فقد فشل العرب (العراق، ليبيا، مصر، سوريا،...) فى استكمال أى برنامج نووى بسبب سيادة العقلية التقليدية التى تظن أن بالإمكان الاعتماد على (التقنية المعلـَّبة) التى ربما تصلح لأى مجال، إلا المجال النووي. ونظرا لأن إيران أخذت قرارها سريعا ودون تردد، وبدأت بالتنفيذ علنا وبكل ثقة فى النفس، وبإيمان قوى بأنها تمارس نشاطا شرعيا ليس من حق أحد الاعتراض عليه.. فقد وقف الغرب منها موقفا مختلفا تماما عن مواقفه مع العرب (الحائط المنخفض يغرى بالامتطاء!)، حيث الإغراء بالحوافز الاقتصادية وغيرها. وها هى تواصل تخصيب اليورانيوم بكميات ضخمة، وتعد عدتها لامتلاك ما يكفى من الوقود قبل بدء تشغيل أول محطة نووية.. وبهذه الطريقة وبتلك العقلية المقتحمة تستطيع أيضا أن تعتمد على سواعد أبنائها فى استكمال المحطتين النوويتين، إن تخلت عنها روسيا.
والخلاصة أن الدروس المستفادة من البرنامج النووى الإيرانى يجب أن تكون حاضرة عربيا؛ وأهمها الاعتماد على النفس، واستقلال الإرادة، وعدم الإفراط فى الثقة فى (الصديق الأمريكي) أو غيره، والإيمان بأن التنمية الحقيقية والجادة يجب أن تكون معتمدة على العقول والسواعد الوطنية، وليس على التقنية المستوردة؛ المعلبة! وأهم ما فى الموضوع أن التقنية النووية والمعارف المتصلة بها حق لا يمكن التفريط فيه، وواجب ينبغى الإسراع فى أدائه بالسعى للحصول عليها؛ إن أردنا أن نكون بالفعل خير أمة أخرجت للناس.
abdallah_helal@hotmail.com
الدروس المستفادة من النووى الإيرانى (1/2)
الضجة الكبرى التى تثار من حين لآخر حول البرنامج النووى هنا أو هناك ترتكز فى ظاهرها على الحرص على منع انتشار الأسلحة النووية، على اعتبار أنها أسلحة دمار شامل تهدد كوكب الأرض عمومًا.. ولكن الحقيقة الواضحة أن هناك أهدافاً أخرى مستترة؛ أهمها السيطرة على عملية التقدم التقني، ومنع دول الجنوب "المتخلف" من اللحاق بدول الشمال "المتقدم".. فالتقنية النووية تتطلب إجراءات وممارسات واحتياطات إدارية وعلمية وفنية فائقة الدقة والصرامة.. وغير مسموح فى المحطات النووية بأية نسبة من الإهمال أو التراخى أو التواكل أو الكسل، أو بأقل احتمال من الخطأ؛ وإن ضؤل.. وهذا من شأنه أن يوفر للدولة الممارسة لذلك النشاط جيشاً من الخبراء والتقنيين البارعين المبدعين الذين يمكن أن يكونوا جاهزين وقادرين على الإدارة الناجحة لأى عمل تقنى آخر.. وإذا علمنا أن المحطة النووية تستوعب بطبيعة الحال جميع التخصصات العلمية والتقنية والفنية والإدارية، وأن العاملين فيها يتم استبدالهم دوريًا ومبكرًا لحمايتهم من آثار الإشعاع المحتملة.. فهذا يعنى أن الدولة (النووية) تستطيع- بالاستفادة من هؤلاء الخبراء- أن تُحدث نقلة نوعية تقنية عظيمة فى جميع المجالات، كما حدث فى كل الدول النووية، وهذا بالطبع غير مرحب به من قوى الاستكبار العالمي.. كما أن الاستخدام الناجح للتقنية النووية يؤدى بالتأكيد إلى فوائد اقتصادية عظيمة من خلال توفير مصدر رخيص ونظيف للطاقة، وتحلية مياه البحر بكميات وفيرة تشجع على زراعة الصحراء، وغير ذلك الكثير.
أما قضية الأسلحة النووية فهى على أهميتها وخطورتها ليست بالضبط هى بيت القصيد.. لأنها فى الحقيقة أسلحة للردع أكثر منها للاستخدام، وهى منتشرة بوفرة فى أركان المعمورة، وتمتلكها العديد من الدول الكبرى والصغرى، ووصلت إلى دول تعتبر مارقة أو خارجة عن السيطرة الغربية مثل باكستان وكوريا الشمالية والهند.. ولم يحدث شيء على الإطلاق؛ لأن السلاح النووى لا يمكن استخدامه إلا على بُعد آلاف الأميال.. أى خارج نطاق الصراع بين الدول المتحاربة، لأن أغلب الحروب تكون بين دول الجوار.. فالتلوث الذى ينجم عن استخدام الأسلحة النووية، والذى يمكن أن يصل إلى المستخدم نفسه، يجعل من هذه الأسلحة مجرد وسيلة للتباهى بالقوة، أو لمجرد الردع والشعور بالثقة والاستقلال الفعلي.
وقد يكون الردع والتلويح بالقدرة على إيذاء العدو أحد لوازم الصراع الذى جُبل عليه النوع البشري، ولكن الإحاطة بالصورة الكاملة وبطريقة صحيحة تجعلنا نعطى الموضوع حجمه الحقيقي، ولا نسير معصوبى العينين وراء الإعلام الغربى الموجه، الذى يريد أن يثير لدينا المخاوف، بل والرعب، من البرنامج النووى الإيرانى مثلا، ولا يشير من قريب أو بعيد للترسانة النووية الصهيونية (التى لا نخشاها- بالمناسبة، لأنه يستحيل استخدامها ضد دول الجوار مادام اليهود فى فلسطين المحتلة).. فقد قامت الدنيا ولم تقعد عند الحلف الصهيونى الأمريكى لمحاولة إيران امتلاك جزء من المعارف الحديثة المهمة، وهى المعرفة النووية.. ولجأ هذا الحلف إلى الخداع وإيهام العرب بخطورة امتلاك إيران للسلاح النووي، وأنه (أى السلاح النووي) سوف يكون خطرًا على العرب أنفسهم.. فهل صحيح أن امتلاك إيران للمعرفة النووية، أو حتى للسلاح النووي؛ يشكل خطرًا على العرب؟، وهل من حق الحلف الصهيونى الأمريكى أو غيره منع العرب والمسلمين (أو غيرهم) من امتلاك السلاح النووى كأداة ردع ضد من يهدد وجودهم بترسانته النووية؟.
هناك ما يعرف بالاستراتيجية النووية، والتى تسعى الدول المستهدَفة من عدو إلى تحقيقها، وترتكز على محاور أربعة:
(1) منع العدو من امتلاك السلاح النووى (أو القدرة على امتلاكه) بكافة الوسائل الممكنة، حتى وإن أدى ذلك إلى تدمير المنشآت النووية للعدو، وقد فعل ذلك الكيان الصهيونى عام 1981 ضد المفاعل النووى العراقي، وقبلها فى أحد الموانئ الفرنسية ضد مفاعل عراقى أيضًا، وحاول ضد مصر أثناء حرب الاستنزاف ولكنه أخطأ الهدف ودمر مصنع الحديد والصلب (أبو زعبل).
(2) إذا لم تتمكن الدولة المستهدفة من منع العدو من امتلاك السلاح النووي؛ فهى تسعى لامتلاكه، وقد فعل ذلك الاتحاد السوفيتي، وباكستان، وكوريا ...إلخ.
(3) إذا عجزت الدولة عن تحقيق أحد الخيارين السابقين، فهى تحرص على امتلاك خيار بديل يصلح رادعًا لمنع العدو من استخدام سلاحه النووي، مثل الأسلحة الكيميائية أو حتى التقليدية بشرط استخدامها بكثافة على مئات المواقع فى وقت واحد بالاستعانة بالصواريخ والطائرات.. إلخ، بحيث يفهم العدو أن الرد سوف يكون موجعًا ولا قبل له به.
(4) إذا كانت الدولة (عاجزة) عن تحقيق أى من الخيارات السابقة؛ فعليها اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستيعاب الضربة النووية وتقليل الخسائر بقدر الإمكان، أى تظل على قيد الحياة، وهذا خيار العاجز.. وبالمناسبة فحتى هذا الخيار الأخير (العاجز) غير موجود فعليًا فى الدول العربية.. (ونستكمل الموضوع بالمقال القادم إن شاء الله).
الدروس المستفادة من النووى الإيرانى (2/2)
انتهينا بالمقال السابق إلى شرح الإستراتيجية النووية التى تجاهلناها، مما أدى إلى التطرف الغربى ضد العرب والمسلمين، فلم يكتفوا بمنع الحصول على السلاح النووي- الذى لا نسعى لامتلاكه- ولكن محاولة منع المعرفة النووية نفسها، واستخداماتها السلمية!والواقع أن العرب عجزوا عن مجرد التفكير فى الإستراتيجية النووية، رغم امتلاك الصهاينة للسلاح النووى وتهديدهم للجميع، لأنهم لن يشعروا بالأمان أو الراحة ما بقى عربى على قيد الحياة، فاللص لا يمكن أن يستمتع بالنوم فى بيت مسروق. وهناك سؤال استراتيجي: هل من حق العرب والمسلمين امتلاك السلاح النووى أو غيره كوسيلة للردع؟ إننا كمسلمين نؤمن بأن الإسلام يحرم استخدام أسلحة الدمار الشامل، ولكنه يدعونا إلى اليقظة وحماية أنفسنا، ومادام عدوك يمتلك سلاحا فتاكا، فمن السذاجة النوم والتغافل عن الخطر حتى وإن كان يصعب عليه استخدامه.. لابد أن تمتلك رادعا يمنعه من ابتزازك. فوجود رادع هو الذى يمنع من استخدام هذا السلاح غير الإنساني.. ولو أن اليابان كان لديها ما تردع به أمريكا لما جُرّب السلاح النووى فيها، وقد جُمّد السلاح النووى بكل من الهند وباكستان بامتلاكهما له معا. لن يمنع الصهاينة من ابتزاز العرب والمسلمين إذاً، إلا امتلاكنا لسلاح رادع مثيل، إذا فشلنا فى إلزامهم بتوقيع معاهدة حظر الانتشار النووى وإخضاعهم للتفتيش. الأمر إذاً ليس مجرد حق الامتلاك، ولكنه واجب، والتفريط فيه انتحار أو خيانة، وليس مجرد سذاجة. وليس من حق أمريكا أو غيرها منع المهدد بالإبادة من امتلاك سلاح رادع يحمى به نفسه، ولكنها القرصنة التى كان يشجعها الانحناء العربي.. قبل الربيع العربي.
هل يمكن أن تضرب إيران العرب بالسلاح النووي؟ هذا سؤال لا محل له، لأنه لا يمكن لدولة أن تستخدم سلاحا نوويا ضد جيرانها، لأن أكبر مشكلة هى التلوث الإشعاعي، والذى ينتشر بمساحة واسعة جدا ولأزمانٍ طويلة.. فالتدمير والحرق وخلافه مقدور عليه ويحدث بالأسلحة التقليدية، أما التلوث الإشعاعى فهو المشكلة الأخطر التى لا سبيل لمواجهتها بسهولة، وحادثة تشرنوبل خير دليل، لذا فليس واردا أن تستخدم إيران السلاح النووى ضد الجيران. وهذا السؤال فيه خداع كبير: فما الذى يدعو إيران لفعل ذلك؟ هل هناك خطر استراتيجى يهدد وجود الإيرانيين من قِبل جيرانهم العرب؟ وأين هو الخطر المحتمل والعرب لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، وليس ما يهاجمون به الغير؟ إن ترديد هذا الكلام مقصود به الإيقاع بين العرب والإيرانيين ليتمكن الحلف الصهيوأمريكى من استخدام الأراضى العربية لضرب إيران. وإيران فى كل الأحوال، رغم الخلاف المذهبي، دولة مسلمة قوتها فى النهاية مضافة للمسلمين.. ومهما حدث من خلافات سياسية أو مذهبية فإيران هى الأقرب جغرافياً وعقائدياً وسياسياً، وما يؤذى العرب يؤذى إيران بلا شك، والعكس بالعكس.. ومهما اختلفنا فلا يمكن للمسلم الإيرانى أن يفضل الحلف الصهيوأمريكى على العرب، شركاء الجغرافيا والتاريخ والمصير والحضارة والثقافة. وبالتأكيد فإن وجود رادع نووى بإيران وباكستان أو لدى العرب يمنع الصهاينة من ابتزازنا بكثرة التلويح باستخدام ترسانتهم النووية.. علما بأن المساحة التى يحتلها الصهاينة لا تسمح لهم بالمجازفة والانتحار.
أما البرنامج النووى الإيرانى فمازال فى بداياته، وكله موجه للأغراض السلمية.. وكما تشير وثائق الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ فإن إيران لا تمتلك حاليا أية محطات نووية عاملة، ولكن لديها محطتان "تحت الإنشاء" بقدرة إجمالية 2392 ميجاوات كهربائي. وهذا المشروع بدأ منذ عهد الشاه، وعرقل الغرب استكماله بعد الثورة وتحوُّل إيران إلى دولة خارج السيطرة الغربية، ونعتقد أنه لم يكن ليكتمل حتى وإن لم يسقط الشاه.. لأن الغرب لا يفرِّق بين النظام الصديق والنظام العدو عند التعامل مع المسلمين، إذا تعلق الأمر بأية محاولة لامتلاك القوة أو التنمية الجادة المستقلة التى يمكن أن تؤدى إلى امتلاكها. والحقيقة أن إيران نجحت فى الذود عن حقها فى امتلاك المعرفة والتقنية النووية التى أوضحنا أهميتها لأية أمة تريد أن تعيش عصرها باستقلال ونِدّية. وأهم إنجاز لإيران هو قرارها الاستراتيجى بالاعتماد على النفس فى إنتاج الوقود النووي، إذ ماذا يفيد امتلاك المفاعلات والوقود النووى بأيدى من لا يريدون لنا الاقتراب من هذه التقنية، باعتبارها الطريق الأسرع للتنمية المستقلة؟ وماذا تفعل إيران إذا مُنع عنها الوقود بعد إنشاء المفاعلات بتكاليفها الباهظة؟ إن ما فعلته إيران كان عين العقل، ولا سبيل غيره لبدء برنامج نووى حقيقى مستقل. والفرق واضح بين الاستقلال وبين الثقة المفرطة فى الغرب، فقد فشل العرب (العراق، ليبيا، مصر، سوريا،...) فى استكمال أى برنامج نووى بسبب سيادة العقلية التقليدية التى تظن أن بالإمكان الاعتماد على (التقنية المعلـَّبة) التى ربما تصلح لأى مجال، إلا المجال النووي. ونظرا لأن إيران أخذت قرارها سريعا ودون تردد، وبدأت بالتنفيذ علنا وبكل ثقة فى النفس، وبإيمان قوى بأنها تمارس نشاطا شرعيا ليس من حق أحد الاعتراض عليه.. فقد وقف الغرب منها موقفا مختلفا تماما عن مواقفه مع العرب (الحائط المنخفض يغرى بالامتطاء!)، حيث الإغراء بالحوافز الاقتصادية وغيرها. وها هى تواصل تخصيب اليورانيوم بكميات ضخمة، وتعد عدتها لامتلاك ما يكفى من الوقود قبل بدء تشغيل أول محطة نووية.. وبهذه الطريقة وبتلك العقلية المقتحمة تستطيع أيضا أن تعتمد على سواعد أبنائها فى استكمال المحطتين النوويتين، إن تخلت عنها روسيا.
والخلاصة أن الدروس المستفادة من البرنامج النووى الإيرانى يجب أن تكون حاضرة عربيا؛ وأهمها الاعتماد على النفس، واستقلال الإرادة، وعدم الإفراط فى الثقة فى (الصديق الأمريكي) أو غيره، والإيمان بأن التنمية الحقيقية والجادة يجب أن تكون معتمدة على العقول والسواعد الوطنية، وليس على التقنية المستوردة؛ المعلبة! وأهم ما فى الموضوع أن التقنية النووية والمعارف المتصلة بها حق لا يمكن التفريط فيه، وواجب ينبغى الإسراع فى أدائه بالسعى للحصول عليها؛ إن أردنا أن نكون بالفعل خير أمة أخرجت للناس.
abdallah_helal@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق