الأحد، 10 أكتوبر 2010

تجميدٌ موقت للاستيطان ضياعٌ كامل لفلسطين - د. مصطفى يوسف اللداوي



تجميدٌ موقت للاستيطان ضياعٌ كامل لفلسطين - د. مصطفى يوسف اللداوي



يرتكب العرب والفلسطينيون خطأً كبيراً عندما يربطون المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة بتجميدٍ مؤقت للعمليات الاستيطانية الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، ويستجيبون للضغوط الأمريكية المخادعة التي تحاول توريط المفاوض الفلسطيني في حمأة المفاوضات الإسرائيلية التي لا تنتهي، إذ لا سقف زمني لها، ولا أجندة تحكمها، ولا إطار ينظمها، ولا راعٍ يكفلها، ولا مصداقية فيها، ولا صدق يحميها، ولا احترام فيها لاتفاقات السابقين، وتفاهمات الراحلين، بل كلٌ يبدأ من حيث يريد، ويرفض استئناف الحوار من النقاط التي انتهى إليها السابقون، وينكر أي تفاهماتٍ سابقة، وينقض أي اتفاقياتٍ مبرمة، فلا شئ يضمن أو يكفل الإسرائيليين، أو يجبرهم على الثبات على مواقفهم، والالتزام بما يتم الاتفاق عليه، وغير هذا الفهم للعقلية الإسرائيلية فهم خاطئ، ومجافاةٌ للطبيعة الإسرائيلية، بل هو جهلٌ بالجبلة اليهودية، وبطباعهم الموروثة، وصفاتهم التي فطروا عليها، فقد حفظها القرآن الكريم في صفحاته الخالدة، وأخبرنا عنهم بأنهم منافقون مداهون وكذابون، مجادلون ومحتالون ونصابون، ناكثون للعهود، ومنكرون للجميل، يبحثون عن الغدر، ويتعمدون الخيانة، ولا يعطون شيئاً إلا ليأخذوا أكبر منه، ولا يتنازلون عن شئٍ إلا بقوة القهر والإكراه، فلا تطيب نفوسهم، ولا ترضى قلوبهم، إذا اعترفوا للآخرين بحقهم، ولخصومهم بما لهم، إنها الجبلة اليهودية الإسرائيلية العفنة، التي تصيب بداءها كل من اقترب منها، أو حاول التعامل معها، أو اجتهد لينقيها من رجسها وإثمها.

أليس سخفاً أن نطالب الحكومة الإسرائيلية بتجميد الاستيطان، سنة أو ستة أشهر، وأخيراً شهرين فقط، مقابل أن نوافقهم إلى مطالبهم، وأن نجلس وإياهم إلى طاولة المفاوضات، وأن نرضخ لشروطهم، ونحسن أمام الرأي العام صورتهم المسخ البشعة، وأن نعيد عرضها بثيابٍ زاهية براقة، بعد أن أظهرتها سياستهم بمظهرها الحقيقي، وبينت للعالم كله حقيقة مواقفهم ومنطلقاتهم الدموية الوحشية، ونحن نعلم أنهم سيواصلون اغتصاب الأرض، ومصادرة الحقوق بعد مضي فترة التجميد، ولن يوقفوا هدير جرافاتهم، ولا آليات البناء لديهم، عن بناء المزيد من المستوطنات، كما لن يتوقف نهمهم عن قضم الجديد من الأراضي، ومصادرة المزيد من الحقوق.

الفلسطينيون يعرفون على وجه اليقين أن آليات البناء الإسرائيلية لا تتوقف، وورش العمل المختلفة العاملة في كل المستوطنات الإسرائيلية لا تتوقف عن العمل، اللهم إلا يوم السبت المقدس لدى اليهود بزعمهم، وأيام أعيادهم الأخرى التي يحرم فيها العمل، وإيقاد النار، وأكل اللحم وغيره، فهم يعملون ليل نهار في كل المستوطنات المنتشرة في كل الأرض الفلسطينية، وقد جلبوا للعمل فيها عشرات آلاف العمال من تايلاند والفلبين وسيرالانكا، وغيرهم من الأفارقة الذين باتوا يفدون للعمل في المستوطنات الإسرائيلية، في أعمال البناء والتشييد والتزيين، وفي أعمال الزراعة وإعمار الحدائق والمنتجعات العامة في المستوطنات.

الإسرائيليون في حاجةٍ دوماً إلى فترات تكف فيها جرافاتهم عن انتزاع أراضٍ فلسطينية جديدة، ليس لأنهم قد شبعوا أو ملوا أو اكتفوا، وإنما ليتفرغوا لإتمام ما قد وضعوا أسسه، ورفعوا جدرانه، فالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ومدينة القدس تغص بآلاف الوحدات السكنية الخربة، التي لا سكان فيها، ولا من يعمرها، وغيرها مئات الشقق السكنية التي تحتاج إلى تشطيب وتزيين وديكور، وهذه الأعمال التجميلية في حاجةٍ إلى وقتٍ وهدوء، ليتم الانتهاء منها، وتسليمها إلى مجالس المستوطنين، ولهذا فإن فترات التجميد التي تطالب بها الإدارة الأمريكية، وتحاول أن توهم السلطة الفلسطينية بأنها قد ضغطت على الحكومة الإسرائيلية، ليست أكثر من وهمٍ وسراب، ففترات التجميد والهدوء والبعد عن صخب وفوضى وسائل الإعلام مطلبٌ إسرائيلي، وحاجة ملحة لهم، إذ لن تلتفت وسائل الإعلام، ولا جهات الرقابة الدولية والسياسية، إلى ورش البناء الصغيرة والبسيطة، التي تعمل في العادة داخل الأبنية، وبعيداً عن العيون والآذان، ولهذا فلا تغرنا صمت الجرافات، ولا هدوء الآليات، ولا التجميد الوهمي المعلن للاستيطان، لأن ما يتم في الخفاء وبصمتٍ أكبر بكثير مما تنقله وسائل الإعلام، وأضخم مما تسلط عليه الجهات الفلسطينية أضواءها الكاشفة.

ألا ترون أن مطالب السلطة الفلسطينية المفاوضة، المغلفة برعاية ومباركة جامعة الدول العربية، قد تراجعت كثيراً، من المطالبة بدولةٍ فلسطينية مستقلة، على أن تكون عاصمتها القدس، وأن يكون من حق الفلسطينيين جميعاً، أينما كانوا، أن يعودوا إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم، فتقزمت المطالب الفلسطينية لتتشكل في سؤالٍ ذليلٍ بسيط، يطالب الإدارة الأمريكية بالضغط على الحكومة الإسرائيلية لتجميد عمليات الاستيطان لأشهرٍ معدودة، فقط لتذر الرماد في العيون، وتوهم العرب والفلسطينيين أن إسرائيل قد خضعت وتراجعت واستجابت، ولكن الحقيقة هي غير ذلك تماماً، فهي قد تتراجع لتنقض أكثر، وتصمت لتلتقط أنفاسها، ولتعاود الانقضاض من جديد، إنها كمتسابقٍ يتراجع خطوات لينطلق بقوةٍ أكبر، ويحقق نتائج أفضل، وهي لهذا قد تتوقف عن الاستيطان شكلياً لشهرٍ أو شهرين، ولكن لتنهش المزيد من الأرض، إن لم يكن كل الأرض فيما بعد، فالاستراتيجية الاستيطانية الإسرائيلية ماضيةٌ بقوة، لا جمود فيها ولا تجميد، وإنما انطلاقٌ ومواصلة، والتوقف فيها أو التجميد يعني الاستعدادُ للانطلاق نحو مرحلةٍ جديدة، وتنفيذ خططٍ وبرامج أخرى.

إنها جريمة كبيرة أن تتضاءل مطالبنا الوطنية الفلسطينية، وأن تختزل في مطلبٍ واحدٍ ووحيد، نصوره انتصاراً، ونتخيله فوزاً، وإنها لجريمةٌ أكبر أن نحاول تزيين هذا المطلب بأنه غاية ما نتمنى، وأكبر شئ تقدمه الحكومة الإسرائيلية وتتنازل عنه لصالحنا، فالحكومة الإسرائيلية، وعلى وجه التحديد حكومات اليمين، لن تتوقف عن الاستيطان بملكها، ولن تجبر مستوطنيها على الرحيل عبر طاولة المفاوضات، فالمفاوضات هي المناخ الآمن للمستوطنين، وهي التي تتيح أكبر الفرص لهم للتوسع والتمدد ومصادرة المزيد من الأراضي، ويوم أن كانت المقاومة تسود في كل فلسطين، تراجع المستوطنون، وانكمشت المستوطنات، ورحل الإسرائيليون، تاركين أرض الأحلام، وأرض الميعاد، وبلاد المن والسلوى، خوفاً من القتل والموت الذي صنعته لهم قوى المقاومة، والرعب الذي زرعته في صفوف المستوطنين، إذ أن المقاومة وحدها، بعملياتها العسكرية الموجعة والموغلة، هي القادرة دون غيرها على لجم الاستيطان، وإجبار المستوطنين على حمل عصى الترحال، والهجرة من جديد، فمن أراد وقف الاستيطان ليحمي فلسطين كلها وأهلها، فما عليه إلا أن يعود إلى عزة المقاومة، وشرف القتال، فهما الدرء والحصن والوقاء.

دمشق في 10/10/2010

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |