الأربعاء، 13 أكتوبر 2010

جريدة الراية - أرضوغان باشا... والعثمانيون الجُدد

أرضوغان باشا... والعثمانيون الجُدد
بقلم/ د. سعد الدين إبراهيم -كاتب مصري :

في نزهة بحرية قرب شواطئ بحري إيجه والمتوسط، أقنعني صديقي المهندس المصري عصام عوني، وعالمة السياسة التركية نجلاء تشرجي، أن أكف عن الكتابة عن مصر، وأن أنقل للقراء العرب انطباعاتي عن تركيا في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، ذو المرجعية الإسلامية، والتي يرأسها الطيب أرضوغان، والذي أصبح البعض في تركيا يلقبونه بالباشا!
وكانت الأخبار، قبل هذه النزهة بأيام، قد نوّهت بمُعدل التنمية الاقتصادية في تركيا، وهو 9% سنوياً، ما يضعها في المركز الأول أوروبياً، وشرق أوسطياً، وفي مصاف الاقتصاديين الأسرع نمواً في العالم، وهما الصين والهند. وكان هذا الإنجاز في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، هو الرد الحاسم على استمرار الغرب لرفض عضوية تركيا في "الاتحاد الأوروبي". ورغم الأسباب الوجيهة التي ذكرها الاتحاد لقرار الرفض، فإن رئيس الوزراء التركي كان أكثر صراحة في التعليق على القرار، "بأن الاتحاد حريص على أن يظل نادياً خاصاً للبُلدان ذات الأغلبية المسيحية"!
ولكن الطيب أرضوغان لم يكتف بالرد اللفظي، ولكنه اندفع بالسياسة الخارجية التركية شرقاً، نحو جمهوريات آسيا الوسطى، وجنوباً نحو إيران والعالم العربي. أكثر من ذلك، بدأ هو وحزبه حديثاً عن أمجاد الإمبراطورية العثمانية، حيث كانت نموذجاً مُبكراً "للعولمة" (Globalization). وضاعف من هذه النزعة لإحياء الأمجاد العثمانية، المواقف الأخيرة التي اتخذتها حكومة أرضوغان نحو القضية الفلسطينية وإسرائيل، وخاصة منذ واقعة "أسطول الحُرية" لفك الحصار عن غزة، وهو ما جعل رجب الطيب أرضوغان، الزعيم الأكثر شعبية، طبقاً لأخر استفتاءات الرأي العام العربي.
ومن طرائف الأمور أن هذه التطورات على الساحة السياسية، تزامنت مع الشعبية المتزايدة للدراما التليفزيونية التركية. وتمتلئ شوارع استانبول هذه الأيام بالسُياح المصريين والعرب. وحينما سألت بعضهم عن سر هذا الإقبال على زيارة تركيا. كانت معظم الإجابات تدور حول الإحساس بالألفة الثقافية، وتشابه الكوزين (المطبع والأطعمة) التركية. كما جاء بعضهم لرؤية الفيلا التي تم فيها تصوير مسلسل "نور" على شواطئ البسفور، والذي حوّلته وزارة السياحة التركية إلى أحد المزارات السياحية، أسوة بالقصور والمساجد والقلاع العثمانية الشهيرة!
ولكن مآثر حزب العدالة والتنمية، في ظل الطيب أرضوغان، تجاوزت التنمية الاقتصادية المُبهرة، إلى التخفيف التدريجي من الأيديولوجية الكمالية، التي كانت قد تطرقت واشتطت في علمانيتها (1920-1946). فقد أعادت للدين الإسلامي (99% من السكان) الاعتبار. وضمن ذلك حُرية اختيار الزي للنساء. وكلما كشّرت المؤسسة الكمالية ـ التي تتكون من القوات المُسلحة والمحكمة العُليا وجامعة استانبول والبيروقراطية ـ عن أنيابها، اعتراضاً على سياسة معينة، كان أرضوغان يطرح الأمر على الشعب التركي، في استفتاء عام. وكان يحظى بتأييد الأغلبية في كل مرة، وهو ما جعل المؤسسة الكمالية تكظم غيظها، وتقبل الأمر في النهاية.
كذلك نجح أرضوغان بحزب العدالة والتنمية في التعامل مع مشكلتي الأرمن والأكراد، بالاعتراف بحقوقهم الثقافية، والحوار مع زعمائهم على ترتيبات للحكم الذاتي، في إطار فيدرالي، وهو ما خفف من حدة المواجهات المُسلحة مع بعضهم، والتي بدأت واستمرت منذ ثلاثين عاماً.
"والعثمانية الجديدة"، كما ينسجها حزب العدالة والتنمية، تنطوي على قدر كبير من "الأبوية" و"الأخوية"، وتكاد تخلو تماماً من التعالي أو "الغطرسة التركية"، والتي دأبت الأفلام المصرية القديمة (أبيض وأسود) على تصويرها والسخرية منها!
ويعتمد الطيب أرضوغان وحزب العدالة والتنمية على قاعدة شعبية في أرياف الأناضول، وعلى طبقة جديدة من التجار في المدن الصغيرة والمتوسطة، والتي أصبحت تسمى "بالرأسمالية الخضراء"، والتي أصبح نصيبها من حجم الاقتصاد التركي في تزايد مستمر. وأصبح لها بنوكها وشركاتها الاستثمارية، جنباً إلى جنب مع أقرانها من المؤسسات الوطنية والعالمية.
ومن الطبيعي أن تشعر المؤسسة الكمالية (الجيش والقضاء والجامعة والخدمة المدنية) بالتهديد. فقد اتضح لها في السنوات العشر الأخيرة، أن سُلطتها التي كرّستها خلال ثمانين عاماً (1920-2000) بدأت تتآكل تدريجياً، وبشكل سلمي، من خلال صندوق الانتخابات. والشاهد أن ذلك أو شيئاً مُشابهاً له قد حدث في المغرب والكويت في عالمنا العربي، خلال نفس السنوات العشر. كما أن نفس الشيء كان قد حدث منذ عشرين عاماً في إندونيسيا، وماليزيا، وبنجلاديش. ولكن استمرار المُمارسة الديمقراطية، والتمسك بقواعدها، أدى إلى إخراج الإسلاميين من السُلطة، وأيضاً بشكل سلمي.
وفي حديث مع عدد من أصدقائي القدامى من المثقفين العلمانيين الأتراك، أدهشني بعضهم حينما تحسروا على نضالهم القديم ضد الدكتاتورية العسكرية، التي حكمت تركيا في الثمانينات ثم مرة أخرى في التسعينات من القرن الماضي، حيث إن الذي استفاد من عودة الحكم المدني الديمقراطي هي الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية ـ مثل حزب "الفضيلة" وحزب "العدالة"، وأخيراً حزب "العدالة والتنمية". وكلما كان يفوز أحد هذه الأحزاب، كان "الكماليون" يذهبون إلى المحكمة العُليا التركية، ويستصدرون حُكما بعدم شرعية الحزب، وبرنامجه الانتخابي، أو قياداته. ومع ذلك فإن الإسلاميين الأتراك كانوا يُحنون رؤوسهم للعاصفة، ثم يعودون تحت اسم جديد، أو برنامج جديد.
إن هذه المُثابرة، بلا مَلَل ولا كلَل من الإسلاميين الأتراك خلال الأربعين سنة الأخيرة، جديرة بالتأمل والمُقارنة مع الإخوان المسلمين في مصر. فهناك أوجه شبه وإعجاب مُتبادل بين الطرفين.
بل إن الإسلاميين الأتراك لم يبدؤون مسيرتهم نحو السُلطة إلا في ستينات القرن الماضي ـ أي بعد الإخوان المسلمين في مصر (1928) بحوالي أربعين عاماً. ومع ذلك أثمرت مسيرتهم إلى حينه، أكثر مما أثمرت جماعة الإخوان. ربما كان ذلك لأن المجتمع التركي عموماً أكثر "حداثة" و "تطوراً" من المجتمع المصري، بُحكم قربه من أوروبا وبفضل التراكم التنموي الذي بدأ مع ثورة مصطفى كمال أتاتورك (1920-1946)، بينما تشتّتت هذه المسيرة، سواء بعد ثورة 1919 "الليبرالية"، أو بعد ثورة 1952 الناصرية ـ الاشتراكية.
وربما كان النجاح الأوفر للإسلاميين الأتراك هو بسبب مرونتهم وقدرتهم على التكيف مع المتغيرات الداخلية (في تركيا) والخارجية (وخاصة في الغرب). من ذلك أنهم لم يهتموا كثيراً بالشعارات، ولم يصرّوا أبداً على إقحام لغة الخطاب الإسلامي. بل يكاد يكون العكس هو الصحيح مع أرضوغان وحزب العدالة والتنمية. فهما دائماً ينفيان أن الحزب "ديني" أو "إسلامي". وبذلك لا فقط بدّد مخاوف الطبقة الوسطى والنساء في الداخل، ولكن أيضاً مخاوف كثير من الأوساط في الخارج الأوروبي ـ الأمريكي.. ولم يتدخل الحزب، لا قبل ولا بعد المجيء للسُلطة، في أسلوب الحياة الشخصية للأتراك، نساء أو رجالاً. فمن اختارت من النساء ارتداء غطاء الرأس أو الحجاب، كان لهن ذلك، ولكنه لم يؤثر على وجود وانتشار كل صور الترفيه الأخرى، بما فيها ما يُعتبر "مجوناً". فإلى جانب "الآذان" الموحد الذي تصدح به كل مآذن تركيا خمسة مرات يومياً، هناك نوادي الموسيقى الغربية الصاخبة والملاهي الليلية للرقص الشرقي. إن هذا التعايش السلمي بين أساليب حياة متنوعة هو أحد مباهج تركيا في الوقت الراهن.
والله أعلم

semibrahim@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |