الأحد، 20 فبراير 2011

المرجعية الوهابية لتنظيمات القاعدة - شبكة الملتقى الإخبارية


الكراهية الدينية، الطائفية، والتحريض على القتل
المرجعية الوهابية لتنظيمات القاعدة
مجلة الحجاز - 25 / 1 / 2011م - 11:38 ص

بات ملحوظاً نزوع القاعدة نحو الإنغماس في النزاعات المحلية في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وقد واجهت، أي القاعدة، في السنوات الأخيرة إتهامات بالضلوع في مؤامرات خارجية أو التواطؤ مع أنظمة طالما وصمتها بـ (الكفر) أو الموالية للكفار من اليهود والنصارى، بحسب الأدبيات القاعدية. هناك أحاديث في اليمن، على سبيل المثال، عن دور لتنظيم قاعدة الجهاد في الجزيرة العربية في حروب النظام اليمني مع الحوثيين، وفي اختطاف الأجانب، وحتى في استدراج الدعم من السعوديين والأميركيين عبر تصعيد خطر القاعدة، وهناك أحاديث عن دور لتنظيم (كتائب عبد الله عزام) في التجاذب السياسي الداخلي بين الموالاة والمعارضة في لبنان على خلفية المحكمة الدولية، والخطاب الطائفي المتصاعد والمتناغم بين قيادات القاعدة في لبنان وقيادات في (تيار المستقبل)، وهناك أكثر من حديث عن روابط سرّية ومشبوهة لتنظيمات قاعدية مع أنظمة عربية ودولية لها أجندات خاصة في العراق، ما يثير أسئلة عن حقيقة مايجري خلف الستار، مع تعطيل دور القيادات العليا للقاعدة، حيث تتحوّل الفروع إلى أوراق في (لعبة أمم) محدودة أو واسعة النطاق. وإذا ما فتحنا الأفق على أدوار سابقة للقاعدة مع البعثيين في العراق في علاقة غير شرعية أفضت الى سفك دماء الأبرياء في شوارع وأسواق ومدارس العراق، فإن ثمة كلاماً طويلاً يجب أن يصل إلى أسماع من لا يزالون يترددون في وضع الإصبع على نقطة الجدل الحقيقية، خصوصاً بعد تفجيرات سيدة النجاة في بغداد، والكنيسة القبطية في الاسكندرية، والتي تثير، دون ريب، سؤالاً مشروعاً وكبيراً عن مشاريع التفتيت الخفيّة، وكأن (القاعدة) يراد لها أن تتحوّل الى أداة تشظي فاعلة في الأمة على اختلاف مكوّناتها القومية، والدينية، والمذهبية، فقد أوهمت أنصارها الظاهرين والباطنين بالمتعالي لتخوض معارك الفروع والدنى.

فالقاعدة تشعل معركة الطوائف والأديان في كل مكان تتواجد فيه بدءً من الهند ما دفع بكبار المراقبين لأن يتوخوا الحذر من دور للقاعدة في تفجير حرب كبرى بين الهند وباكستان، خصوصاَ بعد هجمات ديسمبر (كانون الأول) العام 2008 على فندق (تاج محل) في مومبي والذي أودى بحياة العشرات، ومروراً بباكستان التي تضع الوهابية بصمتها الحمراء في تصفيات السنة والشيعة تحت مسميّات متعددة، والعراق الذي كادت الفتنة المذهبية تفضي الى تفكيكه، وصولاً الى لبنان الذي دخلت الفتنة الطائفية إليه عبر تنظيم (فتح الإسلام) القاعدي الذي كان فيه للعناصر للسعودية، مقاتلين وممولين وقياديين، حجمٌ وازنٌ، وجاء دور (كتائب عبد الله عزّام) كوارث فتنوي لسابقه القاعدي (فتح الإسلام)، لاستكمال ما فشل الأخير في تحقيقه.

كل الحالات، مهما تشابهت من حيث الاستهدافات والنتائج الدموية، تنبىء عن نفور في السياق الموضوعي، فكل التجارب القاعدية في شبه القارة الهندية، أو في الجزيرة العربية، أو في بلاد الشام والعراق أو في شمال أفريقيا، وصولاً الى الشيشان وقرغيرستان والبوسنه والهرسك هي ليست منتجات أصيلة وليست منسجمة مع التاريخ والهوية والثقافة المحلية، بل جرى تهريبها مع منتجات أخرى جرى السماح بدخولها منفردة، ولكن مالبثت أن كشفت عن ملامح، وغايات أخرى كانت مكتومة. لخّص أحد المراقبين ذلك بأن السعودية حاربت العنف في الداخل ولكنّها شجّعت على هجرته للخارج، فالفائض من التشدّد المنتج وهابياً جرى نقله الى الخارج مع منتجات أخرى تبدو عادية أو لا تشكّل خطراً على البلدان المضيفة. فماذا سيشكّل بناء، على سبيل المثال، مسجدٍ للمسلمين في الشيشان، من خطر على الأمن والاستقرار في هذا البلد؟ ومن السذاجة بمكان تقديم إجابة بريئة على سؤال ليس بريئاً البته. فالمسجد قد جرى تحويله الى وظيفة غير عبادية، ولا حتى إجتماعية، بمعنى معالجة مشكلات المسلمين الاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية، أو المساهمة في تحقيق مفهوم الاندماج مع المكوّنات الاجتماعية والدينية الأخرى وصولاً الى تحقيق مبدأ الدولة التعاقدية. لا، ليس الأمر على هذا النحو، فقد جرى تحويل المساجد والمراكز الدينية، كما الجمعيات الخيرية أحياناً، الى سواتر لمهمات قتالية، وإذا ما طرأ عامل خارجي، متمكّن في مجال استغلال (فائض الغباء) لدى الإنتحاريين المجانيين، فإن بنك الأهداف يبدو أجنبياً بامتياز.

في ضوء ما سبق يمكن قراءة تجربة (كتائب عبد الله عزام)، كأحد أذرع تنظيم القاعدة. ونحاول هنا اقتفاء جذور هذه التجربة، وتكوينها التنظيمي، ومصادر الإلهام التي تستمد منها رؤى، ومواقف، واستراتيجيات في التغيير والمواجهة مع الخصوم. وأول سؤال تثيره هذه التجربة يتّصل حميمياً بالعلاقة بين التنظيم والبيئة التي نشأ فيها أو بالأحرى برز فيها، لأن النشأة قد تشير الى علاقة مشروعة بين التنظيم والأرض، أو بكلمات أخرى قد تعني ولادة طبيعية له، بينما البروز قد يعني غير ذلك.

لئن إتفقنا على التباين بين نشأة وبروز (كتائب عبد الله عزّام)، لا يمكن أن تكون، على سبيل المثال، بيئة لبنانية بأطيافها الدينية (السنيّة على وجه التحديد) تنبثق منها بيانات حملت عنواناً قرآنياً (ولتستبين سبيل المجرمين)، الصادرة بإسم كتائب عبد الله عزام، الأب الروحي والملهم الجهادي لتنظيم القاعدة، ما لم يكن عنصر خارجي قد طرأ على البيئة اللبنانية، وكذلك على بيئات أخرى مماثلة أو متقاربة من حيث شروط التحوّل الاجتماعي والثقافي للدول والمجتمعات. نشير هنا الى ما ذكره الشيخ عمر بكري، الداعية والناشط السلفي القريب من فكر حزب التحرير، قبل أن يقترب فكرياً، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، من تنظيم القاعدة، في مقابلة مع قناة (الجديد) اللبنانية في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2010، من أن (كتائب عبد الله عزام) المقربة من تنظيم (القاعدة) قد تكون مخترقة أمنيا لافتاً إلى أن (البيانات الأخيرة للكتائب تركز على موضوع واحد وهو الهجوم على حزب الله وعلى مخابرات الجيش اللبناني من دون التعرض بمثل هذه النوعية من الهجوم لباقي القوى الامنية).

سلوك الجماعة لا يتطلب كبير جهد لتحديد الوجهة السياسية التي تنتمي اليها، أو على الأقل تخدمها، هذا ما تكشف عنه قائمة الأعداء التي رصدتها الكتائب في بياناتها (سوريا، إيران، المعارضة في لبنان بكل خلفياتها الدينية والمذهبية، الجيش اللبناني) ليسهّل مهمة اختبار المرجعية ليس السياسية فحسب، بل والأيديولوجية، لأن ثمة معجمية خاصة لا يتقنها سوى المتحدّرون من المدرسة السلفية بثرائها الخصامي، ذاك الذي ينضح من بيانات التنظيمات الفرعية للقاعدة خصوصاً (تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب) في اليمن والسعودية، و(كتائب عبد الله عزّام) في بلاد الشام، وتنظيم (دولة العراق الاسلامية).

كتائب عبد الله عزام..من مصر الى العراق الى بلاد الشام

برز إسم كتائب عبد الله عزام أول مرة بعد إعلانها مسؤوليتها عن تنفيذ هجمات منتجع طابا في مصر في 7 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2004، عن طريق سيارة مفخّخة أمام فندق هيلتون طابا، بالإضافة إلى انفجارين آخرين، نجم جميعها عن قتل 30 شخصاً وإصابة أكثر من مائة آخرين، وكان أغلب الضحايا من السيّاح الأجانب. لم يتم التعامل، حينذاك، مع إسم كتائب عبد الله عزّام بصورة جديّة، ولربما نظر إليه كثيرون على أنه مجرد إسم وهمي لإخفاء هوية الجهة الضالعة في التفجيرات، بالرغم من الإشارة البالغة التي تحملها الى كون عبد الله عزّام هو أحد الشخصيات الملهمة لتنظيم القاعدة، ولكن في تفجيرات شرم الشيخ في 23 يوليو (تموز) 2005 بدا واضحاً بأن الجماعة بعثت برسالة مباشرة إلى من يهمه الأمر بأنها تنظيم حقيقي. ومع ذلك، هناك من المراقبين لنشاطات الجماعات الجهادية والقاعدية من توقّف أمام هذه الظاهرة الجديدة، التي ربما زادت الشكوك حولها حين اختفت مجدداً في مصر، لتظهر في العراق في وقت لاحق كجماعة قتالية بإسم (كتيبة عبد الله عزام) كأحد أذرعة جماعة أطلقت على نفسها (كتائب ثورة العشرين)، وقامت بتنفيذ عملية تفجير في عدد من المدن العراقية من بينها العاصمة بغداد، مع ما قد يتردد من تشابكات في الأسماء لتنظيمات فرعية متعدّدة، ترتبط جميعها بالتنظيم الأم.

برز تنظيم بإسم (تنظيم القاعدة في بلاد الشام وأرض الكنانة/كتائب الشهيد عبد الله عزام)، بعد إعلانه مسؤوليته عن إطلاق ثلاث قذائف صاروخية من نوع كاتيوشا (بإستهداف تجمع للبوارج الحربية الأميركية الراسية في ميناء العقبة إضافة إلى ميناء إيلات) في 19 آب (أغسطس) 2005، وقد أفادت التحقيقات الأولية بأن الصواريخ أطلقت من سطح أحد المخازن التجارية في المنطقة الحرفية (حوالي ثمانية كيلو مترات) شمال الميناء، فيما أفادت مصادر أخرى بأن الصواريخ أطقت من أحد المستودعات في إحدى مناطق العقبة حيث أصاب أحدها مستودعاً للقوات المسلحة الأردنية يقع على رصيف الميناء تسبب في مقتل جندي وإصابة آخر بجروح، فيما انفجر الصاروخ الثاني قرب المستشفى العسكري في حين انفجر الثالث في منطقة إيلات الإسرائيلية. وقال مصدر أمني أردني بأن البحث جار عن سوري وعراقيين في العقبة استخدموا لوحة أرقام سيارة كويتية.

وفي منتصف أغسطس (آب) 2005، أعلنت جماعة حملت نفس الإسم (كتائب عبد الله عزّام) مسؤوليتها عن ضرب ناقلة يابانية بواسطة قارب محمّل بالمتفجّرات عند مضيق هرمز، وأعلن عن إسم منفّذ العملية (أيوب الطيشان) والهدف كان بحسب بيان صادر عن المجموعة (توجيه ضربة إقتصادية) إلى ما أسمته (نظام الكفر العالمي) الذي (يغزو البلاد الاسلامية ويستنزف ثرواتها).

الإعلان المتكرّر عن إسم (كتائب عبد الله عزّام) في مصر والعراق والأردن، قد يلقي شكوكاً ليس على هوية الكتائب، فالثابت أن جميعها ينتمي الى تنظيم القاعدة، فكراً وسلوكاً، ولكن الشكوك تحوم حول ما إذا كانت جماعة واحدة أو جماعات عدّة، تحمل الإسم ذاته. ومهما اختلفت الإجابات، فإنه وبحسب تقارير إعلامية سابقة، فإن (كتائب عبد الله عزام) بزغت من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، يقودها السعودي صالح القرعاوي، الذي شارك في قتال القوات الأميركية في العراق، وكان علىى صلة وثيقة مع زعيم تنظيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي. وقد يكون تاريخ تشكيل الكتائب مختلفاً، نظراً للطبيعة السائلة لتنظيم القاعدة، فقد يضمحل تشكيل قاعدي ويرثه تشكيل آخر، وإن هي الإ أسماء متعدّدة مع وحدة الأفراد، والايديولوجيا، والتكتيكات.

يفرض الكلام عن الكتائب إضاءة مباشرة على شخصية القرعاوي، القائد الميداني لكتائب عبد الله عزّام. وكان صالح بن عبد الله بن صالح القرعاوي (28 عاماً) قد غادر المملكة في العام 2006، وسافر للشام قبل ذلك واعتقلته السلطات السورية، والتي سلّمته للسلطات السعودية وتم توقيفه لنحو أربعة أشهر، ثم أطلق سراحه، ومالبث أن غادر المملكة، والتحق بتنظيم القاعدة في العراق. ويعتبر القرعاوي من أخطر العناصر السعودية في الخارج ويوصف بأنه (من أهم مقدّمي التسهيلات والدعم المالي والتزوير وتنسيق سفر عناصر ومطلوبين من التنظيم الإرهابي للخارج). وكان يقوم بتهريب أشخاص الى العراق للالتحاق بتنظيم القاعدة.

القرعاوي هو خريج المعهد العلمي المختص بالدراسات الدينية في بريدة، ومنذ العام 2003 أصبح مداوماً على حضور الحلقات الدعوية وكان من تلاميذ أحد رجال الدين الملهمين لتنظيمات القاعدة في الجزيرة العربية وهو الشيخ سليمان العلوان، قبل اعتقاله بتهمة التحريض على الجهاد ضد الدولة. عمل القرعاوي ضمن لجنة المساجد والمشاريع الخيرية، وكان حينذاك يقوم بأعمال قاعدية كتوزيع مجلة (صوت الجهاد) الناطقة بإسم تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، وعزم على السفر الى العراق عبر سوريا ولكنه أوقف وجرى تسليمه الى السعودية، وسجن ثم أطلق سراحه، وغادر بعدها الى العراق ليبدأ مرحلة جديدة يكون فيه أحد العناصر القيادية في تنظيم القاعدة في بلاد الشام.

وكان القرعاوي قد غادر إلى الإمارات في 29 شعبان 1427هـ الموافق 23 أيلول (سبتمبر) 2006، حيث تلقى تدريبات مكثّفة على الالكترونيات واستخدامها في عمليات التفجير، وحاول توحيد فروع تنظيم القاعدة في العراق ولبنان، وعمل نائباً لمسؤول التنسهيلات للتنظيم (ياسر السوري)، وله علاقات وثيقة مع تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب. ونجح القرعاوي في تهريب بعض المطلوبين من داخل المملكة الى العراق، وكذلك انتقال عناصر من المملكة الى لبنان للإلتحاق بـ (كتائب عبد الله عزام). نشير الى أن تاريخ خروج القرعاوي من المملكة يقع قبل فترة قصيرة من المواجهة العسكرية بين تنظيم (فتح الإسلام) والجيش اللبناني في مخيم نهر البارد، حيث شهدت تلك الفترة خروج عدد كبير من العناصر السعودية القاعدية عبر مطارات الإمارات والبحرين والتحقت بالتنظيم في القتال ضد الجيش اللبناني.

وبحسب أسرة القرعاوي، فإنه تزوج من إبنة القيادي الميداني في تنظيم القاعدة المصري محمد خليل الحكايمة (أبو جهاد)، الذي قتل في ضربة صاروخية أمريكية نفّذتها طائرة من دون طيار في المنطقة القبلية الباكستانية.

وقد نشرت صحيفة (عكاظ) في 15 سبتمبر 2009 بأن صالح عبد الله صالح القرعاوي، المطلوب أمنياً في قائمة الـ 85، قام في 4 سبتمبر (2009) باتصال هاتفي بعائلته التي تقطن مدينة بريدة في منطقة القصيم (بعد انقطاع لنحو عامين). وقد أثار الاتصال علامات استفهام عدّة من حيث توقيته وظروفه، كونه جاء بعد إسبوع من فشل محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف. وروى عبد الرحمن شقيق صالح القرعاوي تفاصيل الإتصال حيث أبلغه الأخير بأنه (يتّصل من أفغانستان).

في مقابلة أجراها (مركز الفجر للإعلام) التابع لـ (كتائب عبد الله عزام) مع القرعاوي في شهر إبريل 2010، حول (رؤيته للصراع في بلاد الشام) جرى الحديث عن ساحتين: الجزيرة العربية (جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم بحسب نص المقابلة)، وبلاد الشام (معقل الطائفة المنصورة أرض الشام، وأيضاً بحسب نص المقابلة). وكشف القرعاوي بأن الزرقاوي كلّفه للقيام بمهمة خارج العراق. ولكن تم اعتقاله في سوريا وجرى تسليمه للسلطات الأمنية السعودية، وتم إيقافه مدّة يسيرة وخرج من السجن ليعود الى العراق مع عدد من رفاق دربه بعد الإفراج عنهم (فقررنا خروج الإخوة من الجزيرة وإعادة الكرة فيما بعد، كما خرج محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة ورجع إليها فاتحاً..) وبلغ عدد من خرج أكثر من خمسة عشر عنصراً.

ورغم أن القرعاوي لم ينف تهمة خطف الأجانب واستهداف المصالح الأجنبية، بل اعتبر (المصالح الأميركية) هي من أهم أهداف التنظيم، إلا أن البيانات الأخيرة التي صدرت عن (كتائب عبد الله عزام) في بلاد الشام تكشف بوضوح عن أن ثمة استراتيجية جديدة وربما تكون طارئة للتنظيم، وقد تكون على صلة بأوضاع لبنان، وتحديداً المحكمة الدولية.

عرّف القرعاوي (كتائب عبد الله عزّام) بصواريخ أطلقوها على شمال فلسطين المحتلة، وقسمّها الى عدّة سرايا منها سرية (زياد الجراح) لضرب اليهود في فلسطين، فتم إطلاق صواريخ على فلسطين المحتلة في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 2009. ووصف القرعاوي العملية بأنها (خرق الحصون)، في إشارة الى حزب الله وقوات اليونيفيل ومخابرات الجيش اللبناني.

بدا القرعاوي كما لو أنه يحاول، ظاهراً، تفادي الإنغماس في الشأن اللبناني على أساس أن أولويات الكتائب هي (توعية المسلمين عقدياً وسياسياً وتجييشهم ليقوموا بدورهم في معركة الأمة مع القوى الصليبية واليهودية الغربية، وقتال اليهود لتخفيف الضغط على إخواننا المسلمين في غزة وإعانة لكل من يحمل سلاحه لقتال اليهود لإعلاء كلمة الله ونصرة المستضعفين). ولكن الاجابات اللاحقة والبيانات الثلاثة من سلسلة (ولتستبين سبيل المجرمين) تعكس انخراطاً كثيفاً لدى القرعاوي وكتائبه في الشأن اللبناني، بل توارت الساحة الأخرى، أي (جزيرة محمد)، ولم يعد هناك سوى لبنان، ساحة حرب، بما يوحي وكأن ثمة أجندة جرى تعديلها أو بالأحرى إعدادها لهذه المجموعة كيما تقوم بها في مرحلة قريبة.

القرعاوي الذي بدا وكأنه يقف وراء البيانات الثلاثة، بحسب ما تكشف عنه محتويات ولغة المقابلة، هاجم الجيش اللبناني، وقال بأنه يكيل بمكيالين، وأنه (يعامل أهل السنة في لبنان بالبطش والقتل والتعذيب والسجن والقهر والمداهمات..)، وأنه (خاضع للنفوذ الشيعي المتمثل في حركتي حزب الله وأمل برعاية إيرانية سورية..). وهاجم أيضاً قائد الجيش بعد أن قال بأن من قام باطلاق الصواريخ على فلسطين المحتلة بأنهم مشبوهون وعملاء. وشنّ هجوماً شرساً على الشيعة وحزب الله واعتبر كل المواجهات بين الأخير والكيان الاسرائيلي هي مؤامرة متفق عليها بين الطرفين، وأن حزب الله يمارس دور حراسة الحدود الاسرائيلية، ويحاول التضييق على أهل السنة في لبنان. من اللافت أن القرعاوي وضع من بين أهداف تنظيمه (إحياء الإنتماء لأهل السنة في قلوب الشباب..)، في إشارة واضحة الى مفهوم محدد لدى القرعاوي، يستبعد منه كثيرين بمن فيهم حركات المقاومة السنيّة في فلسطين التي يضعها في خانة (حرس الحدود) وينسحب ذلك على حركة حماس في غزّة بقوله (وترون الفرق بيننا وبين من يدعي النصرة وحقيقته أنه من جند اليهود وحرّاس الحدود، فلا هو بالذي ساهم في تخفيف الحصار عنكم بإطلاق صاروخ واحد على اليهود من ترسانته المتخمة بأحدث الصواريخ وأقواها، ولا هو بالذي تركنا نعمل على ذلك، بل هو يشتد في طلبنا والتضييق علينا حماية للحدود مع اليهود، فاعرفوا هؤلاء واكشفوا حقيقتهم للعامة..).

ـ بيانات (ولتستبين سبيل المجرمين)

في البيان الأول لكتائب عبد الله عزام بعنوان (ولتستبين سبيل المجرمين) يبدأ بالمقطع التالي:

(فتدنس أرضُ لبنانَ الأسيرةُ اليوم بمقدمٍ غيرِ ميمون، للرئيس الإيرانيِّ أحمدي نجاد، الذي قدم متفقِّدًا الأرضَ التي أقطعه إياها الصليبيون، في صفقةٍ خسيسةٍ آثمةٍ بين إيران الصفوية المتمددة الطامعة، وأمريكا الصليبية المنسحبة الحسيرة؛ فلبنان وغيرها هي المثمن، وتحمل إيران لمشاقِّ الحرب على الإسلام هو الثمن، وأهل السنة هم الشاهد الغافل الخاسر إن سكت وظل معلِّقًا أمله على عدوه وعملاء عدوه، ورضي بالتبعية لمن يقتسمون السيطرة عليه، وأبى أن ينتزع حقَّه واستقلال قراره بيده وبجهد أبنائه).

لغة يدرك المراقب لحركة التاريخ والثقافة والإجتماع في لبنان، أنها لا يمكن أن تنتمي اليه في أي لحظة، وأنها لاشك قد دخلت خلال سنوات قليلة لا تتجاوز الخمس أو الست سنوات. وهي دون ريب لا تنتمي إلى تجربة الحركة الاسلامية السنيّة في الشمال اللبناني التي كانت وثيقة الصلة بتجربة حركة الإخوان المسلمين أو إلى حد ما حزب التحرير (رغم نجاحاته المحدودة)، وبالتالي فالحديث يدور عن ثقافة إرتبطت على وجه التحديد بحركة الصحوة السلفية التي انشقت في مرحلة لاحقة عن تنظيم القاعدة.

مصطلح (السنة) بغزارته الطائفية، ورد نحو 131 مرة في البيانات الثلاثة، محمولاً على لغة طائفية تحريضية، لا تعكس بحال ثقافة أصيلة. بل إن المراقب لكثافة البيانات وشحنات الطائفية المندّسة فيها يدرك بأن ثمة جماعة خارجية تسللت الى المجتمع الإسلامي السني اللبناني وفرضت نفسها عليه كناطق قهري بإسمه، وممثلاً عنه. لاشك، أن في الطبقة السياسية السنيّة المقرّبة من الحكومة من ساعد الجماعة السلفية القاعدية القادمة من الخارج على الإضطلاع بدور كهذا. ولا يستبعد أن تكون (كتائب عبد الله عزّام) هي النسخّة المعدّلة وراثياً لتنظيم (فتح الإسلام) الذي يعتبر ورقة محروقة لبنانياً، بعد دخوله في مواجهة مسلّحة مع الجيش اللبناني في العام 2007.

في البيان الأول لكتائب عبد الله عزّام والصادر في 13 أكتوبر 2010 ثمة نبوءة ذات طبيعة إيحائية بأن مواجهة حتمية بين السنة والشيعة (وإننا في كتائب عبد الله عزام نتوقع أن المعركة قادمة لا محالة..)، فيما يتم توظيف التحذير من الفتنة الذي أطلقته قيادات سورية ولبنانية محسوبة على حزب الله لتعزيز النبوءة القاعدية، وكأنها تفصح عن استبطانات سابقة لمعركة يراد إشعالها، حيث يرسم البيان صورة طائفية للمعركة، تكون فيها إيران وسورية وحزب الله طرفاً في مقابل أهل السنة، فيما يخرج العاملان الأميركي والاسرائيلي من المعادلة، في إيحاء واضح بأن المعركة يراد لها أن تكون طائفية بحت.

نظرت (كتائب عبد الله عزام) الى زيارة الرئيس الايراني أحمدي نجاد الى لبنان على أنها (التوقيع على قرار الشروع في إبادة أهل السنة)، فهل تكون زيارة رجب طيب اردوغان، رئيس الوزراء التركي، الى لبنان للتوقيع على قرار الشروع في إبادة أهل الشيعة مثلاً، باستعمال نفس المنطق؟!.

ينسج البيان، وهذا يشي بمنزع سلفي/وهابي سافر، قصة المؤامرة الصهيوصليبية والشيعية ضد أهل السنة، وهي مؤامرة يتقن الوهابيون في وسط الجزيرة العربية دون سواها من مناطق العالم تصميمها، حتى صارت دليلاً إرشادياً لا يخيب إلى مصدرها. فهم يضعون المواجهة بين حزب الله والكيان الاسرائيلي في سياق لعبة متفق عليها بين الطرفين، وكذلك المواجهة بين الولايات المتحدة والغرب عموماً من جهة وإيران من جهة ثانية، بل إن المواجهة بين معسكر الممانعة بكل أطيافه السنية والشيعية من جهة والغرب والكيان الاسرائيلي من جهة أخرى لا تعدو أن تكون لعبة تواطؤ بين طرفين..فما هو موقع معسكر الإعتدال في هذه المعادلة؟!

في البيان رقم (2) من سلسلة (ولتستبين سبيل المجرمين) بتاريخ 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، وهو عبارة عن رسالة من (صالح بن عبد الله القرعاوي) إلى أهل السنة في بلاد الشام. يبدأ القرعاوي رسالته الى (أهل السنة والجماعة في بلاد الشام) بحسب البيان، بالتعريف بنفسه لا من خلال الهوية ولكن من خلال الرسالة التي يحملها (..وليست تحلو الدنيا في عيني، ولو حزتُها كلها، وأنا أرى قومي وأهلي يتسلّط عليهم عدوّهم، فيمنعهم من دينهم، ويسلب منهم دنياهم، وكيف ينامُ ذو المروءةِ ولو ملك الدنيا كلَّها، وأهلُه مستضعفون يعيشون الذلَّ والهوان، يُسَجَّنُ أبناؤهم، ويُهانُ شِيبُهم، ويُخرجونَ مِن أرضِهم، وتؤكلُ حقوقُهم كلُّها؟..). من يتأمل في طريقة صوغ البيان، والسبك لابد أن يستحضر أسلوب الخلفاء والمصلحين الذين جاءوا لأقوامهم برسالة إنقاذية وتحذيرية (..فاسمعوا مني وتأمّلوا في خطابي، فإن وجدتم كلامي كلام نصحٍ ورشدٍ وهدى فخذوه، وإلا يكن كذلك فاطرحوا، لكن ليكن حكمكم بنظرٍ متجرّدٍ في طلب الرشد، ولا يؤثّر فيه ما يلقيه إليكم شياطين الإنس الذين يزعمون أنّهم إخوانكم..الخ).

البيان يحمل تحريضاً واضحاً ضد النظام في سورية وينسحب ليشمل الشيعة عموماً (ويكون الدين لله، إذا ارتفع تسلّط الظلمة ـ من الباطنية والشيعة وغيرهم ـ عن أهل الإسلام وبلاد المسلمين..) وفي مكان لاحق يلفت القرعاوي الى حال أهل السنة (ونحن إذا نظرنا الى أحوال أهلنا في لبنان وسوريّة وسائر بلاد الشام، وجدنا أنهم من أعظم الطوائف المظلومة المستضعفة في هذا الزمان، فالظلمُ نازلٌ بهم بكلِّ صورِه، وبأعظمِ مستوياتِه؛ فهو ظلمٌ في الدينِ وظلمٌ في الدنيا؛ على يَدِ الطوائفِ المهيمنةِ على عبادِ اللهِ في أرضِ الشام، الناهبةِ لثرَواتِها، المفسدةِ لها؛ مِنَ الباطنيةِ العلويةِ والشيعةِ الصفويةِ..). والبيان يستهدف، كما أسلفنا، ثلاث جهات: حزب الله، والنظام السياسي في سورية، والجيش اللبناني، كما يظهر من الأسئلة الاستنكارية التي أوردها في بيانه.

تبدي لغة البيان الثاني إشارة ذات إيحاءات سياسية لبنانية خاصة. ولنتأمل في هذه الفقرة (يا أهلَنا أهلَ السنةِ والجماعةِ، لقد سمعتُم ما صدَرَ مِن أقطابِ ما يُسمَّى بالمعارضةِ أخيرًا مِن رفضِهم التعاملَ معَ المؤسساتِ الأمنيةِ لمخالفيهِم، وطَلَبِهم التمَرُّدَ عليها، وعدمَ الاستجابةِ لها، وأنها ما هي إلا عصابةٌ ومافْياتٌ كما ذكروا، فإن كان ما ذكروه حقًّا مِن كونِها مافيات؛ كان مِن حقِّهم أن يَدعوا لذلك جلبًا لمصالحِ طوائفِهم..)، وهنا يميل القرعاوي الى الكشف عن ميوله السياسية لبنايناً، فهو يدخل في لعبة الاصطفافات، ويضع نفسه في معسكر الموالاة في مقابل معسكر المعارضة، كما ينبىء دفاعه عن قوى الأمن الداخلي (بقيادة سنية)، في مقابل الجيش، وخصوصاً جهاز المخابرات التابع له (بقيادة شيعية). يقول القرعاوي (فندعوكُمْ إلى مقاطعةِ المؤسساتِ الظالمةِ لكُم والمضيعةِ لحقوقِكُمْ أيًّا كان انتماؤها، وبخاصةٍ مخابراتِ الجيشِ وعساكرَه؛ فلترفضوا التعاملَ مع حواجزِه، ولتدعوا إلى عدمِ الانصياعِ لمطالبِه..)..حاول القرعاوي نفي الاصطفاف السياسي عن كتائبه في مكان لاحق، معتصماً بدعوى الدفاع عن أهل السنة في بلاد الشام، ولكن البيان برمته يفصح عن حقيقة أخرى، وهي أن مضمون البيانات الصادرة عن كتائب عبد الله عزام تلفت إلى جنوح سياسي واضح نحو فريق 14 آذار الحاكم، وأن الكتائب نفسها تحوّلت الى أحد الأدوات الرئيسية في المعركة/الفتنة الداخلية التي يجري تحضيرها لمرحلة مابعد صدور القرار الظني.

وما هو أهم، أن هوية القرعاوي السعودية تتوارى هنا، في محاولة لإعادة تموضع وافتئات على السنّة في لبنان. يبدو القرعاوي كما لو أنه بات لبنانياً، أو ممثلاً مستعاراً إن لم يكن قهرياً لأهل السنة في لبنان. فالرجل يستخدم عبارات حميمية من قبيل (أهلنا)، و(نحن) بنيّة مبيّتة بمصادرة حق الإختيار لدى السنّة في لبنان، عبر النطق بإسمهم وتخويل نفسه حق تشخيص مظلومية السنة وتحديد خياراتهم السياسية أيضاً.

عوداً الى محتويات البيان، نقرأ عن سورية، التي وصفها بالأسيرة فقال عنها القرعاوي بأنها (القائد الميداني للمعركة في بلاد الشام عموماً، وفي لبنان بنحوٍ مؤثر، وأمن لبنان واستقراره مرتبط بتقليل نفوذ الحكومة العلوية في لبنان وتحركاتها فيها..ولا يجوز بحال أن يبادَ أهلكم في فلسطين ولبنان، بأيدي اليهود والحكومة العلوية، ثم يسلمون، أعني اليهود والعلوية وتابعيهم من الطوائف الباطنية ـ من المقابلة والردود المماثلة..).

وحول زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الى لبنان وجنوبه، عاد القرعاوي لتأكيد موقفه مرة أخرى، في سياق ما يمكن وصفه بعقلية بارانويا ثرية في إنتاج القصص المواربة، حيث تتحوّل شجاعة نجاد خلال جولته إلى لبنان إلى مجرد مسرحية بهلوانية في نظر الخط السلفي الوهابي في تنظيم القاعدة، الى حد بالغ القرعاوي في توصيف قوة الكيان الاسرائيلي بما يجعل من إفلات نجاد من القتل مستحيلاً، لو شاء الاسرائيليون له ذلك (ولو كان اليهود يريدون قتله لقتلوه بيسر، فطائراتهم تحتل سماء لبنان وتحلّق فيها، لكن حماية له لا تهديداً..)!.

وفي السياق نفسه، يضع القرعاوي حزب الله مكوّناً في قصة المؤامرة بقوله (واعلموا أن الحزب ـ أي حزب الله ـ قد جمع السلاح ليستعمله في الصراعات الداخلية، في ذبح أهل السنة والجماعة..). وهنا تبدو عملية الشحن للغرائز الطائفية في أقصى طاقاتها، وكأن ثمة من يريد لها أن تندلع كيما تكون جاهزة لمعركة ينذر القرعاوي ورفاقه بوقوعها. (لكننا نحسب أن لحم أهل الشام سيكون مرّاً علقماً على أبناء العلقمي الباطنية..)، لغة لا نجد أثراً لها سوى في الأدبيات الوهابية، تماماً كما هو التصوير السكاتالوجي الذي يجمع الشيعة واليهود تحت راية المسيح الدجّال لحرب أهل الاسلام في آخر الزمان، بحسب القرعاوي، الذي لا ينسى أن يجد في حديث نبوي زعماً لما يؤكد تصويره.

شملت حملة انتقادات القرعاوي أهل السنة في لبنان والمحسوبين على معسكر المعارضة، فانتهى للحكم عليهم قائلاً (فهم عند كل ذي فطرةٍ خونةٌ عملاء، خانوا دينهم، وباعوا أهلهم، وانحازوا لعدوّهم الذي يحارب المسلمين حرباً صريحة..) يقصد بالعدو، بطبيعة الحال، حزب الله. ويقسّم القرعاوي أعداء أهل السنة الى قسمين: خارجي يتمثل في الكيان الاسرائيلي، وداخلي وهو (المتمثل في الشيعة الحاقدين الطامعين، ومن كان عميلاً لهؤلاء فهم في ميزان العدل كالعميل للسابقين..)، بل يعتبر المقاومة في لبنان بأنها ليست (إلا مقاومة الوجود السني بالقتل والتهديد والإذلال..)..وهذا التقسيم مخالف لما ذكره قيادات القاعدة، وعلى وجه الخصوص الشيخ أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري كما سيأتي.

ثمة تطابق ملفت في عبارة وردت في البيان الثاني (فإن الطائقة المظلومة أهل السنة ستتحرّك ولابدّ، للإقتصاص ونصرة نفسها من عدوّها الرئيس رأس الأفعى، ومن أدواته الخسيسة في لبنان)، مع كلام ظهر في وثائق ويكيليكس منسوب الى الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي طالب بقطع رأس الأفعى، في إشارة إلى إيران..هل ثمة مطبخ مشترك للبيانات؟!

وفي البيان رقم (3) ضمن سلسلة (ولتستبين سبيل المجرمين) والصادر بتاريخ 23 كانون الأول (ديسمبر) 2010 وفيه رسائل محددة الى كل من: الجيش اللبناني، طوائف لبنان من غير الشيعة، سجن رومية. يبدأ البيان بعرض للنظام السياسي الطائفي في لبنان، وحصص كل طائفة في هذا النظام. ثم يتناول دور سورية في لبنان حتى خروجها في العام 2005، ويقول (وبعد خروج السوريين العلويين وجزء كبير من مخابراتهم من لبنان، وكل الأمر لحزب الله، فمن رضي عنه الحزب والشيعة عموماً..حُمي ودعم ويقوى جانبه، ومن خالف الحزب ولم يرض عنه قادة الحزب، فإن التهميش والإقصاء عن الساحة مصيره..)، ويعتبر أن الجيش ظاهراً تحت قيادة النصارى متمثلين في قيادته، ورئيس مخابراته، ولكن واقع الحال غير ذلك، حسب البيان، بمعنى أن الشيعة هم يسيطرون فعلياً على الجيش ومخابراته. ويذكر البيان عميداً في الجيش اللبناني إسمه عباس إبراهيم ويعتبره البيان (العقل المدبّر للحرب على أهل السنة، وهو من يقف وراء سفك دمائهم وظلمهم..). وبالغ البيان في تصوير دور للعميد إبراهيم بما يجعل بقية الأجهزة العسكرية والأمنية وحتى السياسية عاجزة عن الوقوف أمامه وكبح جماح سلطانه.

يقول البيان بأن (كتائب عبد الله عزام..لا نرى مواجهة الجيش ابتداءً..ولا نرى العمل الداخلي في لبنان، وليس لنا هدفٌ في أولوياتنا إلا مقاتلة اليهود المحتلين، والدفاع عن أهل السنة المظلومين..)، فلماذا تشكّلت الكتائب في لبنان، ولماذا اقتصرت لغة البيانات واستهدافاتها على الداخل اللبناني وفي أقصى الأحوال بلاد الشام، فيما لم يأت ذكر الإحتلال الإسرائيلي لجزءٍ من لبنان، أو حتى الاحتلال الأميركي للعراق، أو الوجود العسكري الأميركي في الخليج..كل ذلك كان غائباً في بيانات الكتائب، فأين هي الأولويات؟!

كل ما جاء لاحقاً في البيان لا يخرج عن إطار التحريض الطائفي، ودعوة للتمرد على المؤسسة العسكرية، الممثلة في الجيش اللبناني ونفي كونه مؤسسة وطنية، وكأن ما لا يقوله فريق الموالاة تتولى كتائب عبد الله عزام الجهر به عالياً، كالقول (أن العدوّ الذي يسيّر الجيش وأفراده وعساكره، هم الشيعة..وإن هؤلاء العساكر ماهم إلا أدوات في أيدي أولئك يحرّكونها كيف شاؤوا..وإنكم إذا قطعتم رأس الأفعى ماتت..ومات ذيلها..فلا يشغلكم السعي وراء الأدوات التي كلما ذهب بعضها جاء غيرها..)، ألا يعني ذلك سوى الفتنة السنية الشيعية؟!

في المحور الثاني: كلمة إلى طوائف لبنان، ثمة خطاب يراد توجيهه الى الطوائف الأخرى لتحذيرها من سيطرة الشيعة على الجيش ومخابراته، والهدف هو دعوة هذه الطوائف لأبنائها في الجيش بعدم الخضوع للشيعة للبطش بأهل السنة! (فندعوكم إلى أمر رشدٌ لا يرفضه عاقل، وهو أن لا تقحموا أنفسكم في معركة عليكم ضررها ولغيركم نفعها، بمساعدة الظالم على ظلمه، ونحن لا نرضى أن يثبت أحدٌ وجوده على حسابنا..).

في المحور الثالث: جوانتنامو لبنان (سجن رومية) ثمة توجيه مقصود الى إقحام حزب الله في اعتقال وتعذيب عناصر القاعدة المسجونين في سجن رومية، (نحمّل المسئولية الكبرى لحزب الشيعة ومتنفّذيهم، لأنهم هم من يدير المحاكم العسكرية، والدولة الفعلية تحت سيطرتهم فهم يحبسون من يشاؤون ويفرجون عمّن يشاؤون، بحسب ولاء السجين لهم..).

القاعدة والشيعة..الخطاب المتحوّل

بعد العرض السابق نقف أمام مفصل هام وخطير، وعليه مدار الإنشعاب الكبير في خطاب القاعدة. حين نقرأ مسار الخطاب القاعدي خصوصاً إزاء الشيعة، نقف أمام خطّين متنافرين داخل تنظيم القاعدة، وقد يرشد ذلك الى مرجعية فكرية من جهة ومرجعية سياسية وتنظيمية من جهة ثانية، وكلاهما يعملان بصورة مستقلة أحياناً أو متنافرة حيناً آخر. برنارد هيكل، الأكاديمي المتخصّص في شؤون الحركات الاسلامية، يقرأ القاعدة على أنها (نتاج مسارين أيديولوجي وديني غالباً ما كانا في حالة توتّر، وخصوصاً فيما يرتبط بالتعامل مع الشيعة)، المسار الأول يمثّله الإخوان المسلمون، وهي حركة لطالما شدّدت على الوحدة الاسلامية، وعارضت الإنغماس في الخلافات بين المسلمين خشية إضعاف الجهود لتأسيس دولة يتم فيها تطبيق الشريعة. أما المسار الثاني في القاعدة فهو السلفية، وهي الحركة التيولوجية التي تشدّد أولاً على تطهير المعتقدات وممارسات المسلمين الغاوين. (برنارد هيكل، الجهاديين والشيعة، الفصل التاسع، ص 202، بحث في كتاب مشترك باللغة الانجليزية صادر عن مركز مكافحة الارهاب بعنوان (جروح البلاء الذاتي..مناظرات وانقسامات داخل القاعدة وأطرافها) تحرير كل من عسّاف مقدم، وبريان فيشمان والصادر بتاريخ 16 ديسمبر 2010.

لايمكن، قبل العام 2003، أن نعثر في كتابات وخطابات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري ما يشير إلى موقف خصامي ضد الشيعة، ولم ينخرط أي منهما في مناظرات مذهبية، وكان بن لادن متحفظاً في مهاجمة الشيعة، وهذا دون ريب إنعكاس لتأثير الاخوان المسلمين على فكره، كما أن هناك عاملاً آخر وهو أن إبن لادن سعى لأن يقدّم نفسه باعتباره شخصية وحدوية لجميع المسلمين ضد (الكفار)، ويمكن أن يقال الشيء ذاته بالنسبة لأيمن الظواهري، مع أن الأخير ينتمي فكرياً وحركياً الى الاخوان المسلمين في مصر. في واحد من أبرز أعماله الفكرية (فرسان تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم)، كان الظواهري واضحاً في رسم مسار الحركة الجهادية التي ينتمي اليها، والتي شكّلت مصر في منتصف الستينيات نقطة انطلاقتها، وهناك افترقت الخطوط على أساس تحديد جهة وهوية العدو، فقد اختار الخط العام في الاخوان المسلمين العدو الخارجي كجهة إستهداف، بينما اختار خط آخر يمثّله سيد قطب العدو الداخلي، الذي يقول عنه الظواهري (لا يقل خطورة عن العدو الخارجي، بل إنه الأداة التي يستخدمها العدو الخارجي والستار الذي يحتمي وراءه في شن حربه على الإسلام) (أيمن الظواهري، فرسان تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم، ص 11). والمائز الآخر، أن المجموعة المقرّبة من سيد قطب إختارت أن تقرن الأقوال بالأفعال، فقرّرت الجهاد منهجاً في التغيير. ومن هناك يؤسس الظواهري لتنظيم القاعدة صيرورته التاريخية.

في الباب الأول من الجزء الثاني بعنوان (أعداء الإسلام) يحدّد الظواهري ثلاثة أعداء: الامريكان، اليهود، الأنظمة الموالية لهما. وفي تناوله في الباب الثاني بعنوان التيارات الاسلامية، كانت مرجعية الظواهري ليست سلفية، بل لم يذكر من بين أسماء العلماء المؤسسين للحركة الجهادية سوى الشيخ محمد بن ابراهيم، المفتي العام للمملكة في عهد الملك فيصل والذي كتب نقداً في تحكيم القوانين الوضعية في السعودية حينذاك. حين نقارن ما يقوله الظواهري مع بيانات القرعاوي نجد بوضوح التباين في الخطاب لدى كل منهما إزء هوية الأعداء.

يلحظ هيكل تحوّلاً في موقف القاعدة منذ العام 2003، وهو العام الذي سقط فيه النظام البعثي في العراق، حيث غادرت الطبقة القيادية في تنظيم القاعدة رؤيتها الاخوانية تجاه الشيعة، وأصبحت تتبنى منذ ذلك التاريخ الموقف السلفي المتشدّد (هيكل، المصدر السابق، ص 203) وقد لعب ابو مصعب الزرقاوي دوراً في استدراج قيادة القاعدة نحو موقف أكثر تشدّداً تجاه الشيعة، ما دفع الشيخ محمد المقدسي أحد أبرز منظّري الفكر الجهادي الى معارضة الزرقاوي في تكفير عموم الشيعة وقتلهم، وقال بأنه (لا يجوز تكفير عموم الشيعة، وأنه يستند في ذلك إلى أقوال أئمة أهل السنة خصوصا شيخ الإسلام بن تيمية، وبالتالي فان استهدافهم بالقتل عمل غير شرعي)، بحسب مقابلة مع قناة (الجزيرة) في تموز (يوليو) 2005.

أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، بعث برسالة من 12 صفحة في تشرين الثاني (أكتوبر) 2005 الى أبي مصعب الزرقاوي يدعوه فيه الى تجنّب قتل الشيعة وقال له (الكثير من أنصارك المسلمين من عامة الشعب يتساءلون حول هجماتك علي الشيعة). وأضاف الظواهري بحسب هذه الرسالة (حدة هذه التساؤلات تزداد عندما تستهدف الهجمات أحد مساجدهم وتزداد أكثر عندما تستهدف الهجمات مقام الإمام علي). ومضى يقول (بنظري فإن الشعوب المسلمة لن تقبل بذلك مهما حاولت التفسير وستواصل مناهضتها لذلك). وطالبه بعدم الإنغماس في خصومات جانبية تؤدي الى ضياع أهداف التنظيم وقد تخلق بيئة معادية له.

بعد مقتل الزرقاوي ونشوء قيادات فرعية متعدّدة في ظل شبه قطيعة بين ابن لادن والظواهري مع فروع التنظيم، بدأ التيار السلفي الوهابي بلونه الطائفي يفرض هيمنته على الإتجاهات الفكرية لدى القاعدة، بل ويسمح بدخول أجهزة استخبارية إقليمية ودولية لتوظيف فروع التنظيم في معارك داخلية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجيل الجديد من كوادر القاعدة، بمن فيهم الكوادر القيادية قد تخرّج من المدرسة السلفية الوهابية في القصيم، ولم يختلط أفراده أو يتعرّفوا على الأفكار الإسلامية الحركية المتسامحة لدى الاخوان المسلمين، ولذلك كان من الطبيعي أن ينشأ هذا الجيل على التشدّد الديني والنزعة الطائفية الحادة إزاء بقية المذاهب الأخرى، ومن بينها المذهب الشيعي.

المفتي وتوبة الخارجين على الدولة

في كلمة مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ خلال استقباله لمن أطلق عليهم (التائبين عن الفكر الإرهابي) في 14 محرم 1432هـ ـ 21 ديسمبر 2010 ما يلفت إلى أن التوبة ليست عن فكر إرهابي ضد الآخر، الديني، ولا الخارجي، بل هي توبة عن فكرة الخروج على الدولة (مما نحمد الله عليه أن جعلنا وإياكم في بلد يحكمه رجال ذوو القلوب الكبيرة، ملؤها العطف والشفقة والحنان والحرص.. أعظم دليل وأجلى حجة.. احتضان أمثالكم من شباب وأبناء هذا الوطن الذين أخطئوا الطريق.. لكن رغم كل ذلك شملهم العفو والصلح من ذوي أصحاب القلوب الكبيرة من ولاة الأمر.. ومن هنا جاءت مبادرة الحوار والمناصحة من القيادة الرشيدة من قبل السوط والعقاب.. فكانت من ثمرة هذه السياسة الحكيمة ما نراه اليوم من هذه الوجوه الكريمة من ثلة من الشباب الذين قد أنقذهم الله من تأثير دعوة أصحاب الفكر المنحرف والفئة الضالة ، فأدركوا الحقيقة واهتدوا سبيل الرشد والصواب ، ونأوا بأنفسهم عن سلوك طريق الشذوذ والضلال والتكفير والتفجير... نشكر قيادتنا الرشيدة، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين ونائبه الثاني، وغيرهم من المسؤولين بما تحلوا من الشفقة والرحمة والصفح عن الأخطاء والزلات، وفتح أبوابهم لأبنائهم بالتوبة والأوبة، والاندماج في المجتمع وإعادة مكانتهم الاجتماعية لهم).

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |