إختزال الدين في الأيديولوجيا .. لاهوت التحرير عند علي شريعتي وحسن حنفي
دراسات وبحوث
إختزال الدين في الأيديولوجيا .. لاهوت التحرير عند علي شريعتي وحسن حنفي
"لاهوت التحرير" مصطلح تداوله الباحثون في الستينات من القرن الماضي،
وان كان مدلوله يواكب الأديان في مختلف العصور، فالأديان تسعى لمناهضة الظلم والتسلط والإستبداد والطغيان، وعبَّر عن لاهوت التحرير في القرن العشرين جماعة من رجال الدين والكنائس في امريكا اللاتينية، بعد ان عملوا على اكتشاف المضمون الإجتماعي الثوري للعقيدة، وتوظيفها في مقاومة الإستعمار، وإعتمادها كمرجعية في النضال والتحرير. انخرط الراهب كاميو توريز ورهبان شباب آخرون في المقاومة الوطنية، بدوافع ايمانية، وفهم ديني للثورة. " فنشأ لاهوت التحرير كأيديولوجية ثورية تحررية شعبية للجماهير، تربط بين الدين والثورة، والإيمان والعدالة، والله والشعب، والعقائد والمطالب الإجتماعية، والوحي من ناحية والحرية والإخاء والمساواة من ناحية أخرى"[1]. ومنذ القرن التاسع عشر كان الإسلام وميراثه الفقهي منبع إلإلهام المحوري الذي استقت منه حركات المقاومة في بلادنا، واستلهم الثوار من فقه الجهاد مشروعية كفاحهم، ومن مفاهيم التضحية والشهادة حوافزهم وشعاراتهم النضالية.
وفي السبعينات من القرن العشرين اهتم مجموعة من المفكرين بصياغة رؤية عميقة للمقاومة، تتخطى الفقه، وتعمل على الإستناد الى العقيدةكمنطلق للثورة، بتحليل المدلول الإجتماعي لإصول الدين، واستلهام الثورة من العقيدة. وأبرز ممثلي هذا الإتجاه، الدكتور حسن حنفي، في مصر، من خلال مشروعه"من العقيدة الى الثورة"، والدكتور علي شريعتي في إيران "1977"، من خلال" بناء الذات الثورية" بتحويل الدين الى ايديولوجيا للثورة، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر في العراق(ت 1980)، عبر إكتشاف "المدلول الاجتماعي لأصول الدين"، والتعرف على أثر العقيدة في مسار التاريخ البشري.
في هذا المقال سنقصر الحديث بإيجاز عن الملامح الأساسية لرؤية الدكتور علي شريعتي والدكتور حسن حنفي في تحويل الدين الى أيديولوجيا واختزاله في لاهوت التحرير.
علي شريعتي: الدين أيديولوجيا الثورة (1945-1979):
كان انتهاء الحرب العالمية الثانية ايذانا بتدشين محطة هامة في مسار حركة التحديث في ايران، تنامت فيها فاعلية الأفكار والتيارات السياسية والاتجاهات الايديولوجية المتنوعة، ونشطت الحلقات النقاشية، وتطور الحراك الثقافي، وانبعثت طائفة من التساؤلات اللاهوتية، والرؤى الدينية التي تخطت التفكير التقليدي. في هذه المرحلة واصل محمد رضا شاه جلوسه على العرش خلفا لوالده (1941-1979)، حتى خروجه من ايران.لم يتحرر محمد رضا من النهج الشمولي الاستبدادي، الذي اختطه سلفه، ولم يتمكن من تشييد نظام سياسي مرن ومنفتح، تتسع فيه مساحة مشاركة المجتمع في السلطة، وبالرغم من الترقيعات التحديثية الاقتصادية، خاصة مشروع الاصلاح الزراعي الذي أطلقه مطلع الستينات من القرن العشرين، غير انه فشل في كسب ود النخبة، فضلا عن الجماهير، التي كانت تدين بالولاء والطاعة للمرجعيات الدينية. اهتم الشاه بالتبشير بأيديولوجيا تعصبية، تبتني على مركزية ايرانية، تبشر باسترداد الماضي السحيق للأخمينيين وغيرهم من الأقوام الأوائل، ممن أشادوا التمدن الايراني، وبذل جهودا واسعة من أجل إحياء الرموز والميثيولوجيا الفهلوية العتيقة. واتسم نظامه بطابع استعلائي غارق بالمحاكاة الشكلية للغرب، وحالة نرجسية حادة منكفئة على ذاتها، واضطهاد وقمع جهاز الأمن" السافاك" المعارضين له، وخنق الأصوات الحرة الجريئة في المجتمع، مضافا الى استبعاد محمد رضا لرئيس الوزراء محمد مصدق، المعروف بتبنيه للقضايا الوطنية. كل ذلك عمل على منع المواطنين من المشاركة السياسية، ولم يذك شعورهم بالحماس لأية مبادرة من قبل السلطة، فانعزل النظام بالتدريج، واتسعت الهوة، بين النظام والمجتمع، بمرور الزمن، وأفضت الى ان يجد الشاه محمد رضا نفسه ونظامه غريبا في بلده، بعد طغيان الغضب الجماهيري، وتفجر الثورة الاسلامية، واضطراره للخروج قبيل انتصارها[2].ان تعسف رضا شاه ومن ثم خلفه محمد رضا في فرض النموذج الشکلانی الغربي قسرا على المجتمع الايراني، ولجوءه الى العنف أحيانا في ذلك، كما في خلع زي رجال الدين، وإكراه النساء على عدم ارتداء الحجاب، في عصر الأب. تدابر الإبن والأب مع الميراث الاسلامي لايران، واصرّا على استدعاء الذاكرة الغارقة في التأريخ، ومختلف المفاهيم والاشارات والرموز والعناصر المكونة لها، بغية القطع مع السياقات الاسلامية والماضي القريب للمجتمع الايراني. نجم عن هذا السلوك تكريس الشعور بالانتماء الى الاسلام، وكشف المكاسب الهائلة التي انجزها الايرانيون بعد اعتناقهملهذه الديانة، وبموازاة ذلك انخرط بعض المثقفين في دعوة لتأصيل "الهوية" و"الذاتية" أو العودة الى الذات، ونقد كافة صور التغريب في الحياة الايرانية، وبلغ النقد حد الاتهام بالخيانة للمثقفين المنبهرين بالغرب، المنادين بضرورة استعارة ثقافته ونمط تمدنه. وظهرت في هذه الحقبة مجموعة من الحركات السياسية، ترتكز مرجعيتها على قراءة أيديولوجية نضالية للإسلام، تستقي مشروعية الاحتجاج والثورة على النظام القائم، من العقيدة والشريعة. وأسرفت بعض الحركات في تأويلها للنص فاختزلته في لافتات وشعارات للتعبئة الجماهيرية والكفاح والمقاومة.
أسس الدکتور محمد نخشب (1923-1976) بمعية حسين راضي نهضة الموحدين الاشتراكيين "نهضت خدابرستان سوسياليست"، وهم جماعة من الشباب المتدينين ذوي نزعة اشتراكية، وانصب اهتمام نخشب وجماعته على الأبعاد الأخلاقية والانسانية في الدين، وعمل على انتاج قراءة إسقاطية للنص والماضي والتراث، فخلع عليه صورة اشتراكية، وكان يحسب ان الاشتراكية الانسانية العملية تجسدت في صدر الاسلام، اما الاشتراكية الاوروبية فهي اشتراكية خيالية. انجز عدة آثار، وهي: الانسان المادي، صراع الكنيسة والمادية، ماهو الحزب، قاموس المصطلحات الاجتماعية، ايران على أعتاب تحول كبير، ونشرها في الأربعينيات والخمسينيات. وكان يقيم اجتماعا اسبوعيا في منزله، يحضره الكثير من الشباب، الذين اصبحوا من الفاعلين الناشطين سياسيا وثقافيا واجتماعيا فيما بعد، منهم الدكتور ابراهيم يزدي وزير الخارجية في أول حكومة بعد الثورة. تعرضت هذه الجماعة الى عدة انشقاقات واندماجات بأحزاب ومجموعات أخرى، وارتبط بها بعض رجال الدين الشباب. لجأت نتيجة للصراعات الداخلية وضغوطات السلطة الى تغيير اسمها الى: جمعية حرية الشعب الايراني "جمعيت آزادى مردم ايران"، واصدرت نشرة تحت عنوان "مردم ايران"أي الشعب الايراني، وأسس كاظم سامي وعلي شريعتي في مشهد فرعا للجمعية . دافعت عن محمد مصدق ومواقفه الوطنية، وانضمت الى نهضة المقاومة الوطنية "نهضت مقاومت ملي" بعد الانقلاب عليه، واستبدلت اسمها الى حزب شعب ايران "حزب مردم ايران" بقيادة نخشب، الذي سجن، ثم سافر الى الولايات المتحدة، وعمل هناك في الأمم المتحدة، وأصبح رئيسا لفرع نهضة الحرية "نهضت آزادى" في امريكا، وظل يدافع عن أفكاره الدينية. توفي في الولايات المتحدة عام 1976م. تأثر بأفكاره ومنحاه الاشتراكي في تأويل الاسلام الدكتور علي شريعتي (1923-1977) في بداية حياته، فترجم كتاب "ابوذر الغفاري لعبد الحميد جودة السحار"، تحت عنوان "ابو ذر الموحد الاشتراكي" "ابوذر، خدابرست سوسياليست". كان علي شريعتي من أبرز دعاة القراءة الايديولوجية النضالية للإسلام، ذلك انه عاش في عصر طغى فيه صوت مقاومة الاستعمار، والثورة على الأنظمة التابعة له، وتسابق المثقفون لتأييد ومساندة الانتفاضات والحركات الثورية، ومنذ بداية حياته أغواه بريق الشعارات، وشغف بفعل الاحتجاج والاعتراض، فتضامن مع استغاثات الكادحين، ولوعة المحرومين، وأنين المعذبين. وانصب اهتمامه، وتمحورت جهوده على تأويل النص تأويلا ثوريا، وملاحقة والتقاط مواقف المعارضين والثوار في التاريخ الاسلامي، وتمجيد ذكراهم، والاشادة بشعاراتهم، واعتبارهم الممثلين الحقيقيين للدين والانسان في الاسلام، والتهكم على سواهم، أو الإنتقاص من نتاجاتهم، مهما كان عطاؤهم، فمثلا يكرر ان مكانة ابي ذر الغفاري أهم، وأثره أعظم في تاريخ الاسلام، من الفيلسوف ابن سينا[3]. يكتفي شريعتي بقراءة سريعة وانطباعات عاجلة لمعطيات المعرفة الحديثة، يتوقف فيها عند السطح في دراسته ومطالعاته للفكر الغربي، ولم يشأ اكتشاف البنيه العميقة لهذا الفكر، وأسسه الفلسفية، وآفاقه ومدياته الواسعة، ومجالاته المتنوعة، والتباساته وتناقضاته وثغراته، واكتفى بفهم مبسط، وتعاطي شعاراتي أحيانا مع المقولات والمفهومات والأنساق المتشابكة للفكر الحديث. مضافا الى ضعف تكوينه في المعارف الاسلامية والعلوم العقلية والنقلية. وهو ما تحكيه آثاره العديدة، عندما يطالعها الخبير المتخصص، التي هي في معظمها محاضراته نفسها، مع تحرير سريع، من دون ان يتحول فيها الشفاهي الى مكتوب. وحسب رأي داريوش شايغان، فإن "شريعتي يكتب لنا وصفات طبية، ويعطينا إياها قبل تشخيص المرض "[4].
لكن شريعتي تميز ببراعة في مخاطبة الوجدان الشعبي من خلال محاضراته الجريئة في حسينية "إرشاد" في طهران، بنحو كان يهيمن على مشاعر المستمعين، ويغرقهم في أحلام رومانسية، ويصوغ لهم يوتيبيا دنيوية فاتنة، ينسجها من عناصر ومفردات وأفكار موروثة وحديثة متنافرة، تخفق لها الأفئدة، وتشغف بها الأذهان. يعزز قبولها الايقاع الخاص لنبرات حديثه، وطبقاته الصوتية الدافئة، المشبعة بمداليل لا تخلو من إستغاثة ولوعة وشجى وتراجيديا، ولا تتردد في إقتحام الممنوع، والمجازفة في عبور محرمات السلطة والمجتمع والمؤسسة الدينية.
تلاحم في شخصية شريعتي المثقف والداعية والمناضل، وذابت الحدود في وجدانه بين النموذجين، بل أمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية، وتحولت الثقافة الى أيديولوجيا، وظل ابرز مشاغله "أدلجة الدين والمجتمع". يقول شريعتي: "سألني أحد رفاق الدرب: ما هو برأيك أهم حدث وأسمى انجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة واحدة، وهو تحويل الاسلام من ثقافة الى أيديولوجيا"[5].ما الذي يقصده بالأيديولوجيا؟ وهل يستطيع ان يحتفظ بموقفه المعرفي كباحث ومثقف، في الوقت نفسه الذي يوسع دائرة الأيديولوجيا، لتشمل الدين والثقافة والمجتمع؟! قبل الاشارة الى ذلك نقتبس نصا مطولا من آثاره، يضيء هذا المفهوم، ويحدد ملامحه في وعيه. يكتب شريعتي: (الإيديولوجيا عبارة عن عقيدة ومعرفة عقيدة. وهي بالمعنى الاصطلاحي، رؤية ووعي خاصان يتوفر عليهما الإنسان فيما يتصل بنفسه، ومكانته الطبقية، ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدره العالمي والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهي المسوّغة لهذه الأمور، والتي ترسم لـه مسؤولياته، وحلوله، وتوجهاته، ومواقفه، ومبادئه، وأحكامه، وتدفعه بالتالي إلى الإيمان بأخلاق وسلوك ومنظومة قيم خاصة، فعلى أساس رؤيتك الكونية، وابتناءً على نمط "علم الاجتماع " و"علم الإنسان" و"فلسفة التاريخ" الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في الحياة، وفي علاقتك بنفسك، وبالآخرين، وبالعالم؟ كيف ينبغي العيش، وما الذي يجب فعله؟ أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل نموذجي، وما هي مسؤولية كل فرد حيال المجموع؟ وما هي صراعاته، وأواصره، وأشواقه، ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيدية، وقيمه الإيجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير والشر لديه، وبالتالي ما هي طبيعة الإنسان وهويته الاجتماعية؟ وعلى هذا فالإيديولوجيا هي عقيدة تحدد الاتجاه الاجتماعي والوطني والطبقي للإنسان، وتفسر نظامه القيمي والاجتماعي، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع، والحياة الإنسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الأسئلة: "كيف تكون؟ "و"ماذا تفعل؟" و"ماذا ينبغي فعله" و"كيف يجب ان نكون؟")[6]. لكن ما هي حدود الأيديولوجيا؟ وما هي علاقتها بالعلوم والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي: "الأيديولوجيا تهدي للانسان ما تمنحه لـه الامكانات التقنية تماما. ما التقنية الا مجموعة الجهود الانسانية الرامية الى توظيف الطبيعة لتحطيم هيمنتها وجبرها، وفرض احتياجاتنا عليها. الأيديولوجيا تقنية يستعين الانسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب ما يشاء"[7]. ويتداخل مفهوما التقنية والأيديولوجيا لديه، بنحو تصبح "التقنية عبارة عن فرض ارادة الانسان على قوانين الطبيعة، أو هي استخدام العلم من قبل الارادة الانسانية الواعية، للوصول الى مبتغاه. العلم هو مسعى انساني لفهم الطبيعة واكتشاف ما فيها، والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة واستخدامها، واصطناع ما ليس فيها. وفقا لهذا التعريف تكون الأيديولوجيا بالمعنى الأخص للكلمة، تقنية بالمعنى الأعم للكلمة"[8]. ويبدو ان الهموم النضالية لشريعتي، ومحاولاته الواسعة لأنسنة الدين، والتشديد على المضامين الاجتماعية للاسلام، هي الباعث لمسعاه في تحويل الاسلام "من ثقافة الى أيديولوجيا". وربما تأثر شريعتي بإطروحات جماعة لاهوت التحرير، ودعواتهم لتحويل الدين الى أيديولوجيا لمناهضة الاستعمار، وتحرير الأرض، وتنمية المجتمع، بعيدا عن مشاغل اللاهوت الكلاسيكي. ومما لا ريب فيه ان هيمنة الأيديولوجيا على وعي الباحث والمثقف، تحول بينه وبين الوصول الى نتائج علمية، اكثر موضوعية وحيادا في تفكيره وبحثه. ذلك ان الأيديولوجيا تقود أية عملية تفكير وتوجهها الوجهة التي تنشدها، وتضاعف التحيزات والمفروضات القبلية في ذهن الباحث، وتسوقه دائما الى مواقف ونتائج محددة سلفا، باعتبار التفكير الايديولوجي يسعى الى تغيير العالم لا تفسيره. حسب شريعتی تتحول الايديولوجيا الى أداة "يستعين الانسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب ما يشاء". وينشغل انصار الايديولوجيا في سكب المجتمع في قوالبها ورؤيتها الخاصة، ولذلك ينددون بالتعددية، ويكرهون الناس على تفسير رسمي للمعتقدات الدينية والاجتماعية والسياسية، ويخنقون الأسئلة الكبرى، ويعملون على ترسيخ الجزمية واليقين، وبالتالي بناء مجتمع مقلد مغلق. وتكمن المفارقة في ان شريعتي الذي أعلن عن مطمحه في الانتقال بالاسلام "من ثقافة الى ايديولوجيا" نعثر في كتاباته على نزعة تفكير ناقدة، وأحيانا حرة، ترفض المجتمع المغلق، وتدعو الى اصلاح الفكر الاسلامي، والانفتاح على مختلف الأديان والثقافات. وتحكي آثاره ذائقة فنان، وروح شاعر، وعقلية ناقد، ونزعة متمرد. ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذر على الأيديولوجيا الانسجام والتوافق معها. والمفروض ان مثقفا كشريعتي يدرك مثل هذا التهافت، ويعي الالتباس بين الشخصية الأيديولوجية للداعية، وشخصية المثقف، والشاعر، والفنان، والناقد، لكن موقفه ظل ملتبسا بين شفافية الفنان الرومانسي، وبين احلام وتطلعات المناضل[9]، فتاه في تناقضات ومفاهيم غائمة، صاغها بقوالب شعارات ثورية، هي تعبير شعبوي عن أحلام مجتمع غارق بالوعود الخلاصية.
وتورط شريعتي بتفسير ماركسي لبعض الآيات، فأسقط المادية التاريخية على القصص القرآني، وحاول ان يقدم احيانا تأويلا وجوديا ملتبسا للاسلام. فمثلا صاغ تحليلا يبتني على الصراع الطبقي في قصة ابني آدم بين هابيل وقابيل، فاعتبر "قابيل ممثلا للنظام الزراعي والملكية الخاصة والفردية، بينما هابيل يمثل العصر الرعوي والاشتراكية الأولية قبل الملكية"[10]. وهكذا فسر الكثير من الصراعات الاعتقادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، تفسيرا طبقيا ماركسيا، فهو يرى أن "الثورة الحتمية المستقبلية تعتمد على التناقض الديالكتيكي، الذي بدأ بالمعركة بين هابيل وقابيل، وهي تجري على الدوام في كافة المجتمعات بين النظام الحاكم والمحكوم، وانتصار العدالة والقسط والحقيقة هو المصير الحتمي للتاريخ". وخلص الى ان كافة العقائد و"الأديان الحاكمة في التاريخ، انما هي دائما وبلا استثناء تمثل الطبقة الحاكمة"[11]. وتحيل الظواهر الاجتماعية لدى شريعتي الى مفاهيم عقائدية، فالوحدة الاجتماعية والسياسية، والشرك والصراع الاجتماعي والسياسي يعبران عن التوحيد والشرك الاعتقادي "والوحدة الحقيقية بين الجماعات والطبقات، هي تعبير عن التوحيد". وهكذا "الشرك الاجتماعي انما هو انعكاس للشرك الالهي"[12].
استلهم شريعتي القواعد الأساسية للماركسية، واقام عليها بناء اسلاميا. كل أولياته ومبادئه ماركسية، ولا يمكن العثور لديه على رؤية اسلامية عميقة. متى وأين كان للاسلام بناء تحتي وبناء علوي؟ بل اين نجد في الاسلام مفهوما للتاريخ بالنحو الذي تكلّم عنه؟ إن من العسير مزج كل هذه المفاهيم مع بعضها في مركب متجانس[13]. شريعتي يملك أجوبة جاهزة لكل الأسئلة. إنه يضرب لنا المثل الصارخ عن رؤية ضيقة. وكل شيء يُفسّر عنده بعبارات ماركسية، ببنى تحتية وفوقية، برؤية ثنائية للتاريخ، وبشلال من التماهيات المسلسلة. ان فكر شريعتي خليط من الجذرين، اللذين يتقيأ أحدهما الآخر. يعتقد داريوش شايغان ان شريعتي:" لئن خلط هيغل المجرد من كل الجهاز المفهومي لمنظومة العقل وظهورية الروح، مع ماركس مجرد من النظرية، من الفعل على اطلاقه Praxis""، مع اسلام مبتور من قطبيه، المبدأ"Origine" والمعاد"Retour"، فإننا نحصل على حساء دسم، تبدو فيه جميع العناصر المجمعة، منزوعة ومجردة من كل مضمونها الوجودي، نظرا لأنها فصلت عن القاعدة التي تكونها وتسوغ علة وجودها، ان فكرا كهذا لا يمكنه ان يكون سوى فكر بلا موضوع، وبالتالي، فكر بلا مكان[14]. ان شريعتي لم يستوعب المضمون الفلسفي ل"ديالكتيك" هيغل، وهكذا لم يتوغل في إكتشاف البنية المفهومية لفكر ماركس، ولم تسعفه رؤياه ان يتخطى مقولاته الاقتصادية والاجتماعية. كان شريعتي يستعيد معظم المقولات الماركسية، ويعطيها معاني جديدة، "يقولبها وفق البنى التي ينكرها. فالفكرة القائلة ان الرؤية التوحيدية (الاسلامية) للعالم تتحقق عبر الانسان والتاريخ والمجتمع في الأيديولوجيا الاسلامية، لتفضي الى المجتمع المثالي، هي نوع من هيغلية مشوهة، مفصولة عن نظام العقل، وعن كل الجهاز المفهومي للجدل. ومثلما اختزل شريعتي (الروح المطلق) الى مفهوم توحيدي غائم، فقد رد أيضا كل الماركسية الى المقولات الاجتماعية والاقتصادية، من دون أي اعتبار للمعنى الفلسفي للبراكسيس. ان هذه الماركسية الغائمة المتفشية في فكره تتكشف في استعماله، كيفما اتفق، مصطلحات البنية التحتية والبنية الفوقية والحتمية التاريخية(المسماة أيضا "علمية") والعلاقات الجدلية والمشاعية البدائية...الخ. وباختصار كل الرطانة توجد هنا. بحيث ان شريعتي يلتهم كل فضلات الماركسية في الوقت الذي يدعي مناهضتها. إن اسلام شريعتي المؤدلج _ مهما تكن دوافعه الدينية والعاطفية ـــــ يشف عن مقولات اجتماعية ـــــ اقتصادية مسطحة...انه وهو يخفض البعد المقدس للإسلام الى مستوى التاريخ، يعلمنه وينهكه من الدفق المتواصل للصيرورة التاريخية"[15].
حذر شريعتي من المثقف الانهزامي المنقطع عن جذوره، المقتلع من عالمه، وذهب الى ان المثقف المستنير، هو من يعمل على تغيير الواقع، وتوعية المجتمع بذاته الحضارية وميراثه. وشبه المستنيرين بالأنبياء، باعتبار طبيعة المهمة العظمى والمسؤولية الاستثنائية المناطة بهم، والتي تتركز حول ايقاظ شعور الناس بذاتهم. وطفق يدين المثقفين المسلمين المعجبين بنماذج التنمية الغربية، ويصفهم بالإغتراب عن الذات، وخسران الهوية، وزعم ان مابعد القومية، والنزعة الانسانية العالمية، أكاذيب كبرى، ينشد من خلالها الغرب محو الهوية الثقافية للشرق.
تأثر شريعتي بمناخات المقاومة والعودة الى الذات، وسط المثقفين والطلاب المبتعثين في باريس من العالم الثالث، واعجب بخطاب "المعذبين في الارض" ، لفرانتز فانون، وسعى لمحاكاته في كتابه "العودة الى الذات". لكنه تجاوز خطاب فانون الذي تمحور حول الخصوصيات العرقية والسياقات التاريخية والثقافية للعالم الثالث، وأكد على تكريس الجذور الاسلامية. يكتب شريعتي: (حينما نتحدث عن العودة لجذورنا، نتحدث في الواقع عن العودة الى جذورنا الثقافية... ان العودة لا تعني اعادة اكتشاف ايران ما قبل الاسلام، وانما تعني العودة الى جذورنا الاسلامية)[16]. وتتكرر في آثار شريعتي مفهومات الأصالة، والهوية الحضارية، والذاتية، حتى انه خصص لــ "العودة الى الذات" أحد أهم كتبه، وعالجها في موارد مختلفة من أعماله. وطغت في هذه المرحلة فكرة الذاتية والسياقات الاجتماعية والثقافية والدينية للاجتماع الايراني في خطاباته وآثاره.
حسن حنفي: من العقيدة الى الثورة
يمكن القول ان مشروع التجديد للدكتور حسن حنفي هو أوسع محاولة، ولعلها آخر محاولة ينهض بها مفكر معاصر، لإعادة بناء العلوم الإسلامية، وليس من المبالغة ان يصنف صاحبها بأنه يمثل الحلقة الأخيرة لنمط من العلماء الموسوعيين في تأريخنا، ممن ألفوا في المعقول والمنقول، وانبسطت كتاباتهم على مختلف حقول المعارف المتداولة في عصورهم. انه من أغزر المفكرين العرب المعاصرين إنتاجا. انه يكتب في التراث والحداثة، والاسلام والعصر، والمعقول والمنقول، والماضي والحاضر، والفكر الغربي، والاجتماع والاقتصاد والسياسة. لكنه يكرر نفسه على الدوام، ولا تخلو كتاباته المتواصلة من مواقف متضادة، وآراء متهافتة، ومعالجات مبتذلة للقضية ذاتها، بنحو تبدو آراؤه يكذب بعضها بعضا.
يعطي حنفي لمشروعه عنوانا عاما، هو" التراث والتجديد"ويقسمه الى أقسام ثلاثة: الأول يحدد" موقفنا من التراث القديم"، ويشمل ثمانية أجزاء، كل جزء منها يختص بإعادة بناء أحد العلوم الموروثة، فالجزء الأول مثلا الذي هو محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، يعطيه عنوانا بديلا لعلم الكلام أو أصول الدين أو العقائد أو الفقه الأكبر، حسب تسمياته الموروثة، فيعبر عنه "من العقيدة الى الثورة" ويلخص ما يهدف اليه من ذلك بقوله:" هو العلم الذي يمكن بواسطته سد النقص النظري في واقعنا المعاصر، والذي يمكنه أن يمدنا بأيديولوجية عصرية، تشمل على لاهوت الثورة، ولاهوت الأرض، ولاهوت التحرر، ولاهوت التنمية، ولاهوت التقدم "[17]. ومنذ ثلاثة عقود يتواصل صدور أجزاء هذا القسم، فقد اطلعت على صدور خمسة أجزاء من القسم الأول، منها " من العقيدة الى الثورة " في خمسة مجلدات، و" من النقل الى العقل " في تسعة أجزاء... الخ.
والقسم الثاني من مشروع التراث والتجديد يحدد"موقفنا من التراث الغربي"، ويشمل خمسة أجزاء، كل جزء يختص بفترة للحضارة الغربية. وقد أصدر حنفي " مقدمة في علم الإستغراب " قبل عقدين تقريبا تمهيدا وإيجازا ل"موقفنا من التراث الغربي". اما القسم الثالث فيصوغ" نظرية التفسير" ويشمل ثلاثة أجزاء، طبقا لوضع الوحي في التاريخ. وصدر قبل أربعة سنوات في مجلدين، تناول فيهما "ظاهريات التفسير"و"تفسير الظاهريات". وهما إعادة تدوين وترجمة لإطروحتيه للدكتوراه في السوربون بالفرنسية، قبل خمسة وأربعين عاما.
ما يهمنا الحديث عنه هو منجزه في الجزء الأول من القسم الأول"من العقيدة الى الثورة"، الذي يتمحور حول " لاهوت التحرير " والذي يسرد فيه رؤيته لإعادة بناء علم الكلام. ولا أظن ان حديثي عن مشروع الصديق الدكتور حسن حنفي يضيف شيئا، لأنه معروف لدى المهتمين. غير اني سأشير الى علاقتي بحنفي: متى بدأت، كيف تطورت، ومآلاتها في الإجتماع الشيعي، والتفكير الديني في ايران. عساني أؤشر على راهن العلاقة الثقافية بين جناحي العالم الإسلامي، وطبيعة الحضور الديناميكي الحيوي لمشروع الدكتور حنفي ورؤاه. في عام 1982 التقيت للمرة الأولى بحنفي على صفحات جريدة الوطن الكويتية، في سلسلة مقالات نشرها عن "الأصولية الإسلامية" بمناسبة محاكمة المتهمين بإغتيال الرئيس المصري أنور السادات. لفت نظري تدفق السرد في كتابته، وحساسية المفردة اللغوية المستعملة في عباراته، ووضوح الأفكار وتوهجها، وحماسة الجمل وشعلتها، كنت اتفاعل مع نصه، وكأني احضر دراما حية، بل أحيانا أكتوي بلهيب شعاراته، أعاد لي حالة الإحتراق التي أوقعتني فيها مطالعتي لكتاب " معالم في الطريق" قبل هذا التاريخ بعشر سنوات، عندما اضطربت وأجهشت بالبكاء عدة مرات، شوقا وفرقا على "جيل قرآني فريد" الذي صاغته مخيلة المرحوم سيد قطب، كنت مع معالم سيد قطب كمن يبتلع جمرا. لكن مع حسن حنفي يتسرب الخطاب للعقل أيضا، ولايقتصر على المشاعر والأحاسيس والعواطف، مثلما تفعل نصوص قطب، التي هي بمثابة أناشيد للفداء والإستشهاد. أخرجني الدكتور حنفي من حالة اليقين الى التساؤل، وحررني من سجن "معالم في الطريق"، لكني دخلت معه سجنا جديدا من نوع مختلف، هو سجن "الأيديولوجيا"، كما أدركت فيما بعد، حينما درست" فصوص الحكم" لمحيي الدين بن عربي، و"مثنوي معنوي" لمولانا جلال الدين الرومي، وغيرهما من النصوص الرؤيوية الفواحة بالمعنى في ميراثنا. لكني لن أنسى أثر حسن حنفي في ايقاظي من الإستغراق في أحلام رومانسية، حين فتح لي نافذة على العصر، وشدني بقوة الى الحاضر، فحررني من لوعة الإشتياق للماضي، والمكوث في كهوفه، واستعارة مفاهيم السلف وأحكامهم ومعاييرهم، في كل ما يواجهني في حياتي، ذلك ان نصوص حنفي نسيج ينهل من منابع متنوعة، تحيل الى الموروث بحقوله الواسعة، والفكر المعاصر بمذاهبه وتياراته واتجاهاته المختلفة. لاتفتقر الى مراجعة جريئة للماضي والحاضر، مسكونة بالواقع ورهاناته. لا تكف عن مساءلة الماضي، ونقد التراث، والتوغل في مساراته العميقة، وربط الفكر بحياة الناس ومتطلباتهم وشجونهم وهمومهم، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والدينية. كتاباته هاجسها تغيير الواقع، لاتتعطل في تفسيره،كما هي الآثار الغارقة في الجدل والتفكير المجرد. تنحاز للحرية، والعدالة، وتعلن عن انها صوت المهمشين والمحرومين، وكل اؤلئك المعذبين في الأرض الذين يتجرعون العلقم. يرى في الدين رسالة نهوض وانعتاق ومقاومة، يستدعى ميراث الثوار في تاريخ الإسلام ويمجده، ويرى فيه النهج المضئ في الإسلام.
طفقت أفتش عن حسن حنفي وألاحق كتاباته في الدوريات، وما صدر له من مؤلفات وترجمات وتحقيقات، كنت أقرأ باستمتاع بالغ ما يقع تحت يدي من آثاره، وأعرف به بين زملائي في الحوزة العلمية، أتفاعل معه وجدانيا، أتوهج عاطفيا، وربما أسكر عقليا، مثلما سكرت من قبل بإلتهام أدبيات الإسلام الأصولي. بدأت أبحث عن أسلوب للتواصل معه، وقتئذ لم يكن هناك أنترنيت، ولا شبكة عنكبوتية، تتيح لنا العثور على معظم أصدقائنا ومن نود ان نتواصل معهم، كما هو الفيس بوك اليوم. اكتشفت انه يعمل استاذا في قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة، حاولت ان أجرب حظي في إرسال رسالة من "قم"ـــــ حيث كنت مقيما هناك، ومشغولا في الحوزة العلمية، مشردا من بلدي ـــــ على عنوان جامعة القاهرة، ونسيت الرسالة بعد عدة أشهر، غير اني فوجئت بوصول رزمة صغيرة عليها طوابع مصر، لفت نظري ان المرسل هو الدكتور حسن حنفي، ففتحتها لحظة استلامها، وجدتها تحتوي: العدد الأول من مجلة اليسار الإسلامي، وكتابي الإمام الخميني" الحكومة الإسلامية، والجهاد الأكبر" كل واحد منهما يشتمل على مقدمة موسعة لحنفي، بطبعة مصرية. انصرفت لقراءة اليسار الإسلامي، كل شئ فيها مختلف، إسم المجلة، تبدى لي بمثابة تركيب بين متضادين "يسار، واسلام" كلمة التحرير الشاملة تحت عنوان" ماذا يعني اليسار الإسلامي " وما اشتملت عليه من إشارات واستدعاء لعقلانية المعتزلة، وعدل المعتزلة والشيعة، وثورة الحسين، وغيرها من الثورات في تاريخ الإسلام، ومعارضة الخوارج، وصولا الى معارضة الصحابي أبي ذر، تجلت هذه العناصر كمصفوفة بؤر مضيئة، وحبات لؤلؤ منتظمة في إطار ألماسي، بينما لم يسلط الضوء في تلك المقدمة المسهبة على ما واكب الفتوحات من مظالم، وما خلفته من تنام لتجارة الرقيق، وشيوع الجواري والإماء في قصور الخلفاء، وما اجتاح الحياة الإسلامية من صراعات وحروب أهلية، ونكبات، قتل فيها الثوار، وشيوع ذهنية التحريم لدى فقهاء القصور السلطانية، وفتاواهم في ذبح المفكرين الأحرار كغيلان الدمشقي، والحلاج، وشيخ الإشراق السهروردي، وما تعرض له المعتزلة من اضطهاد وملاحقة، وبالتالي تحريم التفكير الإعتزالي حسب وثيقة" الإعتقاد القادري" الشهيرة.
قرأت إفتتاحية المجلة عدة مرات، محاولا القبض على مفهوم واضح لـ" اليسار الإسلامي" ومن أجل الحصول على إجابة محددة لسلسلة من الإستفهامات الحائرة في ذهني، من نوع: هل اليسار الإسلامي علم كلام جديد، أو لاهوت تحرير، أو فرقة كلامية تستوعب ميراث المعتزلة العقلي، ونزوع الشيعة والخوارج الثوري المعارض، أو هو مسعى لفتح باب الإجتهاد في جميع حقول التراث الإسلامي، أو دعوة للإجتهاد في أصول الفقه تغلب المصلحة على النص، والعقل على النقل، والحاضر على الماضي، أو مذهب فقهي يتصالح فيه المسلم مع الواقع، وتستجيب فتاواه لرهانات العصر، وتواكب إيقاع الحياة المتغير، ولا تتجمد في لحظة زمانية تاريخية معينة، أو ان "اليسار الإسلامي" كل ذلك وغيره، بنحو يتسع ل"موقفنا من الماضي، موقفنا من الآخر، موقفنا من الواقع"، وما يحكيه عنه من بيانات نظرية متوالية، حسب تعبير حنفي. وما ورد من تفاصيل أضحت معروفة لدى الباحثين، بعد صدور مؤلفات عديدة في كل واحد من هذه الأقسام. وحسب الدكتور حنفي يستوعب اليسار الإسلامي: "الإسلام المستنير، الإسلام العقلاني، الإسلام العلمي، الإسلام الإنساني، الإسلام التقدمي، الإسلام الليبرالي، الإسلام الديمقراطي، الإسلام البراغماتي، الإسلام الإصلاحي، الإسلام الإشتراكي، الإسلام الوطني، الإسلام القومي، الإسلام الأممي، الإسلام العلماني" ...فهل اليسار الإسلامي "سوبر ماركت للإسلام"، يضج بتهجين المفاهيم، وتناقضات التراث والحداثة، ويتسع لكل شيء،؟[18]
لم تنبثق هذه التساؤلات بمجموعها في ذهني ساعة مطالعة مقالة"ماذا يعني اليسار الإسلامي"، لوقوعي تحت تأثير حساسية الكلمة وشحنة العبارة فيما يكتبه الدكتور حنفي، بيد انها توالدت بالتدريج في كل مرة أعود فيها للنص. وكلما طالعت جديدا له، أصاب بالدهشة من فرط إجترار الكلمات والعبارات نفسها، وإصراره على سكب أفكاره في شعارات مبتذلة، تفتقر لرؤيا الباحث المتمرس، وتستعجل إطلاق أحكام قيمة ، بلا تحليل عميق أوتأمل، يكشف عن أنساب الأفكار، والحبل السري الذي تنتظم في سياقه.
كنا جماعة من طلاب الدراسات العليا والمدرسين في الحوزة العلمية نرتبط بحلقات نقاشية عفوية، تضيق بشخصين أحيانا، فيما تتمدد الى خمسة او ستة أشخاص، حسب وقتنا الفائض، وبرامج كل واحد منا، تشكلت في الثمانينيات من القرن الماضي، إثر لقائنا اليومي على هامش حلقات الدراسة والتدريس، نراجع فيها بإستمرار أدبيات وتجارب الحركة الإسلامية، وأسباب ونتائج غياب الرؤية النقدية لديها، لاسيما ونحن جميعا كنا من الأعضاء فيها، وأفضت المراجعة النقدية الى تخلينا بمرور الزمن عنها. ثم إنتقلنا في مرحلة لاحقة الى مراجعة النظام التعليمي في الحوزة العلمية، وسبل تحديثه. وأخيرا في مطلع التسعينيات انتقلنا الى مراجعة التراث، وعمل حفريات في المعرفة الدينية، بالإستعانة بفلسفة العلم والعلوم الإنسانية الحديثة والمعاصرة. وهنا اقترحت على ثلاثة من الزملاء ان نصدر مطبوعة بإسم "الرأي الآخر" نكثرها بإمكاناتنا المحدودة، ناطقة بهمومنا وتطلعاتنا في تحديث التفكير الديني في الإسلام، فصدر العدد الأول موشحا ب"ماذا يعني اليسار الإسلامي" ودراسات أخرى. دهشنا من اهتمام القراء ب"الرأي الآخر"، وتساؤلاتهم عن اليسار الإسلامي وحسن حنفي، نفدت النسخ وكررنا الطباعة، في العدد الثالث توقفت الرأي الآخر، فأصدرت دورية نصف سنوية، في حدود 600 صفحة، تعنى بالدعوة للإجتهاد الشامل في كافة مجالات المعرفة الإسلامية، وتهدف لتحديث التفكير الديني، أسميتها" قضايا إسلامية"، في هذه الفترة تطورت مراسلاتي ومهاتفاتي مع الدكتور حسن حنفي، وبعثت له بإسئلة حوار متنوعة حول الإجتهاد والتجديد عبر الفاكس، فبعث لي بعد مدة قصيرة بإجاباته المفصلة عن أسئلتي، وعنونها هكذا:" قم تسأل والقاهرة تجيب، حوار عبدالجبار الرفاعي مع حسن حنفي". إنزعج بعض القراء من صراحة حنفي ومغامراته في التفكير الديني ورؤاه، ولم يقتصر ذلك على المضمون بل تعداه الى عنوان الحوار، مما اضطرني لتبديله بعنوان آخر لما ضممته لكتابي المطبوع بعد سنوات" الفكر الإسلامي المعاصر: مراجعات تقويمية". بعد توقف "قضايا إسلامية" في العدد السادس، أصدرت دورية، أسميتها " قضايا إسلامية معاصرة " سنة 1997، كان حضور أفكار حسن حنفي كثيفا في معظم الأعداد، تارة من خلال حوارات المجلة معه، وأخرى بالتطوع بتزويدها بدراساته، حسبما ينسجم مع محاورها المتنوعة. ولم يتباطأ حضوره على صفحاتها إلاّ في العامين الأخيرين اثر انحراف صحته. عبر مجلة قضايا إسلامية معاصرة تعرف الكثير من الباحثين والدارسين على فكر الدكتور حنفي، في إيران والعراق ولبنان والخليج والجزيرة العربية والمغرب، وعوتبت المجلة وصاحبها على ترويجها لهذا النمط من التفكير غير المألوف، الذي لا ينسجم مع المنطق التقليدي الموروث، خاصة وإن قضايا إسلامية معاصرة أمست قناة عبر منها فكر حسن حنفي للمجال الشيعي. ذلك ان مطبوعاتنا عادة ما يطغى عليها لون واحد من التفكير، وتفزع من الإختلاف ووجهات النظر المغايرة، وكأن إجتراح مطبوعة لنمط متنوع من التفكير، يصغي لمختلف الأصوات، ولا يخشى الأفكار مهما كانت تقليدية او تجديدية، وينشر بجوار رأي متحيز للحداثة رأيا آخر متعصبا للتراث، وينفتح على ما يعانده من معتقدات وأفكار، كأن إنتهاج مثل هذه الطريقة يجسد عصيانا للعقل السكوني، وخروجا على مشروعية التفكير المحتكرة والمؤممة مسبقا.
مراجعة نقدية للاهوت التحرير عند حسن حنفي:
لاهوت التحرير عند حنفي وشريعتي، يختزل الدين في أيديولوجيا المقاومة والثورة، ويطمس الوظيفة المحورية للدين. الدين أرحب وأشمل وأوسع من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا مظهر وتعبير اجتماعي للدين، تحويل الدين الى أيديولوجيا يعني: إختزال الإنسان في بعد واحد، و الروح في القانون، والعقيدة في الثورة، والله في الإنسان، والإلهي في البشري، والسماء في الأرض، والغيب في الشهادة، والميتافيزيقا في الطبيعة" الفيزيقا"، والآخرة في الدنيا، والروح في الجسد، والرمزي في الحرفي، والرؤيوي في المحسوس، والمعاد في المعاش، والعبادات والطقوس في المداليل الإجتماعية والتنمية والإنتاج، والديني في الدنيوي. وحين يتحول الديني الى دنيوي في لاهوت التحرير تختلط الحدود بينهما، فيجري تديين الدنيوي، وتعميم الفهم الديني لكافة حقول المعارف البشرية، وتديين المعرفة في خاتمة المطاف يفضي الى التضحية بالعقل والخبرة البشرية المستقلة عما هو ديني.
كل دين يتجسد في تمثلات اجتماعية تعبر عن بنية المجتمع، وتتلون بما يحفل به من ثقافة وتقاليد وأعراف وأنماط سلوك، ولا يمكن ان يكون الدين خالصا وبريئا من التمثلات الأيديولوجية. الدين يتشكل في اطار البنية الإجتماعية، فإن كانت تسلطية قمعية يأخذ شكلا تسلطيا قمعيا، وإن كانت إختلافية تعددية حوارية يأخذ شكلا إختلافيا تعدديا حواريا، بيد ان الدعوة لإختزاله بأيديولوجيا للثورة خاصة، وتوظيف طاقته الروحية، وشبكته المفاهيمية، ورؤياه الجمالية، وجغرافيته الرؤيوية، ونظامه الرمزي، في الثورة فقط، يفضي الى إهدار مهمة الدين في إرواء الظمأ الأنطولوجي البشري للمعنى، وطمس أثر المقدس في إلهام المتدين الخبرة الروحية، وتوليد وصيرورة التجربة الدينية.
الإنتحاري الأصولي الذي يقاوم بقتل نفسه، ويتلذذ ويبتهج بالدم المسفوح، حينما يفجر نفسه بمصلين في مسجد أو حسينية أو كنيسة، أو أبرياء في الأسواق والشوارع والمباني، هو ضحية فهمه الخاص للدين، الفهم الذي يختزل فيه الدين في أيديولوجيا نضالية كفاحية، وتوقفه عند ذلك، وعدم قدرته على استلهام أي مضمون آخر في الدين، وعجزه عن استبصار واستلهام الكيمياء المعنوية، والشحنات الروحية، والدلالات الرمزية، والثيمات الجمالية للدين. لا يستطيع هذا الإنتحاري التعرف على صورة الإله الذي"وسعت رحمته كل شئ"، وليس بوسعه ان يتحسس محتوى رسالة نبيه الكريم المبعوث " رحمة للعالمين ".
إن البيئة الإجتماعية القمعية تنتج تصورا للإله قمعيا، فيما تنتج البيئة الإجتماعية الإنسانية تصورا للإله شفيقا شفافا رحيما، وتتحول الى حاضنة مثالية لنشأة وتطور" لاهوت الشفقة". وما أحوج مجتمعاتنا ل" لاهوت الشفقة" في عصر تضج فيه بلادنا بدعوات الكراهية وإبادة شركائنا في الوطن، ويجند فيه طليعة فتيانها وشبابها من أجل الموت وليس الحياة، لأن" الموت أسمى أمانينا"، فيغدو القتل والقتال مهنة وفروسية في أوطاننا.
مرجعيات شريعتي وحنفي في صياغة لاهوت التحرير:
مرجعيات شريعتي وحنفي في تحويل الدين الى ايديولوجيا للثورة متعددة مختلفة، بل متباينة ومتنافية، تارة تتوكأ على معطيات العلوم الإنسانية الحديثة والمعاصرة، وأخرى تحيل الى التراث لتنتقي منه ما تشاء، وثالثة تستعين بالفلكلور والثقافة الشعبية، ورابعة تستقي من الميثيولوجيا القابعة في طبقات التاريخ. المرجعيات المتعددة المتنافية تقود الى نتائج متعددة متغايرة. انها مرجعيات حرة براغماتية تنشد تبرير الثورة، والتدليل على ضرورتها وديمومتها. تتشابك فيها سياقات ثقافية تاريخية متنوعة، وتختلط فيها أنساق فكرية متباينة، تقفز من منظومة معرفية الى أخرى تتناقض معها. من التوحيد الى المادية التاريخية، ومن المعتزلة الى عقلانية الحداثة، ومن هايدغر الى شيخ الاشراق السهروردي، ومن الامام الحسين بن علي الى جيفارا...الخ. بإسلوب يجري فيه بناء توليفة هجينة، تعمل على دمج عناصر متناشزة، مقتطعة من أجهزة مفاهيمية متنوعة، وتركب منها مفاهيم مبتذلة مشوهة. فمثلا يستعين الدكتور حسن حنفي بظاهريات هوسرل، ولا يكف عن الإشارة لمقولات وآراء أغلب الفلاسفة والمفكرين الغربيين، لا سيما في العصور الحديثة، مثلما يتحدث عن المتكلمين والفقهاء والفلاسفة والمتصوفة المسلمين، ويخلع على رؤاهم وأفكارهم أقنعة مستعارة من ديكارت وكانت و هيغل وماركس وهوسرل وسارتر...الخ، ويلونها كيفما يشاء، بغية توظيفها كشعارات في النهضة والمقاومة. وهكذا يفعل شريعتي، عندما يجول تفكيره في فضاءات من عاصرهم من المفكرين الأوروبيين في الستينات، حينما كان طالبا في باريس، مثل سارتر وغيره من الفلاسفة والمفكرين الغربيين. فيخلط مقولاتهم مع مقولات مسلوخة من الموروث الشيعي، ويخلع على تلك المقولات رداءً منتزعا من منظومات الفكر الغربي، ويلونها حسبما يحلو له، من أجل إنشاء آراء تبرر أحلامه ورغباته الثورية. يشدد شريعتي على تأويل مسار التشيع وميراثه بطريقة معيارية، لا تميز بين الاسطورة والتاريخ، مثلما لا تميز بين ما ينتمي الى العالم الأرضي، وما ينتمي الى عوالم رمزية ميتافيزيقية علوية. ويهدف شريعتي الى وصل مآلات ومصائر ومستقبل وراهن التشيع باللحظة التدشينية العلوية، وإعادتها باستمرار الى تلك اللحظة، من دون رؤية للبنية العميقة للإجتماع الشيعي، أو حس تاريخي يستوعب صيرورة التاريخ وتحولاته الأبدية. وكأن العقائد والرؤى والقيم والأحكام الدينية متعالية على الواقع، عابرة للزمان والمكان، وكأنها لا تلامس بنية المجتمعات وتكوينها، وطبيعة التمثلات الاجتماعية وعلاقتها بالمحيط والمعطيات المتغيرة في التاريخ. إن اسلام شريعتي المؤدلج، مهما تكن دوافعه الدينية والعاطفية، يشف عن مقولات اجتماعيةــــ اقتصادية مسطحة. انه وهو يخفض البعد المقدس للإسلام الى مستوى التاريخ، يعلمنه وينهكه من الدفق المتواصل للصيرورة التاريخية"[19].
تننتهي الأدلجة التي أنجزها شريعتي وحنفي الى: "دنيوية الدين"، بمعنى إهدار الطاقة الرمزية في الشعائر والطقوس والممارسات الدينية، وبالتالي إنهاك الدين وتفريغه من محتواه المعنوي. إن المفاهيم الدينية في غاية الدقة، وإذا ما خرجت عن حدودها الخاصة، فقدت قابلياتها وامكاناتها. مثال ذلك أن نعتبر الوضوء ممارسة تهدف الى النظافة والصحة! قد يكون للوضوء أثر صحي، لكنه أولا أثر ضئيل المساحة جدا لدى المسلمين، وثانيا الوضوء ممارسة دينية صرفة. انه ليس فعلا صحيا، وانما هو فعل رمزي. وبمجرد أن نجعله صحيا، نكون قد أسقطنا عنه طابعه الرمزي الديني[20].
د. عبد الجبار الرفاعي
[1] حنفي، د. حسن. لاهوت التحرير بين علم العقائد والتحرير الإجتماعي. مجلة الجمعية الفلسفية المصرية،ع 15" 2006" ص269-270.
[2] بروجردي، د. مهرزاد. المستنيرون الايرانيون والغرب. ترجمة: حيدر نجف. مراجعة: د. عبد الجبار الرفاعي. بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين ودار الهادي، 2007، ص58-63.
[3] شريعتي، د. علي. مجموعه آثار. طهران: ج7: ص134.
[4] شايغان، داريوش . "هنوز اسطوره اي فكر ميكنيم". حوا مع صحيفة: "شرق" . الصادرة في طهران 5/5/2012..
[5] جعفريان، رسول. جريان ها وسازمان هاي مذهبي ـــــ سياسي ايران "از روي كار امدن محمد رضا شاه تا بيروزي انقلاب اسلامي"، قم: ط6، 1385ش. ص 75 - 81.
[6] شريعتي، د. علي. مجموعه آثار . ج16: ص51-52.
[7] المصدر السابق. ج16: ص62.
[8] المصدر السابق. ج4: ص383.
[9] شريعتي، د. علي. مصدر سابق. ج11: ص136.
[10] المصدر السابق. ج14: ص319.
[11] بروجردي، د. مهرزاد. مصدر سابق. ص171-172.
[12] الرفاعي، د. عبدالجبار. مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد. بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين ودار الهادي، ط2، 2008، ص271-274.
[13] شايغان، داريوش. "دين ودين پژوهي در روزگار ما در گفت وگو با دكتر داريوش شايغان". مجله هفت آسمان، ع5"ربيع 2000".
[15] شايغان، داريوش. ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة. ترجمة وتقديم: د. محمد الرحموني. مراجعة: د. مروان الدايه. بيروت: المؤسسة العربية للتحديث الفكري ودار الساقي، ط1، 2004، ص272-273.
[16] شريعتي، د. علي. مصدر سابق. ج11: ص135.
[17] حنفي، د. حسن. التراث والتجديد. بيروت: المؤسسة الجامعيةللدراسات والنشر والتوزيع، ط5، 2002، ص 177.
[18] حنفي، د. حسن. الوحي والواقع: تحليل المضمون.دمشق: مركز الناقد الثقافي، 2010، ص29-74.
[20] شايغان، داريوش. "دين ودين پژوهي در روزگار ما در گفت وگو با دكتر داريوش شايغان". مجله هفت آسمان ع5"ربيع 2000".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق