صحيفة العرب القطرية - عربي ودولي :: تحدي المذهب التجاري الجديد
تحدي المذهب التجاري الجديد
داني رودريك • | 2013-01-12
إن تاريخ الاقتصاد يتلخص إلى حد كبير في الصراع بين مدرستين فكريتين متعارضتين، المدرسة «الليبرالية» والمدرسة «التجارية». ولقد أصبحت الليبرالية الاقتصادية بتأكيدها على روح المبادرة الخاصة والأسواق الحرية المذهب السائد اليوم. ولكن انتصارها الفكري أعمانا عن الجاذبية العظيمة والنجاحات المتكررة للممارسات التجارية. والواقع أن المذهب التجاري لا يزال على قيد الحياة وفي خير حال، ومن المرجح أن يكون صراعه المتواصل مع الليبرالية بمثابة قوة عاتية تعمل على صياغة مستقبل الاقتصاد العالمي.
اليوم، يُرفَض المذهب التجاري عادة باعتباره مجموعة عتيقة وخاطئة بشكل صارخ من الأفكار حول السياسة الاقتصادية. لا شك أن أنصار المذهب التجاري كانوا في أوج مجدهم يدافعون عن بعض المفاهيم البالغة الغرابة، ومن بين أهم هذه المفاهيم كان الرأي القائل بأن السياسة الوطنية لابد أن تسترشد بتراكم المعادن الثمينة - الذهب والفضة.
في أطروحته بعنوان «ثروات الأمم» في عام 1776 هدم آدم سميث العديد من هذه الأفكار. وقد أظهر سميث بشكل خاص أهمية عدم الخلط بين المال والثروة. وعلى حد تعبيره: «إن ثروة أي بلد لا تتكون من الذهب والفضة فقط، بل إنها تشمل أيضاً أراضيه، وبيوته، والسلع التي يستهلكها بمختلف أشكالها وأنواعها». ولكن الأكثر دقة أن نفكر في المذهب التجاري باعتباره طريقة مختلفة لتنظيم العلاقة بين الدولة والاقتصاد - وهي الرؤية التي لا تقل أهميتها اليوم عما كانت عليه في القرن الثامن عشر. والواقع أن منظري المذهب التجاري من أمثال توماس مون كانوا من أشد أنصار الرأسمالية حماسا؛ ولكنهم طرحوا نموذجاً مختلفاً عن الليبرالية.
ينظر النموذج الليبرالي للدولة باعتبارها كياناً استغلالياً نهاباً بالضرورة، وينظر إلى القطاع الخاص باعتباره جهة ريعية انتهازية بطبيعتها. وبالتالي فإنه يدعو إلى الفصل الصارم بين الدولة والقطاع الخاص. وفي المقابل، يعرض المذهب التجاري رؤية عضوية شركاتية حيث تتحالف الدولة مع القطاع الخاص فيتعاونا في السعي إلى تحقيق أهداف مشتركة، مثل النمو الاقتصادي المحلي أو القوة الوطنية.
وقد يهزأ البعض بالنموذج التجاري بوصفه رأسمالية الدولة أو باعتبارها نظاماً قائماً على المحسوبية والمحاباة. ولكن عندما ينجح هذا النموذج، كما حدث في كثير من الأحيان في آسيا، فسرعان ما تحظى المبادئ الأساسية للنموذج، مثل «التعاون بين الحكومة والشركات» أو «دعم الدولة لقطاع الأعمال»، بقدر كبير من الثناء. والواقع أن الاقتصادات المتخلفة لم تفشل في ملاحظة حقيقة مفادها أن المذهب التجاري من الممكن أن يصبح صديقاً لها. وحتى في بريطانيا، لم تصل الليبرالية الكلاسيكية إلا في منتصف القرن التاسع عشر - أي بعد أن أصبحت البلاد القوة الصناعية المهيمنة على مستوى العالم.
ويكمن الفارق الثاني بين النموذجين في تمييز مصالح المستهلك أو المنتج. ففي نظر الليبراليين، المستهلكون هم الملوك. والهدف المطلق للسياسة الاقتصادية يتلخص في زيادة قدرة الأسر على الاستهلاك، وهو ما يتطلب منحها قدرة غير مقيدة على الوصول إلى السلع والخدمات بأقل ثمن ممكن.
وفي المقابل يؤكد أنصار المذهب التجاري على الجانب الإنتاجي من الاقتصاد. فالاقتصاد السليم في نظرهم يستلزم وجود بنية إنتاجية سليمة. ولابد أن يرتكز الاستهلاك إلى معدلات تشغيل عمالة عالية وأجور كافية.
ويخلف هذان النموذجان المختلفان على السياسات الاقتصادية الدولية تأثيرات يمكن التنبؤ بها. فيتلخص منطق النهج الليبرالي في أن الفوائد الاقتصادية المترتبة على التجارة تنشأ من الواردات: فكلما كانت الواردات أرخص، كلما كان ذلك أفضل، حتى ولو أفضى هذا إلى العجز التجاري. ولكن أنصار المذهب التجاري ينظرون إلى التجارة باعتبارها وسيلة لدعم الإنتاج المحلي وتشغيل العمالة، ويفضلون تحفيز الصادرات وليس الواردات.
وتمثل الصين اليوم الحامل الرائد لشعلة المذهب التجاري، ولو أن قادة الصين لن يعترفوا بهذا أبداً - فما زال قدر كبير من العار ملتصق بهذا المصطلح. بل إن قدراً كبيراً من المعجزة الاقتصادية التي حققتها الصين كانت نتاجاً لعمل حكومة نشطة حريصة على دعم وتحفيز المنتجات الصناعية -المحلية والأجنبية- وتقديم إعانات الدعم لها صراحة.
ورغم أن الصين ألغت تدريجياً العديد من إعانات الدعم الصريحة كشرط لالتحاقها بعضوية منظمة التجارة العالمية (التي انضمت إليها عام 2001)، فإن نظام دعم النزعة التجارية لا يزال باقياً هناك إلى حد كبير. وبشكل خاص، أدارت الحكومة أسعار الصرف بحيث تحافظ على ربحية المصنعين، الأمر الذي أدى إلى تراكم فائض تجاري كبير (والذي انخفض مؤخرا، ولكن انخفاضه كان راجعاً في الأساس إلى التباطؤ الاقتصادي). وعلاوة على ذلك، تستمر الشركات القائمة على التصدير في الاستفادة من مجموعة من الحوافز الضريبية. ومن وجهة النظر الليبرالية فإن إعانات التصدير هذه تعمل على إفقار المستهلكين الصينيين في حين تعود بالفائدة على المستهلكين في بقية العالم. ووفقاً لتقديرات دراسة حديثة أجراها الخبيران الاقتصاديان فابريس ديفيفر وأليخاندرو ريانيو من جامعة نوتنجهام فإن «خسائر» الصين في هذا السياق تبلغ نحو %3 من دخل الصينيين، ومكاسب بقية العالم بنحو %1 من الدخل العالمي. ولكن من وجهة النظر التجارية فإن هذه ببساطة هي تكاليف بناء اقتصاد حديث وتمهيد الطريق إلى الازدهار الطويل الأمد.
وكما يُظهِر مثال إعانات دعم الصادرات، فإن النموذجين من الممكن أن يتعايشا معاً في الاقتصاد العالمي بكل بساطة. وينبغي لليبراليين أن يشعروا بالسعادة لأن استهلاكهم مدعوم من قبل أنصار المذهب التجاري.
وهذه باختصار قصة العقود الستة الماضية: فقد تمكنت مجموعة متعاقبة من الدول الآسيوية من تحقيق نمو هائل وسريع من خلال تطبيق أشكال مختلفة من المذهب التجاري. وكانت الحكومات في الدول الغنية تنظر إلى الجانب الآخر أغلب الوقت في حين كانت بلدان مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، والصين، تحمي أسواقها المحلية، وتستولي على «الملكية الفكرية»، وتقدم إعانات الدعم للمنتجين، وتتلاعب بعملاتها.
والآن بلغنا منتهى هذا التعايش السعيد. فقد تعرض النموذج الليبرالي لقدر عظيم من التشويه، بسبب اتساع فجوة التفاوت بين الناس والمحنة التي يعيشها أبناء الطبقة المتوسطة في الغرب، فضلاً عن الأزمة المالية التي تولدت عن إلغاء القيود التنظيمية. والآن تتراوح توقعات النمو في الأمد المتوسط بالنسبة للاقتصاد الأميركي والاقتصادات الأوروبية بين معتدلة إلى قاتمة. وسوف تظل البطالة تشكل صداعاً حقيقياً والشغل الشاغل لصناع القرار السياسي. لذا فمن المرجح أن تتصاعد ضغوط أنصار المذهب التجاري في الدول المتقدمة.
ونتيجة لهذا، فإن البيئة الاقتصادية الجديدة سوف تنتج المزيد من التوتر -وليس التوفيق- بين الدول التي تتبع مسارات ليبرالية أو تجارية بحتة. بل ولعلها تعيد إلى الحياة من جديد مناقشات قديمة ظلت ساكنة لفترة طويلة حول نوع الرأسمالية الأعظم إنتاجاً للازدهار.
أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة هارفارد
• بالتنسيق مع «بروجيكت سانديكيت»
اليوم، يُرفَض المذهب التجاري عادة باعتباره مجموعة عتيقة وخاطئة بشكل صارخ من الأفكار حول السياسة الاقتصادية. لا شك أن أنصار المذهب التجاري كانوا في أوج مجدهم يدافعون عن بعض المفاهيم البالغة الغرابة، ومن بين أهم هذه المفاهيم كان الرأي القائل بأن السياسة الوطنية لابد أن تسترشد بتراكم المعادن الثمينة - الذهب والفضة.
في أطروحته بعنوان «ثروات الأمم» في عام 1776 هدم آدم سميث العديد من هذه الأفكار. وقد أظهر سميث بشكل خاص أهمية عدم الخلط بين المال والثروة. وعلى حد تعبيره: «إن ثروة أي بلد لا تتكون من الذهب والفضة فقط، بل إنها تشمل أيضاً أراضيه، وبيوته، والسلع التي يستهلكها بمختلف أشكالها وأنواعها». ولكن الأكثر دقة أن نفكر في المذهب التجاري باعتباره طريقة مختلفة لتنظيم العلاقة بين الدولة والاقتصاد - وهي الرؤية التي لا تقل أهميتها اليوم عما كانت عليه في القرن الثامن عشر. والواقع أن منظري المذهب التجاري من أمثال توماس مون كانوا من أشد أنصار الرأسمالية حماسا؛ ولكنهم طرحوا نموذجاً مختلفاً عن الليبرالية.
ينظر النموذج الليبرالي للدولة باعتبارها كياناً استغلالياً نهاباً بالضرورة، وينظر إلى القطاع الخاص باعتباره جهة ريعية انتهازية بطبيعتها. وبالتالي فإنه يدعو إلى الفصل الصارم بين الدولة والقطاع الخاص. وفي المقابل، يعرض المذهب التجاري رؤية عضوية شركاتية حيث تتحالف الدولة مع القطاع الخاص فيتعاونا في السعي إلى تحقيق أهداف مشتركة، مثل النمو الاقتصادي المحلي أو القوة الوطنية.
وقد يهزأ البعض بالنموذج التجاري بوصفه رأسمالية الدولة أو باعتبارها نظاماً قائماً على المحسوبية والمحاباة. ولكن عندما ينجح هذا النموذج، كما حدث في كثير من الأحيان في آسيا، فسرعان ما تحظى المبادئ الأساسية للنموذج، مثل «التعاون بين الحكومة والشركات» أو «دعم الدولة لقطاع الأعمال»، بقدر كبير من الثناء. والواقع أن الاقتصادات المتخلفة لم تفشل في ملاحظة حقيقة مفادها أن المذهب التجاري من الممكن أن يصبح صديقاً لها. وحتى في بريطانيا، لم تصل الليبرالية الكلاسيكية إلا في منتصف القرن التاسع عشر - أي بعد أن أصبحت البلاد القوة الصناعية المهيمنة على مستوى العالم.
ويكمن الفارق الثاني بين النموذجين في تمييز مصالح المستهلك أو المنتج. ففي نظر الليبراليين، المستهلكون هم الملوك. والهدف المطلق للسياسة الاقتصادية يتلخص في زيادة قدرة الأسر على الاستهلاك، وهو ما يتطلب منحها قدرة غير مقيدة على الوصول إلى السلع والخدمات بأقل ثمن ممكن.
وفي المقابل يؤكد أنصار المذهب التجاري على الجانب الإنتاجي من الاقتصاد. فالاقتصاد السليم في نظرهم يستلزم وجود بنية إنتاجية سليمة. ولابد أن يرتكز الاستهلاك إلى معدلات تشغيل عمالة عالية وأجور كافية.
ويخلف هذان النموذجان المختلفان على السياسات الاقتصادية الدولية تأثيرات يمكن التنبؤ بها. فيتلخص منطق النهج الليبرالي في أن الفوائد الاقتصادية المترتبة على التجارة تنشأ من الواردات: فكلما كانت الواردات أرخص، كلما كان ذلك أفضل، حتى ولو أفضى هذا إلى العجز التجاري. ولكن أنصار المذهب التجاري ينظرون إلى التجارة باعتبارها وسيلة لدعم الإنتاج المحلي وتشغيل العمالة، ويفضلون تحفيز الصادرات وليس الواردات.
وتمثل الصين اليوم الحامل الرائد لشعلة المذهب التجاري، ولو أن قادة الصين لن يعترفوا بهذا أبداً - فما زال قدر كبير من العار ملتصق بهذا المصطلح. بل إن قدراً كبيراً من المعجزة الاقتصادية التي حققتها الصين كانت نتاجاً لعمل حكومة نشطة حريصة على دعم وتحفيز المنتجات الصناعية -المحلية والأجنبية- وتقديم إعانات الدعم لها صراحة.
ورغم أن الصين ألغت تدريجياً العديد من إعانات الدعم الصريحة كشرط لالتحاقها بعضوية منظمة التجارة العالمية (التي انضمت إليها عام 2001)، فإن نظام دعم النزعة التجارية لا يزال باقياً هناك إلى حد كبير. وبشكل خاص، أدارت الحكومة أسعار الصرف بحيث تحافظ على ربحية المصنعين، الأمر الذي أدى إلى تراكم فائض تجاري كبير (والذي انخفض مؤخرا، ولكن انخفاضه كان راجعاً في الأساس إلى التباطؤ الاقتصادي). وعلاوة على ذلك، تستمر الشركات القائمة على التصدير في الاستفادة من مجموعة من الحوافز الضريبية. ومن وجهة النظر الليبرالية فإن إعانات التصدير هذه تعمل على إفقار المستهلكين الصينيين في حين تعود بالفائدة على المستهلكين في بقية العالم. ووفقاً لتقديرات دراسة حديثة أجراها الخبيران الاقتصاديان فابريس ديفيفر وأليخاندرو ريانيو من جامعة نوتنجهام فإن «خسائر» الصين في هذا السياق تبلغ نحو %3 من دخل الصينيين، ومكاسب بقية العالم بنحو %1 من الدخل العالمي. ولكن من وجهة النظر التجارية فإن هذه ببساطة هي تكاليف بناء اقتصاد حديث وتمهيد الطريق إلى الازدهار الطويل الأمد.
وكما يُظهِر مثال إعانات دعم الصادرات، فإن النموذجين من الممكن أن يتعايشا معاً في الاقتصاد العالمي بكل بساطة. وينبغي لليبراليين أن يشعروا بالسعادة لأن استهلاكهم مدعوم من قبل أنصار المذهب التجاري.
وهذه باختصار قصة العقود الستة الماضية: فقد تمكنت مجموعة متعاقبة من الدول الآسيوية من تحقيق نمو هائل وسريع من خلال تطبيق أشكال مختلفة من المذهب التجاري. وكانت الحكومات في الدول الغنية تنظر إلى الجانب الآخر أغلب الوقت في حين كانت بلدان مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، والصين، تحمي أسواقها المحلية، وتستولي على «الملكية الفكرية»، وتقدم إعانات الدعم للمنتجين، وتتلاعب بعملاتها.
والآن بلغنا منتهى هذا التعايش السعيد. فقد تعرض النموذج الليبرالي لقدر عظيم من التشويه، بسبب اتساع فجوة التفاوت بين الناس والمحنة التي يعيشها أبناء الطبقة المتوسطة في الغرب، فضلاً عن الأزمة المالية التي تولدت عن إلغاء القيود التنظيمية. والآن تتراوح توقعات النمو في الأمد المتوسط بالنسبة للاقتصاد الأميركي والاقتصادات الأوروبية بين معتدلة إلى قاتمة. وسوف تظل البطالة تشكل صداعاً حقيقياً والشغل الشاغل لصناع القرار السياسي. لذا فمن المرجح أن تتصاعد ضغوط أنصار المذهب التجاري في الدول المتقدمة.
ونتيجة لهذا، فإن البيئة الاقتصادية الجديدة سوف تنتج المزيد من التوتر -وليس التوفيق- بين الدول التي تتبع مسارات ليبرالية أو تجارية بحتة. بل ولعلها تعيد إلى الحياة من جديد مناقشات قديمة ظلت ساكنة لفترة طويلة حول نوع الرأسمالية الأعظم إنتاجاً للازدهار.
أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة هارفارد
• بالتنسيق مع «بروجيكت سانديكيت»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق