كتب محرر دار الغربة : نص قديم لكنه مهم
الصومال اليوم - القرن الأفريقي (أهميته الاستراتيجية وصراعاته الداخلية) د. جلال الدين محمد صالح(*)
Thursday, 07 May 2009 04:23
القرن الأفريقي تحديده وهويته:
القرن الأفريقي هو ذلك القرن الناتئ في شرق القارة الأفريقية والذي يضم كلاً من الصومال، وجيبوتي، وإثيوبيا، وإرتريا، ويلحق به السودان، وكينيا، وأوغندا تأثراً وتأثيراً. وهو وبهذا التحديد قرن إسلامي الهوية للكثافة السكانية المسلمة التي تقطنه، والتي تتشكل في غالبها من قبائل الأرومو، والجالا في إثيوبيا، والصوماليين في الصومال وجيبوتي، وأوجادين بإثيوبيا، وإينفدي بكينيا، والعفر في جيبوتي وإرتريا وأثيوبيا والبجة الموزعين بين إرتريا وشرق السودان، ومن عداهم من القبائل والمجموعات الإسلامية الأخرى من العرقيات المختلفة هنا وهنالك والتي تضم نسباً متفاوتة من المسلمين كالأمهرا، وغيرهم.
هذه القبائل ذاتها هي التي طوقت في العصور الوسطى الهضبة الحبشية بما عرف في تاريخ المنطقة بـ (ممالك الطراز الإسلامي)، وعزلتها تماماً عن المنافذ البحرية إلى حد أن (الحيمي) الذي زار الحبشة عام 1648م على رأس بعثة يمنية موفدة من إمام اليمن وقتها وصف بلاد الحبشة «بأنها البلاد الجبلية التي تبعد عن البحر الأحمر مسيرة شهر»(1).
أهمية القرن الأفريقي:
يكتسب القرن الأفريقي أهميته الاستراتيجية من كون دوله تطل على «المحيط الهندي من ناحية، وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحية ثانية؛ ومن ثم فإن دوله تتحكم في طريق التجارة العالمي، خاصة تجارة النفط القادمة من دول الخليج والمتوجهة إلى أوروبا والولايات المتحدة. كما أنها تُعدّ ممراً مهماً لأي تحركات عسكرية قادمة من أوروبا، أو الولايات المتحدة في اتجاه منطقة الخليج العربي.
ولا تقتصر أهمية القرن الأفريقي على اعتبارات الموقع فحسب وإنما تتعداها للموارد الطبيعية، خاصة البترول الذي بدأ يظهر في الآونة الأخيرة في السودان، وهو ما يعد أحد أسباب سعي واشنطن تحديداً لإيجاد حل لقضية الجنوب، وكذلك في الصومال»(1).
أضف إلى ذلك قربه من جزيرة العرب بكل خصائصها الثقافية ومكنوناتها الاقتصادية، علاوة إلى ما فيه من جزر عديدة ذات أهمية استراتيجية من الناحية العسكرية والأمنية(2).
في الآونة الأخيرة وبعد أحداث نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001م، واستهداف سفارتي أمريكا عام 1998م في كل من كينيا وتنزانيا برزت أهمية منطقة القرن الأفريقي بشكل أكبر في حرب أمريكا المعلنة على الإرهاب الدولي؛ حيث زارها وزير الدفاع الأمريكي (دونالد رامسفيلد)، والجنرال تومي فرانكس، والجنرال جون ساتلر قائد القوات الأمريكية في القرن الأفريقي، ويرابط على أرضها أكثر من 1800 جندي أمريكي، كما ترسو على واحد من موانئها ـ وهو ميناء جيبوتي ـ حاملة الطائرات (مونت وايتني)، وتجوب سواحلها بعض السفن الموكلة بمراقبة كل سواحل القرن الأفريقي.
الوجود الإسلامي في القرن الأفريقي:
ارتبطت جزيرة العرب مهد الإسلام، ومنبع رسالته، ومولد نبيه # بالقرن الأفريقي منذ وقت مبكر من فترات التاريخ؛ حيث حكم أبرهة الحبشي اليمن، وسعى في خراب الكعبة، وكما في الحديث أن هدم الكعبة سيكون على يد رجل من الحبشة ومن قَبْل ذلك هاجرت قبائل حبشات العرب الجنوبية إلى المنطقة، وأنشأت دولة الحبشة ناقلة معها ثقافتها وحضارتها، كان ذلك في «عام 1000 قبل الميلاد، أو عام 600 قبل الميلاد»(3).
ثم لاحقاً توثقت صلاة قريش الاقتصادية بالمنطقة؛ حيث كانت تردها قوافلهم التجارية من قَبْل البعثة قاصدة بلاد الحبشة، كما يحكي ذلك ابن الجوزي(4).
وبعد البعثة النبوية أمّها المستضعفون من الصحابة فراراً من أذى قريش إلى ملك عادل لا يظلم عنده أحد، ومنذ ذلك الحين والوجود الإسلامي في القرن الأفريقي يتنامى ويتعاظم شأنه إلى أن صارت له شوكة وغلبة، لكن بالمقابل ازدادت حدة التدافع بينه وبين خصومه؛ حيث تنادت كل قوى الشر المتربصة به للتحالف ضده؛ فتدخلت القوى الأوروبية بأساطيلها وجيوشها للحيلولة دون تفرده بالهيمنة على القرن الأفريقي والتحكم في أهميته الاستراتيجية، وأقامت فيما بينها تحالفاً ضم الأقلية الدينية في الحبشة ممثلة وقتها في (عرقية الأمهرا) ذات الأغلبية النصرانية، والمحاصرة في نطاق ضيق من بلاد الحبشة؛ وذلك حين كتبت (هيلينا) ملكة الحبشة حينها إلى (عمانويل) ملك البرتغال عام 1510م تشكو إليه تخوفها من مصر، وممالك الطراز الإسلامي في القرن الأفريقي، كما أن الحبشة في عهد (لبنا دنقل) وقّعت وثيقة اتفاق عام 1520م مع القوى الأوروبية المتآمرة على الوجود الإسلامي بصفة عامة نصت على أن «يحتفظ ملك فرنسا بقوة عسكرية في (سواكن)، ويحتل ملك أسبانيا (زيلع)، ويتخذ ملك البرتغال من (مصوع) قاعدة لقواته(1)..»
وفيما بعد سقوط الخلافة وزحف الاستعمار الغربي شهد القرن الأفريقي استيطاناً استعمارياً؛ حيث احتل الإيطاليون الصومال، وإرتريا والفرنسيون جيبوتي والإنجليز كينيا، والسودان، لكن وجهوا بحركات مقاومة إسلامية؛ إذ وقف الإمام (محمد أحمد المهدي) قبال الإنجليز في السودان، وناوش أتباعه الإيطاليين في إرتريا، وكذلك السيد (محمد عبد الله حسن) في الصومال (وهو تلميذ السيد محمد صالح مؤسس الطريقة الصالحية في مكة المكرمة).
وعلى أساس من هذا الرصيد التاريخي من النضال والمجاهدة ما زالت الحركة الإسلامية في القرن الأفريقي تنشط بمختلف مدارسها العلمية والحركية، وهي اليوم جزء من معادلة الصراع والتحالفات الجارية في منطقة القرن الأفريقي.
وبعد تصفية الوجود الاستعماري، وتحرر دول القرن الأفريقي من قيوده دخلت المنطقة في إشكاليات داخلية ذات أبعاد متعددة: عرقية، وثقافية، وسياسية.
ونتيجة للتخلف الاقتصادي، والفوارق الثقافية بين السكان، بالإضافة للسياسات الاستعمارية التي تأسست على منهجية (فرق تسد) بتفضيل قوم على قوم، وبإثارة النعرات العرقية والقبلية، والإلحاقات القسرية الاستعمارية التي شطرت القبيلة الواحدة إلى شطرين أو أكثر، وضمت فريقاً منها إلى كيان فريق مغاير من قوم آخرين على غير رغبة منها وتشاور معها شهدت دول القرن الأفريقي كغيرها من دول أفريقيا بشكل عام حالة من التوترات الحادة والاستقطابات المتباينة الأمر الذي فجر فيها ثورات تحررية وأخرى تظلمية؛ مما أقحمها في شباك تحالفات أيديولوجية مع هذا المعسكر أو ذاك خلال حقبة الحرب الباردة، وأشعل فيما بين شعوبها حروباً قبلية دامية حرمتها حتى هذه اللحظة نعمة الأمن والاستقرار.
القرن الأفريقي فيما بعد الحرب الباردة:
كان القرن الأفريقي في فترة الحرب الباردة واحداً من أشد مناطق العالم التهاباً واشتعالاً؛ حيث حط الروس رحالهم في الصومال في عهد (زياد بري)، ثم بعد سقوط العرش الإمبراطوري في 12/9/ 1974م ومجيء العسكر بقيادة الجنرال (أمان عندوم) ثم (منجست وهيلي ماريم) ترك السوفييت مقديشو، ورحلوا عنها إلى (أديس أبابا) ليحلوا محل الأمريكان (حلفاء الإمبراطور المعزول هيلي سلاسي)، وليدعموا النظام الماركسي بكل ما لديهم من عتاد عسكري، وخبرة أمنية حتى يتمكن من إخماد التمرد في كل من (أوجادين وإرتريا) الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى هزيمة الصومال في حرب (أوجادين) (1977م ـ 1978م)، وانهيارنظامه السياسي تماماً عقب الانقلاب الذي أطاح (بزياد بري) عام 1989م مدعوماً من قادة إثيوبيا الماركسيين لتتفرغ القوات الإثيوبية بعد ذلك للجبهة الإرترية التي استعصت على الهزيمة والانكسار على الرغم من قساوة وشدة الحملات العسكرية المتلاحقة إلى أن انهار (نظام منجست) الاشتراكي عام 1991م بانهيار المنظومة الاشتراكية كلها عقب ظهور (البيرسترويكا على يد ميخائيل جورباتشوف)، وهكذا وصل تحالف فصائل الثوار المناوئين (لنظام منجست) وبقيادة (ملس زناوي) رئيس وزراء إثيوبيا الحالي، (وإسياس أفورقي) رئيس إرتريا إلى كل من أديس أبابا، وأسمرا بمباركة أمريكا ورعايتها.
القرن الأفريقي وقادته الجدد:
استبشرت أمريكا بقادة القرن الأفريقي الجدد من بعد أن مكنتهم من السلطة، وكانوا من قبل ماركسيين على تفاوت بينهم في الولاء العقدي للماركسية، يلعنون أمريكا وأخواتها أمثال: (ملس زناوي في إثيوبيا، إسياس أفورقي في إرتريا) وجميعهم من أصول نصرانية، وعلقت عليهم الكثير من آمالها لا سيما فيما يتعلق بالموقف من المد الإسلامي في المنطقة، وعلى وجه الخصوص من ثورة الإنقاذ التي استلمت السلطة في السودان بانقلاب عسكري قاده الفريق (عمر حسن البشير) في 30 يونيو 1989م، وتعاقد هؤلاء جميعهم في حلف عسكري لأداء المهام المنوطة بهم، ووجدوا دعماً عسكرياً من (إدارة كلنتون) التي وصفتهم بدول المواجهة في مقابل السودان، فقد حصلت كل من أرتريا، وإثيوبيا، وأوغندا على ما يقرب من عشرين مليون دولار خلال النصف الثاني من عام 1996م لاستخدامها في زعزعة الاستقرار السياسي في السودان.
وأفاد (جورج موسى مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق للشؤون الأفريقية) ـ موضحاً ـ: «أن المساعدات العسكرية المذكورة مخصصة لمساعدة البلدان الثلاثة المشار إليها في تعزيز قدرتها على الدفاع عن نفسها(1)».
وما زال الرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) حتى هذه اللحظة القرن البارز في عداء السودان وخصومته انطلاقاً من أن السودان بات مصدر تهديد لأمن بلاده بدعمه لحركة الجهاد الإسلامي الإرتري التي غيرت لاحقاً اسمها إلى (حركة الإصلاح الإسلامي)؛ فمنذ أن أعلن (أفورقي) قطع العلاقات الدبلوماسية مع السودان، وآوى المعارضة السودانية بشتى ألوانها مانحاً إياها مقر السفارة السودانية في (أسمرا) جعل من إرتريا منطلقاً لنشاط (المعارضة السودانية السياسية والعسكرية)؛ حيث أقام لها معسكرات تدريب، وخاطبها بضرورة إسقاط (نظام البشير).
يقول ضابط في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الذي زار إثيوبيا، وإرتريا، وأوغندا في أواخر عام 1996م طبقاً لما نقله عن مجلة (الوسط عدد 251) كل من سعد ناجي، وعبد السلام إبراهيم في كتابهما «الأمن القومي العربي ودول الجوار الأفريقي» : «إن أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل سوداني معارض يرابطون الآن في شمال إرتريا، وقد زارهم الرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) وشجعهم...، وقال لهم: أنتم تريدون سقوط نظام (عمر البشير) ونحن أيضاً نريد ذلك».
إن المقاتلين السودانيين حسب المعلومات المتداولة بين الإرتريين يرابطون في غرب إرتريا، حيث معسكرات التدريب وليس في شمالها، وأيّاً كان الأمر فإن الحكومة الإرترية كما هو صريح كلام (إسياس) لا تخفي حماسها في إيواء المعارضة السودانية العسكرية منها، والسياسية، والتنسيق معها في الإطاحة بنظام (البشير).
لكن سرعان ما انكسرت هذه الأحلاف، واختلطت الأوراق، وقامت على أنقاضها أحلاف من نوع جديد؛ فقد وقف (موسيفيني) على نقيض من (كابيلا)، وساند عليه معارضيه بعد أن كان من قبل حليفاً له في حربه ضد (موبوتو) لكون (كابيلا) ينحدر من التوتسي (القومية نفسها التي ينحدر منها أيضاً يوسفيني)، كما أن حرباً ضروساً اندلع أوراها بين إرتريا وإثيبوبيا في 6 مايو عام 1998م لتنهي بذلك أقوى حلف استراتيجي بين (إسياس أفورقي وملس زناوي) المنحدرين من قومية (التجرنية) في شمال إثيوبيا ومرتفعات إرتريا، بعد أن كانا حليفين يقاتلان معاً ضد (نظام منجست، وهيلي ماريام) وهيمنة قومية (الأمهرا)، ويخططان لتوطيد دعائم حكم التجرنية في كل من إرتريا وإثيوبيا، وبسط نفوذهما بشكل أقوى في المنطقة كلها من بعد إسقاط نظام الإنقاذ، وتمكين (جون قرنق) والعناصر اليسارية والشعوبية من السودان كله؛ وبهذا دخل القرن الأفريقي في طور آخر من التحالفات وتعقيداتها جعلت منه بؤرة صراع عسكري حاد وتوتر أمني شديد، فعلى الصعيد الإثيوبي أعلن مقاتلو (أوجادين) عن توحدهم، وأعربوا عن استعدادهم لقبول مختلف الدعم العسكري والسياسي من مختلف الجهات في سبيل إحراز استقلال الإقليم وفصله عن إثيوبيا، وقد صب هذا في مصلحة إرتريا التي أخذت على عاتقها دعم اتجاهات كهذه ما دامت تشغب على إثيوبيا، وتصرف مجهودها الحربي والتنموي إلى قضايا جانبية، كما أن إثيوبيا من جانبها لم تهمل هذا النوع من المكايدة؛ فقد رحبت بالمعارضة الإرترية في أديس أبابا، كذلك وجدت جيبوتي نفسها في معمعة هذا الصراع بحكم المجاورة وتداخل المصالح؛ فقد قطعت حينها علاقتها مع إرتريا بعد أن اتهمها الرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) وقتها بالانحياز المكشوف نحو إثيوبيا، لكن بعد ذهاب (جوليد) ومجيء (غيلة) عادت علاقة البلدين إلى وضع أفضل، ويعود هذا إلى الخلاف الذي طرأ في العلاقة الجيبوتية الإثيوبية بسبب اختلاف وجهة نظر البلدين في الموقف من الوضع السائد في الصومال، ومشروع المصالحة الذي تقدمت به جيبوتي عام 2000م إلى بعض الفصائل الصومالية التي خرجت باختيار برلمان انتقالي من 254 عضواً، اختير من بينهم (عبده قاسم صلاد) رئيساً لجمهورية الصومال من بين خمسة وأربعين مرشحاً لمنصب الرئاسة؛ وهذا لم يرضِ إثيوبيا وحلفاءها الصوماليين من أمراء الحرب القبلية؛ حيث لعبت إثيوبيا دوراً معيقاً في تنفيذ قرارات المؤتمر؛ مما أدى إلى شبه إخفاق مشروع جيبوتي التصالحي، أيضاً خشيت جيبوتي من جانب آخر أن يؤدي توتر علاقتها مع إرتريا إلى تبني إرتريا للمعارضة الجيبوتية المعروفة باسم (جبهة استعادة الوحدة والديمقراطية) بقيادة (محمد كدعمي)، والذي شدد زعيمها هذا عام 2000م على اتهام حكومة الرئيس (غيلة) بالنكوص عن عهودها ومواثيقها التي أبرمتها مع جبهته بباريس في فبراير 2000م بشأن إعادة التوازن العرقي في المؤسسة العسكرية، وانسحاب الجيش من مناطق العفر، والسماح بالعودة للاجئين العفريين من مناطق لجوئهم في إثيوبيا وإرتريا؛ حيث يوجد أكثر من ثلاثة وعشرين ألف لاجئ: ثمانية عشر ألفاً منهم في إثيوبيا، وخمسة آلاف في إرتريا على حد قول زعيم الجبهة.
ومن جانبها قامت إثيوبيا بمبادرات إصلاحية؛ حيث دعت في 1997 م إلى (اجتماع سودري) لتسوية الوضع الصومالي، ولكن على النحو الذي يخدم استراتيجيتها، ويجعل من الصومال كياناً مطواعاً، إلا أنها عجزت عن كسب ثقة كل الفصائل الصومالية، وبخاصة (حسين عيديد) الذي وقف معارضاً لكل ما انبثق عن (اجتماع سودري) من لجان وقرارات معتبراً ذلك نمطاً من أنماط التدخل الإثيوبي في الشؤون الصومالية؛ وبهذا انحصر هذا الاجتماع على ستة وعشرين فصيلاً، خرجوا بتكوين مجلس أطلق عليه (مجلس الإنقاذ الوطني الصومالي) من أبرز رجاله (عثمان عاتو).
ومهما كان حظ (عيديد) من الصدق في تشخيص النوايا الإثيوبية من وراء تنظيم هذا اللقاء فإن التأثير القبلي في القيادات الصومالية بات عقبة صعبة التجاوز، فلم تعد هذه المواقف الرافضة خاصة بإثيوبيا ومبادراتها وإنما ـ أيضاً ـ باتت مصير كل مبادرة لا يجد فيها طرف من الأطراف المتحاربة نصيبه الأوفى حتى لو كانت من المحيط العربي والإسلامي، وهذا ما جرى مع لقاء القاهرة في 22/12/1997م الذي انعقد بعد لقاء (سودري)، وحضره (عيديد)، إلا أنه عورض من قِبَل قيادات أخرى من أمثال: الكولونيل عبد الله يوسف، واللواء آدم عبد الله اللذين أعلنا فور وصولهما إلى (أديس أبابا) معارضتهما لكل ما نجم عنه من قرارات.
وهكذا بقي الصومال ينزف دماً، ويعيش حالة من التمزق والفوضى السياسية، وجعلت منه كل من إرتريا وإثيوبيا ساحة لتصفية صراعاتهما بالتحالف مع أمراء الحرب المتقاتلين، وإغراقه بكميات كبيرة من الأسلحة؛ حيث تنحاز إرتريا نحو (عيديد الابن)، في حين تنحاز إثيوبيا نحو (عثمان علي عاتو) الذي ندد أكثر من مرة بالسياسة الإرترية في دعم المعارضة الإثيوبية الأرومية الكامنة في الصومال تحت مظلة (عيديد الابن).
وكتب مدير (مركز القرن الأفريقي للدراسات الإنسانية) في مقديشو نقلاً عن الصحف المحلية: «أن وفداً عسكرياً إرتريّاً قام بزيارة معسكرات التدريب للثوار الصوماليين والأروميين»(1)، وكان ذلك في إبريل من عام 1999م.
وقد استباحت إثيوبيا الصومال أكثر من مرة بحجة ضرب ما أسمته بـ (أوكار الأصولية الإسلامية) في إشارة منها إلى (الاتحاد الإسلامي)، ونظمت أكثر من لقاء طارئ لإحباط المخطط الإرتري في الصومال.
ولا ريب أن اتساع رقعة التنافر بين القيادات الصومالية يعد مؤشراً جلياً في أن الصومال سيبقى بعيداً عن بر الأمان ملتهباً ومتقرحاً، وتتساقط عليه جراثيم الصراع الإقليمي لتعمق من جراحاته إلى أجل غير مسمى، وهو بالقدر الذي يمثله بوضعه الحالي من وصمة عار على جبين بنيه يعكس من جانب آخر ضعف المنظمات الإقليمية (عربية، وأفريقية) في حل معضلات الشعوب لافتقارها إلى آليات فرض الحلول المناسبة، وعصارة ما يمكن أن يقال بشأن الصومال: أن الاستراتيجية الإثيوبية تجاه الصومال والتي هي محل إجماع جميع الحكام الإثيوبيين نجحت أيما نجاح في تفجير الجسم الصومالي من الداخل لتجعل منه أشلاء متناثرة هنا وهناك، كل طرف منها يرفرف على حدة رفرفت الديك المذبوح.
الحرب الإرترية الإثيوبية:
الحرب الإرترية الإثيوبية تعد أشرس حرب عرفتها منطقة القرن الأفريقي في السنوات الأخيرة؛ حيث حشد فيها الطرفان ما يربو عن ربع مليون جندي، وتكبد فيها البلدان الكثير من الخسائر البشرية والمادية؛ وبالرغم من أنها انتهت بهزيمة إرتريا، ووضعت أوزارها بتوقيع قيادة البلدين اتفاق الجزائر في 8 يونيو من عام 2000 م، ثم بتوقيع اتفاق سلام شامل في الجزائر في 12/12/2000م برعاية (منظمة الوحدة الأفريقية)، وبحضور الأمين العام للأمم المتحدة «كوفي عنان» والرئيس الجزائري (عبد العزيز بوتفليقة)، وصدر بحقها في 14 أبريل 2002م قرار لجنة ترسيم الحدود بين البلدين فإن إثيوبيا ما زالت ترفض القبول بهذا القرار، وترى فيه إجحافاً في حقها؛ حيث قال وزير خارجيتها (سيوم مسفن) في 15 إبريل 2003م: «لا أحد يتوقع بأن إثيوبيا سوف تقبل تلك الأخطاء التي وقعت بها لجنة الحدود»، ثم أعقب ذلك التصريح بيان وزارة الخارجية الإثيوبية الذي اتهم اللجنة بالتحيز غير العادل.
وفي آخر لقاء صحفي له (منشور بموقع قبيل gabeel.com مترجماً) يقول رئيس وزراء إثيوبيا (ملس زناوي) عن قرار لجنة ترسيم الحدود: «لم نعترف بأن قرار مفوضية الحدود قرار قانوني منصف».
وحمّل إرتريا تبعات استمرار الموقف المتأزم، وعلى الرغم من أنه نفى أن تكون له نوايا شن حرب جديدة على إرتريا إلا أنه أكد عدم تردده من الرد بالمثل إذا ما قررت إرتريا اللجوء إلى الحل العسكري.
لا أعتقد من جانبي بأن إرتريا تلجأ إلى الحسم العسكري، وإن كنت لا أستبعده تماماً؛ فهي في موقف ضعف شديد، وتعاني من تفكك داخلي؛ بسبب سوء إدارة (أفورقي) الذي انفرد بالقرار، وزجّ بمعارضيه من رفاق الثورة والنضال في السجون والمعتقلات متهماً إياهم بالعمالة، وعجز تماماً عن إجراء مصالحة وطنية شاملة، هذا إلى أن وضعها الاقتصادي بلغ حداً من التدهور يكون معه إعلان الحرب ضرباً من الهوس والجنون غير المتصور، وأيّاً يكن البادئ بالحرب فإنها متى أضرمت نارها ستكون كارثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لكن ما الذي تريـده إثيوبيا من إرتريا بالضبط؟.
إن إثيوبيا تريد إسقاط (نظام أفورقي) وإزاحته من الوجود؛ فهوالمسؤول الأول في نظرها عن تفجير الأزمات مع الجيران، وأنه يريد أن يفرض ذاته «كسوبرمان في المنطقة عن طريق الضغط على جيرانه بالقوة» حسب تعبير وزير الخارجية الإثيوبي (سيوم مسفن) في مجلة المجلة عدد 1002 تاريخ 25/ 4 ـ 1/5/1999م، وهذا مؤشر واضح في أن الصراع الحالي بين إسياس أفورقي، وملس زناوي ليس هو صراع حدود وإنما هو صراع وجود، كل منهما يستهدف منه وجود الآخر، وإذا كان من الصعب على (إسياس) ـ كما أرى ـ إسقاط نظام حليفه السابق (ملس زناوي) للعزلة السياسية المضروبة عليه إقليمياً، بل ودولياً، وللضائقة الاقتصادية التي تطوقه وتحدّ من فرص استمراره في هذا الصراع بنفس طويل، وللكراهية المتصاعدة من شعبه لنظام هو أسلوب إدارته فإن إسقاط (زناوي) له أكثر توقعاً واحتمالاً لما لإثيوبيا من قدرات تفوق قدرات إرتريا، ولا أرى في تباطؤ إثيوبيا وتماطلها في رسم الحدود إلا بقصد إنهاك (أفورقي) وتأزيم مشكلاته الداخلية بكل صنوفها تعجيلاً بإطاحته، ومن ثم تشكيل إرتريا على النحو الذي يروق لها، ويتناسب مع مصالحها، وهذه الغاية الإثيوبية تجري بموافقة ومباركة حلفائها في (تجمع صنعاء السودان واليمن)؛ باعتبارهما تضررا من سياسات (أفورقي)، ولا يودان له البقاء على عرش الحكم.
تجمع صنعاء ودول القرن الأفريقي:
(تجمع صنعاء): هو مظهر من مظاهر التحالفات السياسية في القرن الأفريقي، وهو عبارة عن تحالف إقليمي بين ثلاث دول هي: إثيوبيا، والسودان، واليمن، وقد ولدت مسودته في اكتوبر/ تشرين الأول عام 2002م في قمة جمعت زعماء الدول الثلاث في العاصمة اليمنية صنعاء.
ولا يمكن النظر إليه بمعزل عن المؤثرات السياسية في منطقة القرن الأفريقي، وهي كثيرة: منها ما هو موضوعي كالوجود الأمريكي في المنطقة، ومنها ما هو ذاتي كالصراعات الناشبة بين الأنظمة الثلاثة من جهة وإرتريا من جهة أخرى.
ووفقاً للبيان الختامي الصادر يوم تأسيسه عن اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث المشار إليها: أن الغاية من إنشائه تكمن في إقامة علاقة تعاون بناء بين دول جنوب البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وتعزيز الأمن والسلام في المنطقة.
وفي قمـة (أديس أبابا) تاريخ 29 /12/2003 م أكـد رؤسـاء الـدول الثــلاث بـأن بـاب العضـويــة فـي التجمـع مفتـوحة لكـل مـن يـؤمن بأهدافه ومبادئه من دول المنطقة، لكن مع ذلك يلاحظ المتابع غيـاب إرتـريا؛ فمـاذا إذن وراء هـذا الغيـاب؟.
الإرتريون من طرفهم يرون فيه تجمعاً يستهدف نظامهم، ويعمق عزلتهم، وهو جزء من الصراع الذي تقوده إثيوبيا ضدهم في المنطقة سعياً إلى إسقاط (نظام الجبهة الشعبية) في أسمرا؛ ومن هنا قال إسياس أفورقي عن قيادة التجمع: إنهم يعملون لإسقاط نظامنا، ولكن سنتغلب عليهم بالتعاون مع حلفائنا، ولن يستطيعوا أبداً.
أما وزير خارجيته (علي سيد عبد الله) فيقول عنه في مقابلة له مع الشرق الأوسط نشرت بتاريخ 14/12/2003: هذا مولود مشوّه وكسيح ولا خوف منه بتاتاً، وهو في المقام الأول لا يقوى على فعل شيء.
وفي دراسة أعدها المركز الإرتري للدراسات الاستراتيجية تحت عنوان «قمة صنعاء الثلاثية ـ قمة تعاون أم تآمر» نجد القراءة الإرترية لأهداف التجمع تشير إلى أنه يحمل أجندة علنية، وأخرى سرية؛ وإذا كانت العلنية تلك التي تناقلتها الوسائل الإعلامية كما أفصح عنها قادة التجمع فإن السرية كما تلخصها تلك الدراسة الإرترية هي:
أولاً: السعي لفرض عزلة إقليمية على إرتريا.
ثانياً: دعم العناصر غير الوطنية، والإرهابية.
ثالثاً: التآمر على إرتريا بلداً وشعباً.
رابعاً: العمل لإسقاط الحكومة الوطنية الإرترية، وتنصيب حكومة من الخونة، والعملاء، والإرهابيين خدمة لمصالح أنظمة دول حلف صنعاء الثلاثي.
وللإفادة فإن الإرهابيين مصطلح يستخدمه النظام الإرتري في الإشارة إلى (الحركة الإسلامية الإرترية) في حين المقصود بالخونة والعملاء هم أولئك الذين يعارضون خطه من بقية فصائل الثورة الإرترية وهؤلاء الذين انشقوا عنه لاحقاً، وانضموا إلى معسكر المعارضة، ومما يجدر ذكره هنا أن كثيراً من فصائل المعارضة الإرترية بما في ذلك (الحركة الإسلامية) بشقيها يجمعها تحالف مشترك باسم (التجمع الوطني الإرتري) بقيادة (حروي تدلا باريو) وهذا له ترحيب من دول صنعاء من باب المجازاة بالمثل.
وقوبلت هذه القراءة الإرترية من قِبَل رؤساء دول التجمع بشيء من الإزدراء والاستخفاف؛ ففي قمة (أديس أبابا) المشار إليها ـ أعلاه ـ بعد أن اتهم الرئيس السوداني (عمر البشير) إرتريا بزعزعة أمن بلاده، وأيده في ذلك رئيس وزراء إثيوبيا (ملس زناوي) بقوله: «إن إرتريا تعاني من مشاكل مع كل جيرانها»، وسخر رئيس الوزراء الإثيوبي من القراءة الإرترية لأهداف التجمع قائلاً: إن تشكيل تحالف ضد دولة صغيرة أمر غير وارد، وأن كل عضو في منتدانا قادر علـى مواجهة إرتريا بمفرده.
بينما قال الرئيس اليمني (علي عبد الله صالح): إن لإرتريا خلافات مع كل دول الجوار، والمخرج الوحيد لها هو الحوار مع هذه الدول وليس المواجهة.
ومهما كانت قراءة الإرتريين لأهداف التجمع ونظرتهم إلى آثاره النفسية والسياسية عليهم، وبالمقابل مهما تباينت وجهات نظر المحللين في تحليل (حلف صنعاء) وتلمس أهدافه فإن الحلف بلا شك عزل إرتريا سياسياً واقتصادياً، وليس صحيحاً ما يقوله وزير خارجية إرتريا من أنه ولد كسيحاً ومشوهاً، ولا ينتظر منه أن يفعل شيئاً؛ فالحصار الاقتصادي المضروب على إرتريا من دول محور صنعاء بجانب العزلة السياسة المفروضة عليها أوصل البلاد إلى أقصى درجات الضيق والحرج المعيشي، وأربك السياسة الإرترية كل الإرباك، وحالة اللاحرب واللاسلم التي تعيشها إرتريا مع إثيوبيا أقعدت الاقتصاد الإرتري تماماً عن الحركة، وأصبح معها المجهود الحربي وتجنيد قوى الشباب الهم الأول والرئيس في أجندة حكومة (أفورقي)، أيضاً نمَّى (حلف صنعاء) مشاعر الثقة بالنفس في القوى المعارضة لسياسات (أفورقي) من خارج نظامه وداخله، فازدادت نسبة الهاربين من مختلف أجهزة النظام والرتب القيادية إلى كل من السودان، وإثيوبيا، واليمن عبر الحدود المشتركة لتخوض ضده عملاً سياسياً أو عسكرياً؛ بغية إسقاطه نتيجة لحملة الاعتقالات التطهيرية التي تشهدها ساحة الحزب الحاكم؛ من هنا نستطيع أن نقول: إن حلف صنعاء فعلاً يستهدف ضمن ما يستهدف عزل النظام الإرتري، وتضييق الخناق عليه من أجل إسقاطه وإزاحته، وإثيوبيا ـ كما قلت من قبل ـ أكثر حماساً وتطلعاً إلى تغيير النظام السياسي الحاكم في إرتريا، وحقيقة أن النظام في إرتريا هو الذي بدأ انتهاج هذا النهج يوم أعلن أنه لن يهدأ له بال إلا بإسقاط (نظام البشير)، لكن جاءته الرياح من حيث لا تشتهي سفنه لتعصـف به من حيـث لا يحتـسب، وبـات هــو المــهدد بالسقــوط أكـثر مـن غيره نتيجة أخطاء أرتكبها بيده، وأحسب أن القرن الأفريقي على موعد مع أحداث إثيوبية إرترية من المتوقع أن تكون أكثر دموية وأشد عنفاً.
القرن الأفريقي والاستراتيجية الإسرائيلية.
يعود الاهتمام الإسرائيلي بالقرن الأفريقي بصفته أهم موقع استراتيجي بالنسبة لهم من الناحية الأمنية منذ ولادة الدولة العبرية في المنطقة الإسلامية العربية التي عـرفت إعـلامياً بالشـرق الأوســط، وتعد إثيوبيــا الحليــف الأول لاستـراتيجيـة إســـرائيل فـي المنطـقة، وبـوابتهـا الطبيعـية إلى بقية دول القرن الأفريقي.
أما العلاقة الإسرائيلية الإثيوبية فأصل مرجعها تلك الأسطورة الخرافية التي تزعم بأن الدم اليهودي يسري في عروق (منيليك) ومن حكم بعده من حكام إثيوبيا؛ باعتبارهم على حد زعم الاسطورة ينحدرون من صلب نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ ولهذا لقب الإمبراطور (هيلي سلاس) نفسه بأسد يهوذا.
ومهما كان الأمر فإن كل ما يهم إسرائيل أن لا يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً؛ لذا استمرت إسرائيل منذ عام 1949م في تقديم مساعداتها العسكرية لجميع حكام إثيوبيا بما فيهم الماركسي (منجست وهيلي ماريام)، وكان لإسرائيل قواعد عسكرية في الجزر الإرترية التي استأجرتها من إثيوبيا يوم كانت إرتريا جزءاً من إثيوبيا، وقد أنشأت فيها هذه القواعد بعد زيارة (ديّان) لإثيوبيا عام 1965م، وفي 11 سبتمبر من العام نفسه سجل (حاييم برليف) زيارة سرية لإثيوبيا.
ثم بعد قرب سقوط نظام (منجست) رفعت إسرائيل ـ كما يذكر مستشار الرئيس الإرتري للشؤون التجارية (محمد أبو القاسم حاج حامد) في كتابه (نحو وفاق وطني سوداني) ـ الفيتو عن الثورة الإرترية في أهم العواصم الغربية بداية من واشنطن، ولندن، وبون، وروما وحتى باريس؛ فقد كانت إسرائيل تكبل هذه العواصم، وتحول دون تعاطيها مع الثورة الإرترية على أساس أن الاستقلال الإرتري ضمن ارتباط إرتريا بالعرب يشكل مساساً بأوضاعها الإقليمية (الاستراتيجية، والأمنية) في البحر الأحمر والقرن الأفريقي»(1).
وبهذا يتكشف لنا أن استقلال إرتريا عن إثيوبيا جاء بعد رفع الفيتو الإسرائيلي عن استقلالها في تلك الحواضر الغربية؛ وذلك بالطبع ضمن شرائط، وضمانات تقيد إرتريا من الميل كل الميل نحو الحق العربي، ونستطيع أن نقول: إن إسرائيل استطاعت أن تعيد تأسيس علاقتها من جديد بكل من إثيوبيا وإرتريا على ضمان مصالحها في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، ولم تتأثر هذه المصالح بانفصال إرتريا عن إثيوبيا، وظهورها دولة مستقلة في القرن الأفريقي.
إن هذه النتيجة لايسلِّم بها الإثيوبيون ولا الإرتريون؛ إذ ينفي كل منهما أن تكون علاقته مع الكيان الصهيوني على حساب الحق العربي والمصلحة العربية، وإن كان يتهم كل منهما الآخر بأنه أكثر قرباً إلى إسرائيل من صاحبه، هذا ما قاله وزير خارجية إثيوبيا (سيوم مسفن) لجريدة الزمان اللندنية تاريخ 1/1/2002م في شأن العلاقة الإرترية الإسرائيلية أثناء الحرب بين البلدين؛ حيث قال: «بأن لدى إثيوبيا معلومات عن قدوم الإسرائيليين إلى إرتريا، وتجهيزها بالسلاح عبر وكلاء أو شركات مسجلة في دول أخرى مثل: هنغاريا، وبلغاريا، ورومانيا، ولا يسعني إلا التأكيد بأن من يريد مساعدة إرتريا ضد إثيوبيا راغب في الاصطياد في الماء العكر... والخلاصة فإن إثيوبيا لا ترتبط بأي علاقة خاصة مع إسرائيل»
والإرتريون من جانبهم أيضاً يرمون إثيوبيا بهذه التهمة؛ ففي مقال له بعنوان (العلاقات الإرترية العربية قراءة جديدة) يقول (رئيس المركز الإرتري للدراسات الاستراتيجية الدكتور أحمد حسن دحلي): «صحيح أن إسرائيل عادت استقلال إرتريا قولاً وعملاً من ناحية، ولم تقف موقف الحياد في الحرب الإرترية الإثيوبية لدى اندلاعها في عام 1989م، بل إنها انحازت إلى جانب العدوان والغزو الإثيوبي ضد إرتريا بلداً وشعباً بقيامها بصيانة الطائرات الإثيوبية المقاتلة؛ وذلك بشهادة رئيس وزرائها الأسبق بنيامين نتنياهو».
من غير التقليل من أهمية هذه الاتهامات المتبادلة بين النظامين في إرتريا وإثيوبيا بشأن علاقتهما مع إسرائيل أودّ أن أقول: إن كل ما يهمنا معرفته هنا هو أن لكل منهما ارتباطاً وثيقاً بالاستراتيجية اليهودية في القرن الأفريقي، ويمثلان معاً أهمية أساسية لدولة الكيان الصهيوني في معاكسة المصلحة العربية، بغض النظر عن أي الطرفين أكثر قرباً بإسرائيل من الآخر، وعن أي منهما انحازت إسرائيل في حربهما الحدودية، قد تكون إسرائيل أمدت هذا وذاك بالكيفية التي تناسبها لكونهما مهمين معاً بالنسبة لاستراتيجيتها في القرن الأفريقي، ولكل منهما مكانته المعتبرة والمقدرة في هذه الاستراتيجية؛ فكما يرى فلاسفة اليهود ومفكروهم أن لكل من إرتريا الخارجة على المجموعة العربية والإسلامية بفضل سياسات النخبة النصرانية التجرنياوية الحاكمة، بالإضافة إلى إثيوبيا العريقة في نصرانيتها، وظهور دولة إسرائيل اليهودية على أرض فلسطين يعدُّ نصراً كبيراً في تجريد الشرق الإسلامي عن صبغته الإسلامية الصرفة حسب قول المؤرخ الإسرائيلي البرفسور (هاجا أيرلي) في محاضرة له بعنوان «الشرق الأوسط والإسلام»، ألقاها عام 1997م في جامعة (أديس أبابا) بحضور جمع غفير من الكتاب، والمؤرخين، والمثقفين، وغيرهم من الشخصيات الرسمية، وقال فيها: إن الشرق الأوسط لم يعد منطقة إسلامية بحتة، وأن القاهرة لم تعد عاصمة إسلامية... لقد تغير الوضع كلياً؛ فالسيطرة الإسلامية لهذه المنطقة انتهت ببروز دولة إسرائيل، وإرتريا التي يسيطر عليها المسيحيون، وبوجود دولة إثيوبيا المسيحية العريقة، وببروز الكيان المسيحي فـي مصــر كــقوة مــؤثرة فـي المنطــقة؛ إذ يمكن للأقباط إقامة دولتهم المسيحية في دلتا النيل في أي وقت؛ نظراً لنمو تعـدادهم وتمــاسكهم وتفـوقهـم العـلمـي»(1).
إن هذا القول من البرفسور (هاجا أيرلي) لا يدع مجالاً للشك في أن العلاقة الإسرائيلية الإرترية من ناحية والعلاقة الإسرائيلية الإثيوبية من ناحية أخرى ذات خصوصية مميزة في مقابلة الإسلام ـ على الأقل كما يراها مفكرو اليهود وفلاسفتهم ـ، والملاحظ في العلاقة الإثيوبية الإسرائيلية استعصاؤها على عواصف التغيير السياسي مهما كانت طبيعة النظام السياسي المهيمن على مقاليد الحكم في إثيوبيا؛ وهذا ما أكده وزير الدفاع الإسرائيلي (موشي آرنز) بقوله ـ كما في جريدة الحياة 25/5/1991م ـ: «بصرف النظر عن طبيعة النظام في (أديس أبابا) وما يمكن أن يحل محله ينبغي الحفاظ على المصلحة المشتركة بين إسرائيل وإثيوبيا؛ وذلك لكون إثيوبيا الدولة الوحيدة غير العربية المطلة على البحر الأحمر».
وعلى هذا الأساس من الثوابت في العلاقة الإسرائيلية الإثيوبية ليس غريباً أن نرى وزير خارجية إسرائيل (سيليفان شالوم) يزور إثيوبيا في 6 يناير 2004م، ورئيس وزراء إثيوبيا (ملس زناوي) يزور إسرائيل في الثاني من يونيو 2004م تلبية لدعوة نظيره (أرييل شارون).
التقارير الصحفية تقول: إن زيارة (شالوم) استمرت لثلاثة أيام، وضمت وفداً يتكون من 30 رجلاً من كبار رجالات الأعمال الإسرائيليين في أكبر الشركات اليهودية بغرض التباحث في شؤون الزراعة، والاتصالات، والأمن.
وبطبيعة الحال إن التغلغل الإسرائيلي بكل جوانبه وصنوفه في عمق القارة الأفريقية، وفي القرن الأفريقي منها على وجه الخصوص عبر البوابة الإثيوبية يعد بشكل أساس واحداً من مرامي هذه الزيارة ـ إن لم يكن أوحدها ـ بجانب التباحث حول مياه النيل، وكيفية توظيفها في مصلحة البلدين كل حسب استراتيجيته.
أما فيما يتعلق بزيارة (ملس زناوي) فتشير التقارير الصحفية إلى أن من بين الملفات الحساسة التي تناولتها محادثات (زناوي) مع كبار مسؤولي الكيان الصهيوني موضوع (يهود الفلاشا، ومسألة النزاع الحدودي مع إرتريا، ومياه النيل، وجذب المستثمرين اليهود)، وهي موضوعات بالغة الأهمية؛ فكل منها قضية مستقلة في حد ذاتها، ويمس بعضها الأمن العربي مساً مباشراً ـ إذا كان هنالك فعلاً أمن عربي يؤرق العرب ـ.
وعلى كلٍ حسبنا هنا أن ندرك أن الوجود اليهودي في القرن الأفريقي ما زال قوياً ومستمراً، وأنه بشكل أو آخر يعمل في توظيف صراعات القرن الأفريقي العرقية، ونزاعاته الحدودية لصالح السياسات الإسرائيلية؛ وذلك باللعب على كل المتناقضات، واستغلال كل الثغرات المتاحة حتى يبقى قادة الأقلية الحاكمة في المنطقة مرتبطين بالكيان الصهيوني وسياساته حفاظاً على وجودهم في مقاعد الحكم لأطول أمد ممكن.
وإذا كانت مسألة النزاع الحدودي بين إرتريا وإثيوبيا واحدة من القضايا التي بحثتها زيارة (ملس زناوي) مع المسؤولين الإسرائيليين ـ كما تشير تلك التقارير الصحفية ـ فإنما ذلك من أجل السعي إلى كسب إسرائيل إلى الجانب الإثيوبي ضمن الاستراتيجية الإثيوبية التي تتبعها حكومة (ملس زناوي) في عزل نظام (أفورقي) وإسقاطه، ومن ثم تشكيل إرتريا تشكيلاً جديداً؛ ولعل هذا ما جعل (أفورقي) يسارع إلى فتح سفارته في (تل أبيب) لإعاقة خطوات هذه الاستراتيجية في الساحة الصهيونية إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ولا أعتقد أن إسرائيل تطمئن لسقوط (أفورقي)، وتجاري الإثيوبيين على ذلك ما لم تجد ضمانات من الجانب الإثيوبي على أن لا يكون وريثه الاتجاه العروبي أو الإسلامي، ومن هنا إذا ما وافقت الإدارة الإسرائيلية على الخطة الإثيوبية في الإطاحة (بأفورقي) فإن ذلك يعني وجود ضمانات، وتطمينات إثيوبية في أن النظام الذي يحل محله لا يكون أبداً ذا نزعة عربية أو إسلامية وإنما نظاماً يأخذ مصالح إسرائيل في القرن الإفريقي والبحر الأحمر مأخذ الجد، وتكون سياسته في ذلك جزءاً من السياسة الإثيوبية، ومن المؤكد أن هذا التطمين الإثيوبي إنما هو رد على الوشايات الإرترية لدى اليهود بأن إثيوبيا متحالفة مع اتجاهات عربية وإسلامية في إسقاط نظام (أفورقي)؛ وذلك محاولة من نظام (إسياس) في تحييد الدولة العبرية، إن لم يمكنه كسبها نحوه؛ وعليه من المرجح أن تكون الحكومة الإرترية البديلة لنظام (أفورقي) لا تختلف أبداً عن نظامه في التوافق والانسجام مع الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، بل وأسوء من ذلك لن تخرج عن خيارات السياسات الإثيوبية، ولن تكون لها استقلاليتها الكاملة، والحق يقال: إن (أفورقي) بكل أوزاره وآثامه الديكتاتورية والشيفونية معاً تأخذه العزة من أن يكون تابعاً في سياساته للقيادة الإثيوبية، إن لم يكن هو الموجه والراسم لهذه السياسة؛ وهذا هو لب الصراع الناشب بينه وبين حليفه السابق (ملس زناوي).
ولا ريب أن إتيان إثيوبيا بحكومة بديلة على النحو الذي أشرت إليه لا يقل خطورة في نسف الاستقرار الأمني في المنطقة عن نزاعات ملس، وأفورقي؛ لأنه سيتم بالتأكيد على حساب المجموعات العربية والإسلامية وتهميشها، وهي قوى أساسية لا تقبل المساومة في استقلالية القرار الإرتري، وحقه في اتخاذ سياسات إقليمية مستقلة تخدم مصالح البلاد بالدرجة الأولى والأساسية، كما لا يمكن أيضاً تهميشها وتجاهلها؛ وإن كان للأسف كل هذا يتقرر في غياب تأثير عربي على الصعيد الدولي والإقليمي نتيجة لحالة الوهن الراهنة التي تعيشها الأمة كاملة، والمتابع لقوى المعارضة الإرترية وتحالفاتها يلمس وجود قابلية لدى بعض فصائلها للعمل ضمن الاستراتيجية الإثيوبية تلهفاً نحو السلطة، وتعلقاً بها مهما كانت المآلات والنتائج.
القرن الأفريقي والتأثير العربي:
العرب لا محالة معنيون بكل غاشية تغشى القرن الأفريقي بحكم ارتباطهم به أمنياً، وثقافياً، واقتصادياً، ومن المفترض أن يكون لهم اهتمام بكل ما تشهده ساحة القرن الأفريقي من صراعات ونزاعات أيّاً كانت طبيعتها، ولكن بما أن العرب في وضع لا يحسدون فيه من حيث التفرق، وانزواء كل دولة من دولهم في حدود ذاتها مغلقة عليها بابها من الطبيعي أن يقضى الأمر في غيابهم جميعاً، أو أن يكون صوتهـم خافتاً ووجودهم باهتاً.
نعم! ثمة تحرك عربي شوهد من بعض الدول العربية كمصر، والسعودية، وقطر، وأيضاً ليبيا للأسهام في حل نزاعات القرن الأفريقي، ومثل هذا التحرك وإن كان تعبيراً عن إدراك أهمية القرن الأفريقي للأمن العربي إلا أنه من الصعب جداً أن يكون أكيد المفعول، وبالغ التأثير ما لم يتسم بالمتابعة الجادة ليخدم فقط مصالح الاستراتيجية العربية، وإلا لن يفلح في توجيه المسار وفق مقتضيات الاستراتيجية العربية إن كان لهذه الاستراتيجية وجود فعلي، أو في قطف ثمار أي طارئ سياسي إيجابي من الممكن أن يشهده القرن الأفريقي، بل على العكس ربما جلب الضرر، وحيث أن غالب السياسات العربية لا تنطلق من دراسات تقدمها جهات متخصصة، ولا تنطلق أيضاً من استراتيجية أمنية موحدة من الطبيعي أن تكون دون مستوى السياسة الإسرائيلية في التأثير، وأن تأتي التحركات العربية في القرن الأفريقي ـ كما في غيرها ـ على غير تناسق فيما بينها، وأن نرى لكل بلد عربي موقفاً مغايراً لموقف الآخر كل حسب قبلته السياسية، هذا ما كانت عليه السياسة العربية فيما قَبْل الهيمنة الأمريكية ـ يوم كان العرب موزعين على المعسكرين ـ وهي اليوم على ما كانت عليه، بالإضافة إلى اشتداد حالة الهزال السياسي في الجسم العربي والذي لا يمكّنهم من اتخاذ قرارات ورسم سياسات تتجاهل، أو تتنافس، أو تتزاحم مع إرادة وسياسات الولايات المتحدة باعتبارها القوة التي لا يعصى لها أمر، ولا يؤمن منها جانب إذا ما زوحمت، ونوفست في تخطيط مناطق نفوذها الاستراتيجي، وكل العرب اليوم يخطبون ودّها، فأنى لهم منافستها؟ أو تجاهل خططها بوضع سياسات تنبع من المصلحة العربية الصرفة!. وإزاء هذا الواقع التعيس فإنه لا معنى لأن يقف العقيد (معمر القدافي) مخاطباً الشعب الإرتري في أول زيارة له في 5 فبراير 2003 م لإرتريا بقوله: «من مصلحة إرتريا أن تكون عضواً في المؤتمر الإسلامي، والجامعة العربية مثلما هو الحال بالنسبة لجيبوتي، والصومال، والسودان..»، وداعياً إلى عدم ترك «فراغ في القرن الأفريقي تملؤه القوة الأجنبية» مشيراً إلى أن: «هناك مخاوف من استغلال ما يسمى بمكافحة (الإرهاب) بإعادة الاستعمار العسكري، والسيطرة الأجنبية مرة أخرى على مصالح القرن الأفريقي».
هذا الكلام من (العقيد القدافي) مهما كان في حد ذاته صحيحاً لا يعني في النهاية شيئاً سوى أنه مجرد كلام لا معنى له ما لم ينطلق من استراتيجية واحدة، ولا تأثير له والصف العربي يعاني من حالة التعثر والتبعثر، والتشوش في الرؤية، والربك في الخطاب السياسي؛ فهل ثمة أمل قريب يلوح في الأفق يبشر ببزوغ فجر عربي جديد يكون للعرب فيه قول الفصل ليس في شؤون القرن الأفريقي فحسب وإنما أيضاً في كل ما يمس شأنهم الأمني، والاقتصادي، والسياسي من السياسة الدولية؟ ذلك ما نرجوه، ولعله يكون قريباً.
القرن الأفريقي وحرب الإرهاب:
لقد تسابقت دول القرن الإفريقي، وتنافست فيما بينها في الوقوف مع أمريكا في حملتها على ما أسمته (بالإرهاب الإسلامي)، واستقبلت إدارة بوش في ديسمبر 2002م كلاً من الرئيس الكيني (أرب موي)، ورئيس الوزراء الإثيوبي (ملس زناوي)، كذلك الرئيس الجيبوتي (إسماعيل عمر غيلة) في يناير 2003 م، أما الرئيس الإرتري (أسياس أفورقي) فقد سعى قدر طاقته إلى استغلال هذا الحدث لصالحه، وقدم نفسه إلى العالم الغربي باعتباره أول من عانى من الإرهاب، وأول من قاومه؛ في إشارة منه إلى صراعه مع (الحركة الإسلامية الإرترية) وخصومته مع السودان.
وعلى ضوء ما كشف عنه (جون أبي زيد) قائد القيادة المركزية الأمريكية في 30/7/2003م في العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا) أن بلاده أنشأت ـ أو بصدد إنشاء ـ قوة عمل تشارك فيها إحدى عشرة دولة أفريفية هي: مصر، وإثيوبيا، وإرتريا، وجيبوتي، وبورندي، ورواندى، والكونغو، وكينيا، وأوغندا، وتنزانيا، وسيشل.
وأوضح (جون ساتلر) المسؤول عن القوات الأمريكية بجيبوتي أن هذه القيادة المعروفة باسم (قوة العمل في القرن الأفريقي) تتألف من أربعمائة شخص يمثلون جميع أفرع القوات المسلحة الأمريكية والمستخدمين المدنيين، فضلاً عن ممثلين لجيوش الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة في حملتها ضد الإرهاب الدولي.
وكان وزير الدفاع الأمريكي قد أعلن في زيارته لجيبوتي أن الولايات المتحدة ستبقي انتشارها في جيبوتي لعدة أعوام، وقال: إنها منطقة يوجد فيها الكثير من العمل.
ولأن مصطلح (الإرهاب) لم يعرف تعريفاً قانونياً واضحاً ومحدداً بات مصطلحاً يلجأ إليه كل طرف لتصفية حساباته السياساته مع الطرف الآخر؛ من هنا ولأن دول القرن الأفريقي في الوقت الذي تهرع فيه إلى محالفة أمريكا نرى القوى المتحاربة منها يتهم كل منها الآخر بالإرهاب؛ ففي غضون الأشهر الماضية من هذا العام حمَّلت إرتريا الانفجارات التي حدثت خلال أيام الاحتفالات بيوم الاستقلال في مدينة (بارنت وغرب البلاد) كلاً من إثيوبيا والسودان، كما فعلت من قَبْل في قتل الجيولوجي البريطاني الذي وجد مذبوحاً في (غرب إرتريا) حسب ما أذاعه (نظام أفورقي)؛ حيث نسبت ذلك إلى السودان، في حين أن (الحركة الإسلامية الإرترية) نفت مسؤوليتها عن الحدثين المذكورين؛ بالرغم من إصرار الحكومة الإرترية على اتهامها بتنفيذه بالتنسيق مع الإثيوبيين والسودانيين، كل ذلك من أجل الظهور بمظهر الضحية، وإلفات الأعين الغربية إلى ذلك للفوز بأكبر قدر ممكن من الرضى والتعاطف الأمريكي، وبالمقابل ـ أيضاً ـ يتهم كلٌ من السودان، وإثيوبيا إرتريا بتحريض العمل الإرهابي ضد بلديهما، وعلى كل فإن كلاً من النظامين يعملان في توظيف هذا الحدث لصالحهما ضد القوى المعارضة لا سيما الإسلامية منها؛ وحيث أن القوى الإسلامية تمثل عمقاً ثقافياً وتاريخياً في المجتمع الإرتري وكذلك المجتمع الإثيوبي يحاول كلا النظامين كلٌّ بطريقته ضرب الطوق عليها إقليمياً ودولياً من خلال وسمها بتهمة الإرهاب.
لقد استغل (إسياس أفورقي) انشغال أمريكا والعالم بأحداث الحادي عشر من سبتمبر ليس فقط في الإساءة إلى (الحركة الإسلامية) وإنما أيضاً في التخلص من رفاقه الذين شاركوه وفي بناء فصيله الحاكم حتى يوم الاستقلال؛ إذ انقض عليهم على حين انشغال المجتمع الدولي بأحداث سبتمبر فرمى بهم إلى ما وراء السجون متهماً إياهم بالعمالة، ثم بكل حماس رحب بالأمريكان ليحلوا ضيوفاً مكرمين عنده في موانئه البحرية (عصب، ومصوع) إلا أنهم تجاهلوا طلبه، وآثروا عليه جيبوتي، وعندما سئل في مؤتمره الصحفي ـ كما نقلت ذلك جريدة البيان الإماراتية في 11/12/2002 ـ فيما إذا كانت إرتريا ستسمح لأمريكا باستخدام موانئها البحرية ومطاراتها البرية؟ أجاب: يمكنكم أن تتصوروا أن هذا أدنى ما يمكن أن نقوم به.
وتحت عنوان: (حليفنا الجديد) كتب (جول موبري ـ Joel Mowbray) ـ وهو موظف سابق في الكونقرس الأمريكي، تنشر له عديد من الصحف والمجلات الأمريكية منها: (واشنطن تايم، ونيويورك بوست، وجويش ورلد رفيو) والأخيرة صحيفة يهودية كما يبدو من اسمها، ويعد أحد كتّاب موقع ـTownhall.com المتخصص في نشر أخبار المحافظين ـ نشر في 10/7/ 2002 م ـ مقالاً عن إرتريا في مجلة ألكترونية تدعى National review online قال فيه: «إرتريا هي البلد الذي لا يضطرك إلى لَيَّ ذراعه؛ فهي في حد ذاتها تعاني من (الإرهاب الإسلامي)، وينظر إليها كثير من رجال البانتاجون كحليف استراتيجي، خصوصاً في ضرب العراق)...
وقد قام الجنرال (تومي فرانك) برحلات متكررة إلى إرتريا، كما أن تقارير عدة من صوت أميريكا والصحافة الأجنبية أكدت أنه ناقش القضايا الأساسية مع مسؤولي الحكومة الإرترية.
إرتريا بلد متعاون مع الأمريكان وذات موقع استراتيجي، والإرتريون راغبون في العمل معنا ... تجربة إرتريا مع الإرهاب من المحتمل أن توضح لنا لماذا هي البلد الوحيد في المنطقة الذي يتعاون وبشكل علني وواضح مع إسرائيل؟.
لقد أغضبت إرتريا بموقفها هذا جامعة الدول العربية التي أرادت منها وبإلحاح الانضمام إليها».
ومع أن هذا القول من (جول بوري) يُعرِّي نظام (الجبهة الشعبية)، ويكشف إفلاسه، ويجسد في الوقت ذاته خطورته على الأمن العربي إلا أنه يفترض أن لا يثير أدنى غرابة؛ فهوالموقف الطبيعي والمتوقع من نظام شوفينيي يعيش حالة فشل وإخفاق في التغلب على مشاكله الداخلية، وحالة عزلة ثقافية وحضارية في المحيط العربي والإسلامي؛ ومن ثم لا يحس بأي روابط قومية وعقدية مع الشعوب العربية والإسلامية في صراعها مع الكيان الصهيوني، كما لا يرى له أية مصلحة في الارتباط بها، والوقوف مع حقها العادل، أو على الأقل في تبني الحياد، لا سيما في وقت اتسع فيه تشرذم الصف العربي، وتنامى تخاذله وهوانه على الأمريكان، وتآمر قياداته على بعضها البعض.
فمنذ أن تربع هذا النظام على أريكة السلطة في إرتريا وحتى هذه اللحظة ما زال يقتات على حساب الحق العربي والإسلامي، ويرتبط في سبيل ذلك انطلاقاً من مكيافيليته الصارخة، وشوفينيته البغيضة بتحالفات مشبوهة مع (الحركة الصهيونية) والقوى الإمبريالية؛ فها هو بعد أن خسر المسألة السودانية، وفقد أهم كروتها من جراء إحباط الدبلوماسية السودانية ـ بصمت وحكمة ـ وظنها خوراً وضعفاً) كل مآمراته ضد بلدها؛ فوجد نفسه مجرداً من أهم عوامل تسويق ذاته في دوائر صناعة القرار الأمريكي، وأراد تعويض شيء من ذلك من خلال تسويق نفسه لدى الإدارة الأمريكية مرة ثانية باستغلال ما أسمته أمريكا بمكافحة (الإرهاب الإسلامي) بعد أحداث 11سبتمبر وذلك بشكل مخجل بلغ إلى حد لم يتردد فيه سفير إسياس بواشنطن (جرما أسمروم) ـ طبقاً لما ذكره الدكتور برخت هبتي سلاسي، وكان برخت أحد حلفاء (أفورقي) قبل الانشقاق عنه ـ من إغراء الولايات المتحدة بعمق مياه الموانئ الإرترية، وبامتيازات تضاريس إرتريا الجبلية المشابهة لجبال أفغانستان على حد وصفه؛ الأمر الذي جعل (جول موبري) الكاتب الأمريكى المذكور يقول: إن إرتريا هي البلد الذي لا يضطرك إلى لَيِّ ذراعه!!.
ومع هذا لا يستحي الرئيس (إسياس) من أن يخرج في المنابر الإعلامية بين الفينة والأخرى ليتهم الآخرين علناً بالوهم واختلاق الأكاذيب، حين يسأل عن القواعد العسكرية الأجنبية في السواحل والجزر الإرترية قائلاً كما في (لقاء اليوم) الذي أجرته معه قناة الجزيرة بتاريخ 13/12/2001: نحاول أن نبقى مستقلين في قرارنا، ونحاول أن نشارك بشكل بناء في العلاقات الإقليمية، ولا نريد أن نرى تعقيدات سياسية من خلال اتباع سياسات غير سليمة لمصلحة المنطقة، وهذا حديث يدور في أذهان بعض القوى السياسية في المنطقة التي تحاول توهم الشارع العربي بأكاذيب واختلاق معلومات ما موجودة في الواقع».
كيف يمكن أن نبقى مستقليين مع هذه السياسة التى جعلت من بلدنا دولة تعرض نفسها في سوق السياسة الأمريكية إلى حد توصف فيه من الرخص والبخس بأنها الدولة التي لا تكلف لي الذراع؟!! وكيف يمكن أن نشارك بشكل بناء في العلاقات الإقليمية، ونحن نجعل من موانئ إرتريا وجزرها منصة صواريخ أمريكية تطلق لتغيير أنظمة وتنصيب أخرى؟!.
ثم بأي منطق نتهم الآخرين (باختلاق معلومات ما موجودة في الواقع) على حد تعبير الرئيس بعد أن تورطت الدبلوماسية الإرترية في أمريكا ممثلة في السفير (جرما أسمروم) بإغراء أمريكا ودعوتها إلى استغلال المياه الإرترية!، وأخيراً هل هذا مما يتناسب مع منطلقاتنا وثوابتنا في بناء السياسة الخارجية إذا كانت لنا فعلاً ثوابت ومنطلقات نابعة من إرادتنا، وهويتنا وليس من إرادة نزعة فردية في حزب واحد؟. إن هذه الممارسة الرخيصة في العمل الدبلوماسي لا تليق بدبلوماسية بلد ضحّى في سبيل استقلال إرادته بمئآت الآلاف من الشهداء طوال ثلاثين عاماً، وتذوق مرارة الظلم والاضطهاد السياسي والعدوان العسكري، وما زال شعبه حتى اللحظة هذه يعاني ويلات الشتات والتشرد، ولكنها العقلية الشوفينية الضيقة التي لا تنطلق في رسم سياستها من مرجعية برلمانية منتخبة، والتي لا يهمها من الأمر إلا حماية وجودها وإطالة بقائها، واستمرار هيمنتها مهما كلف ذلك من كرامة الوطن والشعب الشيء الكثير لكونها لا تحمل من الطموحات سوى تكريس الاضطهاد القومي والثقافي؛ ومن ثم من الطبيعي أن تنساق لمطالب الإدارة الأمريكية، وتنقاد لها ـ من غير لَيّ الذراع ـ في تعريفها للإرهاب على نقيض كثير من الدول التي تحترم سيادة بلدها واستقلالية قرارها، وتعبِّر بوضوح عن مخالفتها للأمريكان في معنى الإرهاب، وعن مخاوفها من أن يؤدي مطاوعة الأمريكان في تعريفهم للإرهاب إلى عواقب غير حميدة تجر العالم إلى أزمات حادة، وعلاقات دولية غير مستقرة.
وإزاء هذا الصنيع ليس لنا من سؤال نراه جديراً بالإثارة هنا سوى أن نقول للأنظمة العربية ـ وبالذات التي تجاورنا ـ: إذا كان نظام (الجبهة الشعبية) بالأمس القريب هددَّ أمن السودان، واليمن، وجيبوتي بشكل علني واستفزازي، واليوم منح الأمريكان فرصة ضرب العراق من إرتريا فمن سيكون الهدف اللاحق غداً؟ وهل نظام كهذا يتوانى من التحالف في ضرب أي دولة عربية ما دام يجد في ذلك تثبيتاً لوجوده؟ وهل فكر زعماء العرب في هذا، أم أن الأمر لا يعنيهم؟ وهل تساءل العرب عن حجم ما يمثله هذا النظام من تهديد الأمن القومي العربي، أم بلغ الهوان بالعرب إلى حد يعبث فيه (إسياس أفورقي) بأمنهم؟.
على كلٍّ إن هذا النهج يمكن أن يفسر لنا عزوف (إسياس) عن الانتماء العربي والعيش بسلام مع جيرانه العرب، وبغض النظر عن الدوافع الكامنة وراء عزل إرتريا عن محيطها العربي، وبغض النظر ـ أيضاً ـ عن تآمر الزعامات العربية على بعضها البعض فهل من الوفاء للشعب العراقي الشقيق الذي ساهم في بناء الثورة الإرترية، واستقبل شبابها طلاباً في مختلف الكليات العسكرية والمدنية، ودعمها بالمال والسلاح أن تنطلق إليه سهام الموت من إرتريا الحرة، ويكون جزاؤه جزاء سنمار أم أنها الانتهازية التي لا تعرف معروفاً، ولا تقدر إحساناً؟!.
ذلك أمر في منتهى الغدر والخيانة لا يمثل الشعب الإرتري أبداً وإنما هو جزء من سياسات شوفينية التجرنية ووليد صراعاتها الحادة التي بدأت تعصف بالنظام بَعْد التصدع الذي ألَّم به عقب نهاية حربه مع حليفه في (أديس أبابا ملس زناوي).
والنظام بعرضه السخي هذا يريد أن يقدم إلى الأمريكان رشوة يقطـع بهـا الطـريق علـى المجـموعات المنشـقة عـنه، ويسعى إلـى تفـويت الفـرصة عليـها حتـى لا تتحالف معهم ضده، علاوة على إثبات أهميته في القرن الأفريقي مقابل الأهمية الإثيوبية' في تحالفات أمريكا ضد ما أسمته (بالإرهاب).
ولعل هذا ما دفع البرفسور المنشق (برخت هبتي سلاسي) إلى عدم استنكار ضرب العراق من الموانئ الإرترية، وإنما اكتفى بمطالبة الأمريكان بعدم قبول إقامة علاقات عسكرية مع نظام (إسياس) من غير الضغط عليه لإجراء إصلاحات ديمقراطية؛ الأمر الذي يفهم منه عدم ممانعته من هذا الاستخدام، لكن مع الضغط على (أفورقي)؛ مما يشير إلى أن كِلا الطرفين يسابق الآخر في كسب ودّ الأمريكان غير مبال بقرار الشعب الإرتري وإرادة فئاته السياسية، وغير مكترث بما سيلحق الشعب العربي في العراق من مزيد دمار وتشرد، مع أن العرف الدولي يحرِّم ويجرِّم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وأن تغيير (نظام صدام حسين) شأن عراقي بالدرجة الأولى والأساسية.
إن الولايات المتحدة الأمريكية لا يهمها من هذا السباق والتنافس بين الجناحين المتصارعين من مجموعة التجرنية الحاكمة في إرتريا وإثيوبيا إلا ضمان مصالحها، وتنفيذ خططها الأمنية والعسكرية في المنطقة بالذات في هذه الفترة من حربها على ما أسمته بالإرهاب، وليس لديها أدنى مانع من إهمال الديمقراطية والتضحية بها في إرتريا ما دام يتناسق ويتناسب ذلك مع ما تخطط وتعمل؛ ومن هنا لا تتحرج أبداً من دعم (أفورقي) والاستغناء عن (كرزاي) آخر في إرتريا متى ما ترجح لديها أن (أفورقي) ذاته أكفء أو أقدر على لعب دور كرزاي. وتاريخها حافل بكثير من النماذج في دعم الأنظمة الديكتاتورية والتحالف معها ما دامت لا تمانع في امتثال أجندتها الخاصة؛ ولهذا وقعت بتاريخ 14/7/2004 م كل من إرتريا ممثلة في سفيرها بواشنطن (دي سي جيرما أسمروم) والإدرة الأمريكية ممثلة في نائب سكرتير قيادة الجيش والأمن العالمي (جون. آر. بولتون) على الفقرة 98 من ميثاق تحالف في محاربة الإرهاب، ويعتبر المراقبون والمحللون السياسيون هذا التوقيع خطوة مهمة في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ونظام (أفورقي).
وفي هذا الوقت الذي انشق فيه نظام (إسياس) إلى شقين متضادين، وتزايدت فيه عزلته الإقليمية والدولية، وتنامت معدلات نقمة الشعب الإرتري عليه من البداهة أن يلجأ مجدداً إلى العزف على وتر (الإرهاب الإسلامي) وإلى كسب الأمريكان بأي ثمن ولو بوضع السيادة الوطنية تحت إرادتهم، وتصرف قواتهم العسكرية؛ (البحرية منها والجوية) أملاً في حماية نظامه من غضبة الشعب، في حين أن الأمر ما كان يتطلب أكثر من إعادة النظر في سياساته الخاطئة والمجحفة بعقد مؤتمر مصالحة وطنية، والكف عن سياسة البطش والإقصاء، وتفهم أطروحات كل قوى المعارضة الإرترية، وبناء دولة المؤسسات، والخروج بإرتريا من قبضة رجل واحد في مجموعة لغوية واحدة هي (مجموعة التجرنية)، وفي حزب واحد هو حزب (جشع، الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية) إلى إرادة الشعب بشتى مجموعاته اللغوية، وبمختلف توجهاته الفكرية، وأحزابه السياسية.
هذه هي أهم مطالب الشعب الإرتري؛ وعلى الولايات المتحدة ضرورة تفهم هذه المطالب إذا ما أرادت لشعوب هذه المنطقة الأمن والاستقرار، ومقاومة الإرهاب الدولي مقاومة حقيقية، وعليها أن لا تصغي للتقارير الكاذبة التي تودّ من خلال ركوب موجة الإرهاب تعميق سيطرتها الشيفونية.
وعليها أن تنظر إلى الصراع الإرتري الإرتري في سياقه التاريخي والثقافي، وأن تتلمس حلوله العادلة في تفهم جذوره الأساسية ومنطلقاته الثقافية والعرقية، ومن ثم النظر إلى (الحركة الإسلامية) نظرة موضوعية بعيدة عن التحامل، لا تخرج بها خارج نطاق انتماءات الشعب الإرتري وتعدده الثقافي؛ فليست (الحركة الإسلامية) في نهاية التحليل سوى حركة احتجاج شعب مسلم غصب حقه، وأهينت كرامته، وأوذي في عقيدته وثقافته.
المسلمون في القرن الأفريقي وحرب الإرهاب:
سلفاً لا بد من التأكيد على أن الأكثرية المسلمة في القرن الأفريقي ـ سيراً على ما هو عليه علماء المسلمين وعامتهم في أقطار المعمورة ـ بريئة كل البراءة عقيدة وممارسة من كل عمل إرهابي يستبيح قتل وإزهاق الأنفس المعصومة والمسالمة أيّاً كان معتقدها الديني وانتماؤها العرقي، وليس في ثقافة الإسلام والمسلمين من شيء إراقة الدماء على غير هدى وبصيرة، وإن بعض ما ارتُكب من أعمال طائشة باسم الإسلام في القرن الأفريقي يجب النظر إليه مفصولاً عن عقيدة المسلمين وفقههم في دفع المفاسد الذي يتأسس أصلاً على الموازنات، واعتبار المآلات في تدافعه الحضاري، ولا ينبغي أن يشمل إثمه وضرره كل مسلمي القرن الأفريقي، ويضعهم جميعاً في دائرة العقاب والتعقب، والحصار الفكري، والحرمان السياسي، والحجر الاقتصادي، كما تعومل مع (مؤسسة البركة الاقتصادية) التي جمد الغرب جميع أرصدتها بتهمة مساندة الإرهاب، ولم تفرج عنها دولة سوى السويد، (وهي مؤسسة اقتصادية صومالية تُعنى بشؤون تحويلات الصوماليين إلى ذويهم)، لكن مما يؤسف له أن الأمور كما تبدو ـ على ضوء ما ذكرت ـ تسير على النقيض من ذلك؛ فمجرد إطلالة عابرة على مجريات حرب الإرهاب في القرن الأفريقي ترينا بأن معاناة الكثرة الغالبة من المقهورين في القرن الأفريقي ـ وهم المسلمون بالطبع ـ ستزداد سوءاً على سوء، ومهما قيل في مرامي هذه التحالفات فإنها لن تفسح المجال لأي تحرك إسلامي أيّاً كانت طبيعته؛ ولهذا تتجاهل الإدارة الأمريكية عن مساءلة نظام (أفورقي) عن أولئك العلماء والدعاة الذين اعتقلوا من عام 1991م، ولم يعرف لهم مصير إلى حد الآن، وتعيب عليه انتهاكاته لحقوق الإنسان في منعه لفرقة (جوهوبا) النصرانية من أي نشاط ديني؛ لأن أولئك الدعاة والعلماء موسومون بالإرهاب، في حين هؤلاء النصارى من فرقة (جوهوبا) هم من ضحايا إرهاب الدولة في المعيار الأمريكي، نحن هنا لا نستنكر الدفاع عن حقهم في العبادة؛ فذلك أمر مشروع لهم ديناً وعرفاً، ولكن نعرض فقط التضارب في المعايير لبيان ما تخبئه الأيام للكثرة الغالبة في القرن الأفريقي، وللبرهنة على أن قوى الأقلية النصرانية المتحكمة في القرن الأفريقي ستبقى مسنودة من المجتمع الغربي (والولايات المتحدة على وجه الخصوص) حتى لا تؤول الأمور إلى يد الأكثرية المسلمة؛ فالصومال سيظل كما هو ممزقاً منهاراً بعد أن جزأه المستعمر ـ من قَبْل ـ ملحقاً قسماً منه إلى كينيا، وقسماً إلى إثيوبيا، وقسماً للمستعمر الفرنسي ـ جيبوتي حالياً ـ، ولا تعني عافيته ووحدته الغرب شيئاً بقدر ما تعنيهم وحدة إثيوبيا وتماسكها محكومة من الأقلية الدينية والعرقية؛ لذا سيبقى مسلمو إثيوبيا ـ كما كانوا من قبل ـ معزولين عن مراكز التأثير الحقيقي في صناعة القرار الإثيوبي، ورسم سياستها الخارجية والداخلية، والمساهمة في تشخيص حلفائها الأساسيين؛ بالرغم من أن نسبتهم لا تقل عن 60% إن لم تزيد، وكل من يتحرك منهم مطالباً بحقه سيتعرض للقمع باسم مكافحة الإرهاب، كما هو الحاصل مع معارضي (أوجادين)، وكما هو الحال مع (حركات المعارضة الإرترية) ذات الانتماء الإسلامي (والعروبي على وجه الخصوص)، ولن يكون هذا القمع قاصراً على العمل السياسي فحسب وإنما سيكون قمعاً شاملاً يتجاوزه إلى كل ما هو ثقافي وإغاثي؛ لأن فتح مجال التواصل الثقافي والإغاثي بين المسلمين في القرن الأفريقي وممن حولهم من الدول الإسلامية من شأنه أن يصل المسلمين بعضهم ببعض، ويوقظ فيهم ضمير التلاحم الإيماني ومنابت الوعي الفكري، ولا بد لهذا الهوان السياسي والثقافي أن يرتد بالسوء على الدول الإسلامية المجاورة؛ فلو كانت إرتريا اليوم في يد أصحاب الانتماء العربي، والانتماء الإسلامي من فصائل الثورة الإرترية لما تعرض السودان للغزو بين الحين الآخر كما يتعرض له الآن من (إسياس أفورقي) في شرقه، وغربه، وجنوبه، ولما اتخذت إسرائيل منها مرتعاً للعبث بالأمن العربي، ولما غزيت (حنيش) كما غزاها (أفورقي)، وأي خلاف حدودي مع اليمن الشقيق لحل بالطريقة السلمية والودية في إطار مراعاة ثوابت العلاقات العربية والإسلامية.
لا أرى للقرن الأفريقي استقراراً عاجلاً وقريباً ما بقيت تتحكم فيه هذه الأقليات بهذه الصورة التي تسيره بها، وتتجاهل فيه الأكثرية المسلمة؛ لأن هذه الأكثرية مهما قهرت من هذه الأقلية المتحالفة مع قوى أجنبية لن تبقى مكتوفة الأيدي، وستظل تقاوِم، كما أن هذه الأقليات من فرط خوفها من الأكثرية، وشعورها بالغربة السياسية مع حرصها الشديد على البقاء حاكمة ضاغطة جميع من عداها، وشدة قلقها على مصير سلطانها السياسي ستظل مرتبطة بكل القوى الأجنبية من (صهيونية، وغيرها) وخادمة لاستراتيجيتها؛ وفي هذا أكبر تهديد للمنطقة ذاتها وحرمانها من الاستقرار، وللدول الإسلامية المجاورة أيضاً، من هنا إذا كان لي من اقتراح اقترحه لمعالجة هذا الشأن في القرن الأفريقي فإنما هو ما يلي:
أولاً: الاهتمام بالصومال وإعادته إلى الحياة من جديد حتى يقوم بدوره المنشود في حماية الأمن العربي والإسلامي، وهذا يتطلب الدخول بقوة في مشروع المصالحة الوطنية، وإيجاد صيغة سياسية في الحكم تجمع شمل الصوماليين، وتحظى بقبولهم حتى ولو كانت نمطاً فيدرالياً يرتقي بهم في قابل الإيام إلى وحدة أكبر من ذلك.
ثانياً: الضغط على نظام (الجبهة الشعبية) الحاكم في إرتريا بقيادة (إسياس أفورقي) من أجل إجراء مصالحة وطنية شاملة تحمي البلاد من الانهيار المرتقب ـ إن أصر الرجل على المضي فيما هو سائر عليه ـ وإشعاره بأن أمن إرتريا ونهضتها ليس بالشغب على أمن دول الجوار، ولا بعزلها عن محيطها العربي، ولا بنفي فصائل المعارضة الإرترية بكل انتماءاتها العربية وأصولها الإسلامية، ولكن لا بد أن يكون ذلك من خلال رؤية عربية موحدة مدعومة بقرار سياسي واحد ينبثق من استراتيجية مجمع عليها، وإلا لا جدوى من ذلك.
ثالثاً: إقناع إثيوبيا بأن وحدتها واستقرارها الأمني وازدهارها الاقتصادي يكمن في الارتباط بمحيطها العربي، وتشجيع رأس المال العربي للاستثمار فيها، وإفهامها بأن العدالة الشاملة ومنح الأكثرية المسلمة في إثيوبيا حقها السياسي كاملاً غير منقوص هو الذي يجعل من إثيوبيا دولة رائدة في المنطقة تساهم في أمن القرن الأفريقي واستقراره، وتحافظ على وحدة أراضيها وتماسك شعبها.
والله الموفق،،،
(*) أكاديمي إرتيري ـ المشرف العلمي في كلية لندن المفتوحة للدراسات الإسلامية ـ لندن.
(نقلا عن مجلة قراءات إفريقية العدد الأول * رمضان 1425هـ * أكتوبر 2004م)
الهوامش :
(1) الحيمي الحسن بن أحمد: سيرة الحبشة ص 93.
(1) انظر: بدر الدين حسين الشافعي: القرن الأفريقي.. وجبة أمريكية على الطاولة العراقية. موقع إسلام أون لاين، تاريخ 11/1/3003م.
(2) بموجب قرار محكمة لاهاي الدولية، (حنيش) هي جزيرة يمنية، رفع عليها اليمنيون علمهم في 31 / 10/ 1998 م بعد أن أخرجوا منها بمباغتة عسكرية من إلإرتريين، أما (دهلك) فهي جزيرة إرترية، وفيها يقول ياقوت الحموي: دهلك ... اسم أعجمي معرب... وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة، بلدة ضيقة حرجة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها. معجم البلـدان ج 2 ص 492.
(3) انظر: أ. بول: تاريخ قبائل البجة بشرق السودان ص 32.
(4) انظر: المنتظم ج 2 ص 374.
(1) رجب عبد الحليم: العلاقات السياسية بين مسلمي الزيلع ونصارى الحبشة في العصور الوسطى 56 سواكن ميناء في شرق السودان، وزيلع ميناء في الصومال، ومصوع ميناء في إرتريا، وكلها موانئ إسلامية.
(1) سعد ناجي: الأمن القومي العربي ودول الجوار نقلاً عن مجلة الوسط عدد 252.
(1) المجتمع عدد 1351 تاريخ 25/5/1999م
(1) ص 76
(1) كامل الشريف: تاريخ ما أهمله التاريخ رسالة التقريب العدد 36 نقلاً عن موقع www.tagrib.org
تعليقات حول الموضوع
عبد الرحمن حسين
12 - 06 - 2010, 06:10
walaahi waa ok
جابر اسناى
28 - 02 - 2011, 22:20
انها الحالة التى تفرض نفسها فى كل زمان ومكان تقاطع المصالح تفتك بمصاير الشعوب .
اريتري مقيم بريطانيا
25 - 06 - 2011, 23:16
نحن مسلمي اريتريا واثيوبيا مبسوطين ان اخوانا النصاري يحكومنا ماشأنكم انتم بنا مادخلكم هذا شي يخصنا ونحن راضين عنه...العرب العرب العرب نحن مادخلنا بالعرب اغربو عننا يااخوان نحن لسنا عرب نحن انتمائنا افريقي ونحن افريقين ومسلمين اما عرب فلا
medhat
25 - 10 - 2012, 08:16
اشكر الكاتب على هذا الكم من المعلومات الهامة والضرورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق