الجمعة، 17 يونيو 2011

الوطن أون لاين ::: عبدالرحمن الوابلي ::: الفوبيا الثقافية والبحث عن الجني

آخر تحديث: الجمعة 17 يونيو 2011, 1:1 م


الفوبيا الثقافية والبحث عن الجني

مصيبة المجتمعات المصابة بمرض الفوبيا الثقافية النفسية، أن مؤسساتها وقوانينها تحركها وتتحكم بها معطيات أعراض المرض نفسه، ولذلك فهي تدعمه وتجذره وتعمقه وتؤكد عليه؛ حينها يكون الفكاك منه من الأمور الميئوس منها، عندها يصل لحالة التدمير الذاتي والانتحار الجماعي إن لم يتدخل عقلاء المجتمع

الفوبيا من الأمراض النفسية التي تصيب الإنسان بالخوف غير الطبيعي واللا مبرر، وتتحكم بسلوكه لا إرادياً، حيث تنتاب المريض بالفوبيا، نوبات من الهلع والذعر الشديد، فتستوطن تفكيره اللا شعوري، وتتحكم في تصرفاته اللا إرادية وتطبع سلوكه بالاضطراب وعشوائية التصرفات وتناقض الأفعال وردود الأفعال. ويتفق علماء النفس، على أن الفوبيا هو مرض الخوف الكامن في أعماق النفس، والمزمن فيها، وغير المبرر (غير منطقي)، حيث هو صادر عن أشياء متوهمة وغير حقيقية. وهنالك نوعان من الفوبيا، فوبيا سلوكية وأخرى ثقافية. وقد يكون سبب الفوبيا السلوكية، حدثاً تعرض له المصاب به، إبان طفولته ونشأته الأولى، مثل الخوف من الارتفاعات أو الحيوانات الصغيرة وما شابهها، ومشكلتها عند الأطباء النفسيين محلولة، بواسطة المواجهة وبعض الوصفات السلوكية والدوائية، والمريض بالفوبيا السلوكية يعترف بمرضه، وينشد الخلاص منه، أو يرشده أقرب المقربين له بفعل ذلك.
أما الفوبيا الثقافية مثل "فوبيا الحريم،" الخوف من النساء، و" الفوبيا الطائفية، الخوف من المخالف مذهبياً أو دينيا، (مسلم، مسيحي، يهودي، سني، شيعي)، و"الفوبيا الإثنية"، الخوف من المغاير إثنياً أو لونياً (عربي، أعجمي، أبيض أسود، أصفر)، فهي نتاج ثقافة اجتماعية يرضعها المصاب بها، مع ثدي أمه وتعززها مقولات يرددها محيطه الاجتماعي وتؤكد عليها مواد يحفظها في مدرسته، وتدرج في مكان عبادته، إذاً فالفوبيا الثقافية، هي مرض نفسي تصاب به المجتمعات وتغدو صفة لها، أي أن الفوبيا السلوكية تصيب أفرادا، أما الفوبيا الثقافية، فهي تصيب مجموعات في المجتمع، أو مجتمعات بكاملها.
الفوبيا السلوكية تصيب فردا بذاته ويبدأ يعاني منها، هو نفسه، لا موضوع الخوف ذاته، مثل الأماكن الشاهقة وغيرها، ولذلك فهو يسارع بالبحث عن الخلاص من مرضه، وإنقاذ نفسه، من هلع الخوف اللا مبرر الذي ينتابه، والذي يجعل الناس تنظر له بعين الريبة، إن لم نقل السخرية. ومرض الفوبيا السلوكية معروفة أعراضه ومكتشفة أسبابه، ومتعارف على علاجه، في أصغر أو أكبر عيادة نفسية. إذاً فبالرغم من أن الفوبيا السلوكية محسوم أمرها تشخيصياً وعلاجياً، إلا أن أذى المصاب بها، لا يتعداه لغيره، وهذا المطمئن في مثل هذا المرض النفسي السلوكي، أما حالة مرض الفوبيا الثقافية، فأمرها معقد وخطير جداً، ليس فقط من حيث عدم القدرة على تشخيصها أو علاجها، ولا حتى عدم القدرة على اكتشافها، ولكن أيضاً من حيث إن أذاها يتعدى المصاب بها لغيره، وقد ينعكس أذاها على المصاب بها، من غير أن يعي أو يدرك أو يتوقع ذلك، من باب ردة فعل من تقع عليه أذيته، ولو بعد حين، وهنا تكمن الخطورة فيه.
والمريض بالفوبيا الثقافية، بشكل ملخص، هو نفسه المريض بالخوف من الجن، "فوبيا الجن"، فالمرعوب من الجني، يشاهده حيث حل وحيث ارتحل وحيث صوب عينيه. فقد قال تعالى في وصف حالة المصاب بـ"فوبيا الجن": "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا"، أي أن حالة الخوف غير المبررة "الفوبيا" تزيد صاحبها خوفاً ورعباً لدرجة الإرهاق، وإخراجه عن توازنه الطبيعي، وكذلك من خاف من فساد المرأة ومكرها، "الحريم فوبيا"، فإنه سيرى ذلك في كل حركاتها وكل سكناتها، وحتى لو كانت أمه، التي يردد أن الجنة تحت أقدامها. وليس بالمستغرب أن تقرأ في التاريخ، أن من أسباب سقوط الدول هو تدخل النساء في إدارة شؤونها.
كما أن الطائفي المصاب بـ"الطائفية فوبيا" سيرى مؤامرات ومكائد المخالف له مذهبياً، تخرج له من كل حدب وصوب. فإذا قرأ التاريخ فسيرى محركه الوحيد والجوهري هو مؤامرات أصحاب المذهب المخالف ضده؛ وعندما يتنبأ بالمستقبل، فسيرى كذلك أنه لن يعدو عن أن يكون امتدادا للمحرك الجوهري للتاريخ، وهو مؤامرات أتباع المذهب الآخر. وليس بالمستغرب، أن يكون المخالف المذهبي له، هو من يحيك المؤامرات والمتغيرات غير السارة التي تحدث له في وقته الحاضر. إذاً فالجني لا يراه فقط بأنه يطارده في الحاضر وإنما كذلك طارده في الماضي، وحتماً سيطارده في المستقبل، وهكذا تدخله مطاردة الجني النفسية الماراثونية له في حالة إرهاق مزعج لا يمكنه الفكاك منها، تخرجه من رشده ومن وقاره ومن علمه ومنطقه، مهما حاول جاهداً الفكاك أو الخلاص منها، أو الادعاء بذلك.
إذاً فالفوبيا السلوكية تصيب أفرادا في المجتمع، يحنو عليهم المجتمع فيعالجهم ويعيدهم لوضعهم النفسي الطبيعي، ليعيشوا أصحاء في كنفه، أما الفوبيا الثقافية، فتصيب المجتمع كله، أو جله، وهنا تكمن إشكالية، من يحنو على المجتمع كله، فيعيده لوضعه النفسي الطبيعي مثل باقي المجتمعات الصحية؟ وهنا تتمحور معضلة المرض نفسه، فمعظم الحروب، وخاصة الأهلية منها، حدثت في مجتمعات تعاني من مرض الفوبيا الثقافية، وهلكت وأهلكت غيرها، من غير مبرر يستحق ذلك. ومصيبة المجتمعات المصابة بمرض الفوبيا الثقافية النفسية، أن مؤسساتها وقوانينها تحركها وتتحكم بها معطيات أعراض المرض نفسه، ولذلك فهي تدعمه وتجذره وتعمقه وتؤكد عليه؛ حينها يكون الفكاك منه من الأمور الميئوس منها، عندها يصل لحالة التدمير الذاتي والانتحار الجماعي إن لم يتدخل عقلاء المجتمع أو عقلاء المجتمعات العاقلة من حوله لإنقاذه من مرضه النفسي الخطير هذا.
الحروب تحركها المصالح، ولكن تؤججها وتطيلها وتجعلها أكثر شراسة وهمجية، الفوبيا الثقافية، عندما تحركها عقائدياً ودعائياً وثقافياً. من الصعب على صاحب المصالح، أن يجند جيشاً يدخل حرباً ويموت من أجل مصالحه؛ ولكن من السهل عليه أن يغلف حربه "المصلحية" هذه بدوافع مرضية نفسية، مثل "الفوبيا الثقافية" فيجد أمامه جيوشاً من مرضى الفوبيا الثقافية، متطوعين يتزاحمون على جبهاته القتالية، وما عليه إلا أن يسوقها فقط لحتفها حيث يشاء ومتى يشاء وإلى أين يشاء، ولأطول مدة شاء.
لقد عانت جميع المجتمعات في العالم من نتائج أمراض "الفوبيا الثقافية"، التي أدخلتها في حروب وصراعات طائلة ومدمرة لا طائل منها، سوى التدمير الذاتي للنفس وللغير، وليس بآخرها "الحرب العالمية الثانية"، ولذلك تنبه عقلاء العالم والمجتمعات المتحضرة، لخطورة هذا المرض الذي يصيب المجتمعات ويدخلها في تناحر وصراعات مدمرة، لا يمكن التنبؤ بمآلاتها؛ ولذلك توصلوا لحل أولي يقضي على مسببات أمراض "الفوبيا الثقافية" بجميع أنواعها، وذلك بتجريم كل من يتعاطاها أو يروج لها، لحماية المجتمعات منها، وذلك بسن القوانين الرادعة لتطبق على كل من تسول له نفسه فعل ذلك. فكما قضت أنوار الكهرباء، التي بددت الظلام، بتلاشي، "فوبيا الجن" فكذلك أثبتت أنوار العقل وحكمة القوانين الإنسانية المتحضرة ومنطقها، أنها السبيل الوحيد، للتخفيف من أمراض "الفوبيا الثقافية" ثم القضاء عليها. وتحرير شعوب الأرض منها ومن ويلاتها وكوارثها، لتودع البشرية آخر أمراض العصور المظلمة النفسية، وتنقي مجتمعات الحاضر منها.

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |