السبت، 11 يونيو 2011

Dar Al Hayat - المسلم والآخر في التعارف الحضاري



المسلم والآخر في التعارف الحضاري
السبت, 11 يونيو 2011
محمد م. الارناؤوط
على رغم النظرة المركزية للمسلمين باعتبارهم «خير أمة أخرجت للناس» إلا أن هذا لم يمنع الرحالة الرواد الذي جابوا الآفاق البعيدة ، مثل السيرافي وابن فضلان وغيرهم، من الاهتمام بثقافة أو حضارة الآخر المختلف مع الاشارة الى بعض الامور فيها التي تتناقض بشكل صريح مع عقائد المسلمين وعاداتهم. ولكن على العكس من هؤلاء الرواد الذين خاضوا المصاعب في الترحال براً وبحراً للوصول الى أطراف العالم خلال القرنين 3 و4 للهجرة ، لدينا بعد ذلك موقف سلبي يرفض حتى السفر الى بلاد الآخر أو يقدم صورة منفرة عن الآخر المجاور. ومن هؤلاء مثلاً نجد أن المقدسي (توفي 395 هـ ) في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الاقاليم « يقول ببساطة: «لم نتكلف (الحديث) عن ممالك الكفار لاننا لم ندخلها، ولم نر فائدة من ذكرها». أما صاعد الاندلسي الذي درس في طليطلة وعمل فيها قاضيا حتى وفاته (462 هـ) فيقول في كتابه المعروف «طبقات الامم» عن شعوب الفرنجة المجاورين له أنها «شبيهة باالبهائم منهم بالناس ... فشى فيهم العمى والغباوة كالصقالبة والبلغر ومن اتصل بهم «. ويبدو انه الى هذه المدرسة ينتمي مواطنه أبو حامد الغرناطي الذي قام برحلة فريدة الى المجر في وقت مبكر ( القرن 6 هـ/ 12 م) مما يكسبها قيمة كبيرة بالنسبة الى المجريين الذين كانوا أسّسوا دولتهم لتوهم في ذلك الجزء من أوروبا، ولذلك يعتبرون رحلته من المصادر القيّمة عن تلك الفترة المبكرة من تاريخهم، أو بالنسبة الى المسلمين في المشرق الذين ألّف لهم الغرناطي كتابين تحدث فيهما عن رحلته الى المجر: «المعرب عن عجائب المغرب» و «تحفة الألباب ونخبة الاعجاب» .
وكان الغرناطي ذهب الى بلاد المجر بعد مرور حوالى قرنين من الزمن على انتقال المجريين وغيرهم إلى الموطن الجديد في وسط أوروبا، ليقوم برحلة مشوّقة ويحظى هناك باقامة طويلة (545-548هـ/1150-1153م) ساعدته على تقديم معطيات جديدة ومختلفة عن المسلمين في المجر في كتابيه المذكورين. وبالمقارنة مع ابن فضلان، الذي نكاد لا نعرف عنه شيئاً، نجد أن المصادر توفر لنا الكثير عن أبي حامد الغرناطي.
وفي حدود ما نعرف فقد كان الغرناطي أول عالم مسلم يتمكن من الوصول إلى بلاد المجر في الموطن الجديد لها والتجول فيها والاختلاط بالمسلمين هناك والتأليف عنها، إلا أن ما يسوقه عنها على رغم قيمته يتضمن بعض الاشكاليات. ففي كتابه «المعرب عن عجائب المغرب» يتحدث عن المسلمين في المجر في السنوات التي أقام فيها، وبالتحديد في عهد الملك غيزا الأول (Geza I (1141-1161. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغرناطي يمتدح هذا الملك، ويذكر عنه أنه «يحب المسلمين». ومع ذلك فقد تحدث الغرناطي عن قسمين مختلفين من المسلمين: «وفيها من أولاد المغاربة آلاف، لا عدد لهم، وفيها من أولاد الخوارزميين آلاف، لا عدد لهم أيضاً. وأولاد الخوارزميين يخدمون الملوك، ويتظاهرون بالنصرانية، يكتمون الإسلام. وأولاد المغاربة لايخدمون النصارى إلا في الحروب، وهم يعلنون الإسلام». وكان الغرناطي على صلة أوثق بـ «أولاد المغاربة» الذين احتفوا به وكرّموه، ولذلك فقد اهتم بتعليمهم العبادات وأسس الفقه واللغة العربية. ونظراً الى أن الغرناطي كان يهتم بجماعته فقد أورد لنا معطيات في غاية الأهمية عن المسلمين خلال الصراع المجري- البيزنطي. فقد أقام الغرناطي في المجر خلال ذروة الصراع والحروب بين الطرفين اذ أسر كل طرف مسلمين من الطرف الآخر. وهكذا يذكر الغرناطي أن الامبراطور البيزنطي مانويلو الأول أسر الكثير من المسلمين خلال المعارك مع المجر، وفي المقابل فقد أسر الجيش المجري الكثير من المسلمين الذين كانوا يقاتلون مع الجيش البيزنطي. واهتم الغرناطي بهذا الأمر وتحدث مع جماعة منهم وتبين أنهم من «عسكر قونيه» (سلاجقة الروم) وأنهم يشاركون في القتال مع الجيش البيزنطي لأسباب مادية (200 دينار للفرد) وأنهم فوجئوا بوجود مسلمين في المجر، ولذلك فقد عمل الغرناطي على إعادتهم إلى قونيه. وفي الحقيقة أن معطيات الغرناطي عن هؤلاء المسلمين لا تتناقض مع المصادر البيزنطية كما بيّنت ذلك الباحثة الصربية يوفانكا كالتيش. وإذا تجاوزنا السياق الاسطوري الذي يشير إلى وصول مبكر لبعض العرب إلى المجر واستقرارهم هناك ، فإنّ ما ورد عن المسلمين الذين اختلط بهم الغرناطي خلال إقامته في المجر هو الأهم، وبخاصة في ما يتعلق بأصولهم. وفي هذا الإطار فقد أثار تقسيم الغرناطي للمسلمين إلى «أولاد المغاربة» و «أولاد الخوارزمية» الكثير من الأسئلة حول أصولهم، وبخاصة في ما يتعلق بـ «أولاد المغاربة». وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغرناطي كان جاب العالم الإسلامي من المغرب إلى خوارزم وعرف جيداً شعوبه، ولذلك يثير وصفه لبعض المسلمين هناك بالمغاربة الكثير من الأسئلة حول أصل هؤلاء المسلمين.
ويبدو لنا بالاستناد إلى معرفة الغرناطي بشعوب تلك المنطقة التي اختلط بها خلال رحلاته أن المغاربة كان يقصد بهم الأتراك البيتشنغ (البجناق) بسبب موقعهم الذي كانوا فيه، إلى الغرب من خوارزم والخوارزمية. فوجود البيتشنغ في المجر لا يُختلف عليه، وإنما الخلاف حول الاسم الذي عرفوا به. وتجدر الاشارة هنا إلى أن المصادر البيزنطية المعاصرة للغرناطي كانت تميز بين الأتراك المشارقة والأتراك المغاربة بحسب الموقع أيضاً، حيث كان يطلق على الخزر «تركيا الشرقية» وعلى المجر «تركيا الغربية» .
ومع هذه المعطيات المهمة عن المسلمين في المجر إلا أن ما يؤخذ على الغرناطي عدم اهتمامه بالتعرف الى الآخر (المجر المسيحيين) وتعريف المسلمين في المشرق بهم بعد أن أقام هناك حوالى ثلاث سنوات. وما يثير الاستغراب أكثر أن الغرناطي أقام تلك السنوات في المجر خلال عهد الملك غيزا الاول (1141-1161 م) الذي يمتدحه ويقول عنه انه «يحب المسلمين» ، مع أن في كتابه ما يشير الى التمييز في عهده بين مسلمين (الخوارزمية) ومسلمين (المغاربة). ولكنه في المقابل لا يعبّر عن أي اهتمام بالمجر المسيحيين وحضارتهم التي كانت تتسع لـ «حب المسلمين» ، وكأنه كان يعتبر ذلك خروجاً عن دينه. ولا شك في أن هذا الموقف للغرناطي حرّمنا من فرصة نادرة للتعرف الى المجر في تلك الفترة المبكرة من تاريخها التي اتسمت بتعايش ديني محمول من الموطن الاصلي ومحاصر بنماذج أخرى في الموطن الجديد الذي تحول الى ممر للحروب الصليبية .
وتجدر الاشارة هنا الى أنه بعد حوالى خمسين سنة التقى ياقوت الحموي (توفي626هـ/1229م) خلال زيارته حلب بـ «طائفة كثيرة يقال لهم الباشغردية» جاؤوا لدراسة الفقه الحنفي هناك. وعندما استفسر منهم عن أوضاعهم أجابه أحدهم أنهم في «مملكة أمة من الافرنج يقال له الهنكر يجتمعون في حوالى ثلاثين قرية تكاد كل واحدة منها تكون بليدة» ، ويخدمون كغيرهم في الجيش ويتزيّون كالآخرين. وعلى هذا المنوال نجد أن سعيد المغربي (توفي685هـ/1286م) يميز بين الباشغرد (المسلمين) وبين أخوتهم الهنكر- الهنقر (النصارى)، أي أن الفارق بينهم أًصبح يكمن في الدين.
وعلى رغم أن النص الذي يقدمه ياقوت الحموي يشير بوضوح إلى تمتع الباشغرد بحريتهم الدينية، إذ يسمح لهم بالذهاب إلى بلاد الشام لتحصيل العلم ويعاملون باحترام كبير لدى عودتهم إلا أن المصادر المجرية تشير إلى العكس من ذلك، أي إلى اضمحلال سريع للمسلمين هناك في ذلك الوقت. وفي الواقع لدينا ما يشير إلى أن الضغوط على هؤلاء المسلمين بدأت منذ نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، وبخاصة خلال عهد الملك كولمان الثالث (1095-1114م) الذي أصدر قرارات عدة تنص على معاقبته المسلمين الذين يضبطون وهم يمارسون شعائر دينهم القديم (الاسلام) والتزام المسلمين ببناء كنيسة في كل قرية من قراهم ورحيل نصف السكان المسلمين من كل قرية للسكن في قرى مسيحية وتزويج بناتهم إلى مسيحيين وغير ذلك ، وهو مايبدو أنه شمل بعض المسلمين (الخوارزمية) خلال الفترة التي عاشها الغرناطي. ويبدو أن هذا التغير في الموقف ازاء المسلمين جاء نتيجة للتعصب الذي شمل أوروبا كلها خلال الحروب الصليبية، اذ أن الجيوش الصليبية كانت تمر عبر المجر خلال طريقها إلى المشرق وتنشر في البلاد مثل هذه المشاعر. وبدا هذا بوضوح في عهد الملك اندرو الثاني (1205-1235)، الذي أصدر مراسيم عدة تقنّن الضغوط على المسلمين لدفعهم إلى التخلي عن دينهم وتذويبهم في الإطار المجري المسيحي. وعلى رغم ذلك يبدو أن بعض المسلمين حافظوا على دينهم حتى مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، حين قام الملك المجري شاري روبرت الانجوي (1308-1342م) بتخييرهم بين اعتناق المسيحية أو ترك البلاد، بينما بقي هناك ما يذكّر بهم حتى القرن الخامس عشر الميلادي، أي حين كانت المجر تواجه التقدم العثماني الذي سيؤدي إلى فتح المجر وإلى مدّ وجذر آخر للإسلام والمسلمين هناك.
* مقاطع من ورقة مقدمة الى نـدوة «التـعارف الحضاري» التي نظمت في مكتبة الاسكندرية 18-19 أيار (مايو) 2011

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |