الخميس، 8 مارس 2012

ولد أحمد يوره : تدخل الحكام في الفتوى مكًن للمذهب المالكي في المغرب (1)

ولد أحمد يوره : تدخل الحكام في الفتوى مكًن للمذهب المالكي في المغرب (1)



altaltببشاشة أبوية كريمة، وحفاوة يستقبل بها أي زائر لقينا فضيلة الشيخ محمد محمود ولد الرباني في منزله في نواكشوط، وحيث يجاور المنزل مسجده العامر، فإن محظرته هي الأخرى تضيف بهاء وجلالا إلى محيط المنزل، يتحدث الشيخ محمد محمود في أولى حلقاته مقابلته الشيقة مع السراج عن ومضات مضيئة من حياته العلمية، ويتخلل ذلك تحليل عميق لمسار الفقه والدعوة في المحظرة الموريتانية.

المقابلة

السراج : حبذا لو استعدنا مع الشيخ طفولته الأولى في حديث عن ديار النشأة ومرابعها الأولى.
 الرباني : بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وآله وصحبه، في السؤال بعض العموم يجعلني أحدث ناقلا عما حدثت عنه، فأغلب ما أحدث عن بعض من تلك الطفولة أرويه عن الوالدة رحمها الله تعالى وقد كانت ضابطة قوية الذاكرة، وأذكر أنني حدثت أنني ولدت في رحلة من رحلات الانتجاع، حيث كان حينا متجها جنوبا إلى المناطق المصاقبة لشمامة، قادمين من أرضنا في شمال وشرقي بوتلميت، وأنني ولدت في إحدى هذه الرحلات، ولم يوجد من يرضعني ثلاثة أيام، وبعد ذلك منع والدي علي المراضع إلا الوالدة رحمهما الله، ولم يأذن إلا لامرأة واحدة قيل إنها جاءت من أجل إرضاعي فحسب.

السراج : ومتى كان تاريخ ميلاد الشيخ محمد محمود؟

الرباني : الوالد رحمه الله توفي بعد أقل من سنة من ميلادي، وهو ما يعني أنني ولدت سنة 1943، ونشأت يتيما وقد بذلت الوالدة رحمها الله تعالى، جهدا كثيرا في رعايتي وتربيتي وكانت شيخي الأول في دراسة القرآن الكريم، وعليها أخذته أولا، وكانت رحمها الله تعالى من حافظات القرآن المشهورات ويعرف أنها حفظت مئات الأشخاص القرآن الكريم، كما كانت والدتها هي الأخرى من المشهورات بخدمة القرآن ونشره وتحفيظه للناس.

السراج  : كيف تصفون ظروف الحياة حينها؟

الرباني : كانت ظروف الحياة صعبة جدا، وهذه طبيعة المجتمع البدوي الذي لا يملك من مقومات الحياة الاقتصادية حينئذ غير التنمية الحيوانية والتي تتطلب النزوح والترحل الدائم تتبعا للقطر، وأنا كنت حينها مثل كل الأطفال أحمل لوحي صباحا وأرعى الغنم، وأظل حتى المساء أعود وقد حفظت لوحي، وربما أحمل معي سقاء و"صكمارة" مرة أحملها على منكبي وقد أضعها على أحد كباش القطيع، وهكذا أواصل العمل بشكل يومي والدراسة أيضا.

وقد بحثت في هذا الجو من أجواء البادية فنزلت على حي من أحياء البادية كانت حالتهم رثة وكانت الضيافة تابعة لذلك، قفلت مصورا المشهد:
لحا الإله إله العرش ذو القدر*** أهل البوادي من أحيوا ميت الكدر
فلا غطاء ولا وطاء عندهم *** ولا وقاية من حر ولا خصر.
وقد ذكرني هذا بكاف للوالد الشيخ محمد أحمد رحمه الله:
مدهر فاركيز** لهان فالحياة
حد ابلاه العزيز *** فلمكيل ؤلمبات
بغيارن لمعيز*** ؤزي الطافلات

وفي بعض الفترات التي يتوفر فيها "الصمغ العربي"، كنت أخرج لجني "العلك"، ضمن مهمتي اليومية التي تتضمن رعي قطيع الغنم ودراسة لوحي أيضا وقد كانت عمليات جني العلك توفر مصدر دخل لا بأس به للسكان، وكانوا يبادلون ما يجنون من العلك ببعض المواد الغذائية، ويعرف تلك العملية بالبديلة، فيما يعرف تجار العلك بالبضلان.

السراج : ومتى غادرتم محظرة الوالدة سعيا إلى استكمال دراستكم المحظرية؟

الرباني : لما أكملت حفظ القرآن الكريم انتقلت بي الوالدة رحمها الله إلى محظرة عمي الشيخ عبد الودود بن الشيخ محمد أحمد ولد الرباني، وقد كان عالما مبرزا ذا قدم راسخة في كل العلوم، وكانت محظرته حينها عامرة جدا بالطلاب وعليه درست المعلقات وديوان الشعراء الستة الجاهليين، وقد درسته كاملا دون أن أتجاوز منه بيتا واحدا، وكنت أكتب كل ذلك في لوحي، كما أكتب القرآن الكريم، كما درست عليه أجزاء كثيرة من مختصر الشيخ خليل ونظم الغزوات ومتونا في الفقه واللغة والنحو.

كما درست أيضا على المشايخ القاضي محمدن ولد أحمدو فال والدنبجة بن معاوية ومحمد ولد المصطفى البارتيلي.

السراج : بم تفسرون ولوع الناس في منطقتكم بحفظ الشعر العربي والاهتمام به؟

الرباني : دون شك كان هذا الولوع ملاحظا وظاهرة بارزة جدا، وأثيرة في المنطقة، وكانوا يقولون إن الشعر الجاهلي ولسان العرب بشكل عام هو الطريق إلى معرفة كتاب الله تعالى وفهمه.

السراج : ورغم ذلك فإن هذا الاهتمام الكبير بالشعر العربي ولسان العرب لم يظهر بشكل في تآليف في التفسير لعلماء موريتانيا، وكان فن التفسير ضعيف الحضور؟

الرباني: هذا أيضا صحيح، وكانت هنالك محاولات قليلة للتفسير، وهنالك كتب ألفت في تفسير القرآن الكريم، كالذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز  للشيخ محمد اليدالي، وكتاب الريان في تفسير القرآن للشيخ أحمد ولد محمد سالم، وكذلك ألف الشيخ أحمدو ولد أحمذيه كتابه الشهير مراقي الأواه إلى تدبر كتاب الله، وهو كتاب ضخم جليل في بابه، على أن الغالب أن فن التفسير لم يكن مطروقا كثيرا في هذه البلاد، ويروى أن الشيخ باب ولد الشيخ سيديا كانت له خبرة فائقة بالتفسير وكان مشتهرا بتفسير القرآن، على أنه لم يترك على ما أعلم كتابا في التفسير.

السراج : في المنطقة التي نشأت فيها ظهرت معالم " سلفية علمية"، كيف تقرأون ملامح تلك السلفية ومظاهرها ومن أبرز رموزها؟

الرباني : بعيدا عن هذه الألقاب أرى أن الأمر يتعلق بظاهرة علمية ظهرت منذ حقب طويلة في البلاد، وقد كان من رموزها في البداية لمجيدري ولد حب الله رحمه الله وتلامذته، لكن وجدت صدى أكبر مع الشيخ باب رحمه الله تعالى، وقد ناصر رحمه الله تعالى فقه الأثر والاعتماد على الأدلة في الفقه، دون أن يعني ذلك نسف الفقه المالكي أو رفضه، وألف في ذلك كتابه الجليل " إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين" وقد اعتبر فيه أن " القول الضعيف في المذهب المالكي يقوى إذا قال به مذهب أو مذهبان من المذاهب الإسلامية المعتمدة"
وأنا أظن أن الشيخ محمد بن عبد الرحمن المعروف بالنابغة الغلاوي قد حز المفصل في هذا الأمر في كتابه " بوطليحية " حيث يقول
وما به الفتوى تجوز المتفق   عليه فالراجح سوقه نفق
وحيث حصل الإجماع فإن دليل الفتوى سيكون قويا ومعتمدا وفق هذا البيت، فالراجح ما قوي دليله، وأما المشهور فقيل مرادف للراجح، وقيل ما كثر قائله، وقيل هو قول ابن القاسم في المدونة.
ولقد تواصل هذا السعي العلمي الناصر لاعتماد الدليل بعد ذلك مع كثير من العلماء ومنهم الشيخ الوالد بداه رحمه الله تعالى في كتابه الجليل "أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك".
وأهل تاريخ المذهب المالكي يذكرون أن الأغالبة وغيرهم ممن كانوا يحكمون ألزموا  العلماء باعتماد مذهب فقه الإمام عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله في الفتوى، وقد كان أهل الأندلس على مذهب الإمام الأوزاعي، ولعل في تدخل الحكام في الفتوى وإلزام الناس بها، ما يفسر انتشار رواية ابن القاسم عن الإمام رحمه الله تعالى.
وأهل مصر كانوا يقولون إن ابن القاسم هو الأكثر رواية عن مالكا رحمه الله لكن زميله تلميذ مالك عبد الرحمن بن وهب كان الأكثر علما بالأثر والحديث.
وقد سمعت هذا الكلام عدة مرات من الشيخ بداه رحمه الله تعالى
السراج : بمقارنة محددة، ما الفرق بين السلفية المعاصرة والسلفية القديمة؟

الرباني : بينها فروق جوهرية ولعلها في مجال التطبيق الفقهي أظهر، ففي بعض واجهات السلفية المعاصرة، جنوح إلى التكفير والخروج على الحاكم، وكانت السلفية القديمة، لا تجيز الخروج على الحاكم إلا بضوابط محددة وصارمة.

السراج : تحملون واحدا من أعلى الأسانيد في القرآن عمن أخذتم؟

الرباني : من نعم الله تعالى علي أنني أخذت القرآن الكريم عن الشيخ عبد الودود بن حميه وقد اجتمعت له معارف كثيرة فكان موسوعة متكاملة، على أنه عرف بالقرآن الكريم والمهارة في علومه وألف في ذلك فنونا كثيرة تناولت الرسم والتجويد والتفسير  وغير ذلك.
والشيخ عبد الودود كان قد أخذ الإجازة عن الشيخ أبو بكر بن فتى الشقروي وابن فتى أخذها عن الشيخ بن حامني الغلاوي.
وقد كان عبد الودود رحمه الله تعالى من الذين درسوا على باب ولد الشيخ سيديا، وكان أيضا مدرس أبناء باب رحم الله الجميع، وكانت له اليد الطولى في معارف الشريعة كلها، وله القدم الراسخة في علوم اللغة العربية.


السراج : لنعد إلى بوتلميت، أدركتم فترة من حقبة الاستعمار، كيف تقرءون ذلك الجدل العلمي الذي ثار حول الاستعمار ودخوله إلى البلاد؟

الرباني : بالفعل ثار ذلك الجدل وانتشر وألف العلماء في ذلك كتبا ورسائل، وبعضهم نظر إلى أن الجهاد واجب ضد المستعمر الغازي ورأى آخرون أن البلاد بلاد سائبة لا يحكمها حاكم يدين له الناس وهي أرض بدو قفار ليست بها حصون ولا قلاع تحمي أهلها، ورأوا في مسالمة المستعمر أخف الضررين، ولعل الله تعالى يتقبل من الفريقين.

وبالجملة فقد كان الناس يتهربون من المستعمر ولا يرغبون في معاملته، ولما عين الفرنسيون جدي الشيخ محمد أحمد بن الرباني رحمه الله قاضيا في لبراكنة استنجد بالشيخ باب ولد الشيخ سيديا لكي يخلصه من هذا المأزق وقال في أبيات له مشهورة
موافيك للإرشاد أصلحت أمره... ومن يعش عن إرشاد مثلك أمره؟
شكوتك مكرا من عدو مخادع... قد اعمل بي عند الفرانس مكره
فيظهر لي نصحا ولست بآمن... إذا استحكمت فينا القضية غدره
جعلتك من دون المكاره جنة... فكن منقذي مما أخاف وأكره
لتكسب من تخليصنا أجر محسن... فلا ضيع الله المهيمن أجره
أيا مبتغ مرأى إمام منوطة... أمور جميع المسلمين به رَهُ
فحيا محياه الإله وحاطه... سلام يوازي في الكمالات قدره.
فكلم الشيخ باب الفرنسيين، وألغى استقضاءه، إلا أنه عاد وأرسل له أبياتا أخرى، يسأله عن حكم استخدام "كناش القضاء" الذي تركه له الفرنسيون، أيستخدمه أم يرده إليهم، وكان الناس حينها في أمس الحاجة للورق، ومن تلك الأبيات

 حبيك كاغد لدي للفرا... نسة عام "شبلس" على الورى
راموا به استقضاءنا وما اتفق... ذاك لهم بفضل فالق الفلق
عناية منكم بنا لا زلتم... ملاذ كل ملتج إليكم
فهل به أفعل ما لي بدا... ولن ينلني منه ضر أبدا
أولا.. فأوضحوا لنا الجوابا... بما يكون عندكم صوابا.
فأذن له باب رحمه لله باستخدام ذلك الكناش وقد أدركت فيه بخطه بعض تقييداته الفقهية وفوائده العلمية رحمه الله.
وكما ثار الجدل حول دخول الاستعمار والتعامل معه ثار حول دخول المدرسة، ولعلكم تذكرون الاستشكال الفقهي الذي  أرسله الشيخ محمد ولد المصطفى البارتيلي إلى العلماء بقوله
ملحَ البلاد ما جواب سائل  عن حكم أمر في البلاد نازل

إسلامنا أبناءنا الصغارا   طوعا إلى مدارس النصارى
وكان ممن أجابه الشيخ عبد الله بن داداه في قوله:
الصمت دونما يخاف جنه   وجاء في إضاءة الدجنة
الحق لا يخفى على ذي عين   والله أرجو عصمة من مين
فكان رحمه الله تعالى، لا يرى جواز دخول المدراس الفرنسية، وأذكر أن الوالدة رحمها الله تعالى ردت على من قال لها "إنك ستضيعين حق ابنك إن لم تدخليه المدرسة" قائلة: ما أرى إلا أنه لزمك تجديد إيمانك وعصمتك، هل يضيع الولد من لا ي
فكان رحمه الله تعالى، لا يرى جواز دخول المدراس الفرنسية، وأذكر أن الوالدة رحمها الله تعالى ردت على من قال لها "إنك ستضيعين حق ابنك إن لم تدخليه المدرسة" قائلة: ما أرى إلا أنه لزمك تجديد إيمانك وعصمتك، هل يضيع الولد من لا يعلمه إلا كتاب الله؟

السراج : متى غادرتم محظرة عمكم الشيخ عبد الودود؟
الرباني :جاءت ظروف الجفاف وصرفت الناس إلى الشراء والابتياع، فحملت الأسرة إلى بوتلميت، وبدأت أُدرس القرآن الكريم لأسر من الشرفاء في بوتلميت، ولاحقا أنشأت دكانا صغيرا في بوتلميت وبدأت التجارة وكانت الظروف صعبة جدا،  وقد كنت حينها أيضا أدرس الحديث، وألفية العراقي على الشيخ محمد ولد أبو مدين، وهو في الجانب الشمال الغربي من مدينة بوتلميت وكنت أحمل مصباحي كل مساء إليه رحمه الله، وأنا ملزم أيضا بأن أبدأ تدريس تلاميذ القرآن عند الساعة الرابعة فجرا.. وأعجب اليوم من الشباب الذين لا يصبرون على التعلم ساعة ولا على العمل ساعة.

يتواصل

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |