الاثنين، 26 مارس 2012

جريدة النهار - أين هو الوطن الصغير؟

جريدة النهار

أين هو الوطن الصغير؟



  • محمود الزيباوي
  • 2012-03-24
  • لبنان في زمن الانتداب الفرنسي.
  • .
  •   الركائز العشر
    إلى جانب محاضرتي ميشال شيحا وكمال يوسف الحاج، محاضرة لجواد بولس واثنتان لشارل مالك، وفيها تأكيد لهذه الصيغة اللبنانية المثالية. درس شارل مالك في أهم الجامعات العالمية، وبرز في الحقل السياسي في عهد كميل شمعون، ثم شارك في تأسيس "الجبهة اللبنانية" عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وكان من أبرز منظّريها، وقد واصل نشاطه السياسي والفكري حتى وفاته عام 1987. في المقابل، جمع جواد بولس بين السياساة والمحاماة، وعمل في الحقل الديبلوماسي. ساهم في تأسيس "الجبهة اللبنانية"، وشهد تصدّع هذه البلاد قبل وفاته عام 1982. أول هذه النصوص من حيث الترتيب الزمني نص مستل من محاضرة ألقاها شارل مالك في جامعة الروح القدس في الكسليك، نُشرت كاملة عام 1974، عند اندلاع الحرب. على مثال كمال يوسف الحاج، يعلن شارل مالك إيمانه بالكيان اللبناني كـ"كيان حقيقي، قائم، ثابت، مستقل، باق، يريد لذاته البقاء ويعترف له العالم بحق الوجود وحق البقاء"، ويحدّد عشر خصائص له، "إذا سقطت، زال لبنان"، وهي تباعا: "هذا الجبل الفريد، القرية اللبنانية الفذة، مركز لبنان السياحي الممتاز، تجارته العالمية العجيبة، ظاهرة الاغتراب اللبناني بكل ما تعنيه تاريخياً وكيانياً، التواجد المسيحي الاسلامي السمح الرائع، الحرية الكيانية المسؤولة، الانفتاح على العالم في المكان والزمان، معنى لبنان الفكري المتواضع، إسهام لبنان المتواضع في المعترك الدولي". يمتدح المحاضر الجبل اللبناني على طريقة الشعراء الذين أدمنوا هذا المديح، ويرى أن الجبل يسيطر "على حياة اللبنانيين وذهنيتهم ووجهتهم ومصيرهم، فيكاد لبنان وجبل لبنان أن يكونا مرادفين، وقد عنى جبل لبنان، تاريخياً وكيانياً مناعةً وفصلاً بالنسبة للصحراء، واتجاهاً وانطلاقاً نحو البحر الأبيض المتوسط، وهذا المعنى حسم مصيره إلى حد بعيد". من دون هذا الجبل، لا يكون لبنان، وهو يتمثل في قريته الفذة حيث "الزيتونة والتينة والعريشة والسنديانة واللوزة والتوتة والزعرورة والزنزلختة والصنوبرة والارزة والخروبة". لا يشير الكاتب إلى حرب الجبل الأولى التي مهّدت لقيام الدولة اللبنانية، ولا يستشفّ حرب الجبل الثانية المقبلة، وأثرها الفتّاك على هذه الدولة. مثل كمال يوسف الحاج، يمتدح المحاضر الصيغة اللبنانية القائمة على التناغم الطائفي بين الإسلام والمسيحية، ويضيف: "يظن البعض ان المسيحية والإسلام نظامان فكريان واجتماعيان تخطاهما الزمن، وأن ثمة أنظمة جديدة، في الفكر والحياة والمجتمع، هابطة علينا، أو نابعة منا، ستحل محلهما. في تلك الحال سينسى المسيحي مسيحيته والمسلم إسلامه ويتحدان في دين جديد". هكذا يرفض شارل مالك العلمانية بكل أشكالها، جازماً بأنّ "التراث الإبراهيمي أعمق، وأكثر أصالة، وأشد إشباعاً لعطش النفس الكياني من نظام أو دين مادي أو اقتصادي أو اجتماعي أو قومي جديد". تبدو هذه المقولة مماثلة للمقولات الإسلامية الصاعدة في العقود الأخيرة، مع إعلان موت النظريات القومية والأفكار العلمانية المستوردة.
    الحقيقة العنيدة
    تحمل محاضرة شارل مالك الثانية عنوان "ظاهرة الأقليات في الشرق"، وتعود إلى شتاء 1980، ولا تختلف في فحواها عن المحاضرة السابقة. يشدّد الكاتب على الهوية الدينية ويقارن بينها وبين الهوية القومية، مؤكدا أن الأولى أقوى وأعمق. يخالف الكاتب هنا دعوة كمال يوسف الحاج، ويرى أن "لبنان ليس سوى مجموعة أقليات، وهي جميعاً في تمييزاتها الأساسية دينية، يعود أمرها إلى الله، والله لا يصهر في بوتقة أي شيء بشري كالقومية". في خطاب مطابق للخطاب الإسلامي المعاصر، يرى شارل مالك أن "فكرة القومية ذاتها شيء مستورد من الخارج، وعلى الأخص من الفكر الألماني والفرنسي والايطالي في القرنين التاسع عشر والعشرين. أما الولاءات النابعة من تربة الشرق الأوسط، فالقومية غريبة عنها تماماً، إنها كلها ولاءات دينية". يقرّ الكاتب بـ"أن شيئاً اسمه القومية اللبنانية، بالمعنى التقني لهذه العبارة، لم ينشأ بعد"، معلناً أن الحل ليس بالعلمنة ولا بالتفاعل المجتمعي الحر، بل بالتعددية الدينية، وأن "الشرق الأوسط، ولبنان، سيبقيان إلى ما شاء الله تعدديين في الثقافة والدين". يعود نص جواد بولس إلى الحقبة الزمنية نفسها، ويتناول العلاقة بين لبنان وسوريا. يرى المفكّر "إن الشخصية السورية هي أقرب الشخصيات الشرقية الى الشخصية اللبنانية، إلا أن اختلاف البيئة الجغرافية في البلدين، رغم التصاقهما جغرافيا، يجعل منهما إقليمين مختلفين جغرافيا، ومكملين أحدهما الآخر من الوجهة الاقتصادية". يزعم المؤرخ اللبناني أنّ المناخ الطبيعي هو العامل الأكبر الذي يميز بين الإقليمين: "فهو جبلي وبحري في لبنان، وصحراوي وبري في سوريا". يصعب القول إن هذه المقولة السطحية لا تحتاج إلى تصويب، وإن الاختلاف بين الدولتين هو سياسي بالدرجة الأولى، كما تثبت الأحداث الجارية منذ تأسيس لبنان إلى يومنا هذا. يختم شارل مالك محاضرته حول ركائز لبنان بقوله: "الحقيقة العنيدة الباقية هي انه، إذا انتفت أيٌّ من هذه الركائز العشر، إنهزّ لبنان من أساسه، إن لم اقل انتفى وزال من الوجود". الأكيد أن لبنان إنهزّ من أساسه منذ السبعينات إلى يومنا هذا، وأنه يحتاج إلى ركائز جديدة يقوم عليها، بعيدا من الشعارات الفضفاضة الرائجة.

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |