فلسفة التربية والتعليم عند الحكماء وفي المراكز الأكاديمية المعاصرة (1-8) | أخبار البديل
فلسفة التربية والتعليم عند الحكماء وفي المراكز الأكاديمية المعاصرة (1-8)
الثلاثاء 28 مايو 2013 - 03:32 م
كتب:
مقدمة
يدور البحث حول بيان فلسفة التعليم والتربية عند الحكماء العقليين الإلهيين الذين اعتمدوا على المنهج العقلي البرهاني الميتافيزيقي في تحقيق بحوثهم الفلسفية والأيديولوجية، ومقارنته بالمنهج الأكاديمي المعاصر
والهدف من تدوين البحث هو بيان مذهب الحكماء في التعليم والتربية، وهو المذهب الصحيح والواقعي في نظرنا؛ لأنه قائم على أساس المنهج العقلي البرهاني السليم، من أجل إحياءه من جديد، بعد أن تبنت المراكز العلمية الأكاديمية المعاصرة في البلدان العربية والإسلامية مذهبا آخر مباينا، بل مقابلا له في التربية والتعليم يقوم على أساس المنهج الحسي الذي فرضه علينا الغرب المادي.
تتجلى أهمية هذا البحث في أن مسألة التربية والتعليم هي من أهم وظائف المجتمع البشري التي تتم بها فلسفة الاجتماع، والتي تقع في طريق استكمال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وفي صلاحها و فسادها صلاح المجتمع وفساده، حيث تُشكل عملية التربية والتعليم المنظومة العلمية والأخلاقية للإنسان، التي تنعكس بدورها على سلوكه على المستويين الفردي والاجتماعي، وتُعين مصيره في هذه الحياة وما بعدها.
وسوف نستعرض مسائل هذا البحث في ستة فصول متتالية:
الأول – بيان تميز المنهج العقلي عن سائر المناهج التحقيقية الأخرى، من حيث كونه المنهج التحقيقي الوحيد الموصل للواقع بنحو يقيني ثابت ومطلق
الثاني – الرؤية الكونية للحكماء عن حقيقة الإنسان ومبدأه ومعاده
الثالث – فلسفة التربية والتعليم عند الحكماء بناء على رؤيتهم الكونية في كون الإنسان حيوان عاقل، وأن نفسه العاقلة المجردة عن المادة،والتي تُمثل حقيقة الإنسان قد تعلقت منذ حدوثها ببدنه المادي، والذي يُعد آلة لاستكمال النفس الفاقدة لكل كمال ثانوي حين نشوئها، كما ثبت ذلك في الفلسفة الإلهية
وفلسفة التعليم عند الحكماء تكمن في تكميل العقل النظري، وفلسفة التربية في تكميل العقل العملي.
الرابع – بحث مقارن بين المنهج التعليمي التربوي عند الحكماء والمنهج المعاصرالمعتمد في الدراسات الأكاديمية.
الخامس – العواقب الوخيمة المترتبة على إقصاء المنهج العقلي من الدراسات الأكاديمية.
الفصل الأول
المنهج المعرفي عند الحكماء
نظرا لغياب لغة التفاهم العقلي وهجر المصطلحات المنطقية المشهورة في التراث العقلي الإنسانى، واستبدالها باصطلاحات خطابية ومجازية فضفاضة ومشتركة، وذلك بسبب هيمنة الاتجاه الحسي المادي على المراكز الجامعية والأكاديمية في الشرق والغرب، والذي قطع علاقته العلمية والفكرية بالكلية مع تراثه الإنسانى العقلي مع بداية عصر الحداثة؛ لأسباب سياسية وأيديولوجية لامحل لذكرها هنا، واستحدث قاموسا جديدا من المصطلحات الفكرية المباينة في المعنى مع المصطلحات المشهورة السابقة في المنطق الأرسطي
ومن جهة أخرى ونتيجة لهيمنة الاتجاه النقلى الإخباري على أغلب المعاهد والمدارس الدينية منذ قديم الزمان وإقصاء المنطق والعلوم العقلية عن ساحة التعليم الديني، فقد أصبح من العسير طرح أي بحث فكري عقلي أصيل بدون تحديد مصطلحاته ومفرداته
وحتى لا يساء فهم البحث عمدنا إلى تقديم هذه المقدمة المنطقية لبيان المصطلحات الواردة ضمن التعرض للمبادئ التصورية للبحث، وهي تتعلق بمحورين، محور منطقي في عملية التفكير أو النشاط العقلي ومحورمعرفي في الفكر أو معطيات عملية التفكير ونتائجها:
المحور الأول: التفكير
نقول: لا ريب أن الإنسان يتميز عن سائر المخلوقات بكونه كائن مفكر بطبعة، والتفكير عبارة عن نشاط ذهني تقوم به القوة العقلية لتوليد الفكر بجميع صوره ومستوياته، ولمزيد من التعرف على طبيعة هذه العمليات العقلية والمسماة بالتفكير، ينبغي الإشارة لعدة أمور:
أولا ـ مراتب الإدراك:
الإدراك الإنساني له مراتب أربع هي:
1 ـ المرتبة الأولى: مرتبة الإدراك الحسي
حيث يدرك الذهن البشري الصوروالهيئات المتعلقة بالأجسام من الأشكال والألوان والطعوم والروائح والأصوات والكيفيات اللمسية كالحرارة والبرودة.
كل هذه يدركها الإنسان بواسطة الجوارح الخمس التي هي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والتي تتصل مباشرة أو بواسطة الهواء بالأجسام الخارجية، وتنقل أحوالها للنفس عن طريق الأعصاب والدماغ، ولذلك يكون بقاء الصور الحسية في الذهن مرهونا ببقاء اتصالها بالمحسوس في الخارج، بحيث اذا فقدنا الاتصال بالشيء المحسوس لغيابه بسبب صغره او بُعده مثلا او لفقدان آلة الحس فقدنا إمكانية إدراكه حسا.
والحس في الواقع وكما هو ثابت أمين في نقله وليس بحاكم، بمعنى أنه ناقل لحال الأشياء على ما هي عليها في ضمن شرائط الحس، فينقل ما كان كبيرا ضمن شرائطٍ "كبيراً" وينقل ما كان صغيراً في ضمن شرائطٍ "صغيرا"، وإذا اتفق بأن نقل ما كان كبيرا في واقعه صغيرا كما في إدراكنا حسا للكواكب بالعين المجردة فليس لخطأ في الإدراك الحسي بل لتغير ظروف الإدراك، حيث أن الكواكبَ بعيدةٌ عنا، و دور الرؤيا هنا نقل صورة الكواكب كما هي ظاهرةٌ للعين في ضمن ظرف بعدها لا إنها تحكم عليها واقعا وفي نفس أمرها أنها صغيرة.
وأما الحكم عليها بأنها في الواقع كبيرةٌ أو صغيرةٌ، فهذا أمر غير راجع للحس، إذ ليس من شأن الحس الحكم أصلا بل هوأمر راجع للعقل حصرا ومختص به دون سائر القوى والعقل على ما نحن عليه من المثال قد يخطئ لإهماله حيثية البعد مثلا.
وبالتالي لامعنى لكونه مخطأ أو مصيبا، بل ينقل الأشياء كما وقعت عليه في الخارج، وإنما العقل هو الذى قد يخطئ عند عدم مراعاته قواعد التفكير الصحيح، ويصحح أخطاءه الحسية بعد ذلك بالاستعانة بالحس أيضا، كمعرفته بعد ذلك أن الشمس كبيرة وأن حجمها أضعاف أضعاف حجم الكرة الأرضية، وليست صغيرة كما تبدو لنا.
ولكن علينا أن نعلم أن دائرة إدراك الحس إنما تكون فى حريم العوارض المادية فقط، والتى تتصل بها، كما ثبت فى الفلسفة، ولايمكن أن تتعدى حدودها إلى باطن الطبيعة، فضلا عما وراءها، وهو المسمى بعالم الغيب.
كما أن التجربة الحسية المعتمدة على تكرار المشاهدات الحسية كذلك لاتتعدى ظاهرعالم الطبيعة المادي، ولايمكن الاعتماد عليها فى البحوث التجريدية المتعلقة بالفكر الإنسانى كما ثبت في محله.
2 ـ المرتبة الثانية: مرتبة الإدراك الخيالي
في هذه المرتبة يدرك الذهن أيضا الصور، والهيئات الجسمية التي سبق وأن أدركها الحس وزالت عن مرتبة الحس غير أنها حفظت في الخيال، فله أن يستدعيها ويشاهدها متى شاء ذلك، حتى بعد غيبة المحسوس، وانقطاع الاتصال معه، وهذا هو الذي يميزه عن الإدراك الحسي.
ويعتمد الإنسان على الخيال فى مجال الأدب والدراما والرسم والموسيقى، وسائر الفنون القريبة من الحس، و لا مدخلية له أيضا في العلوم الفكرية العقلية الإنسانية.
المرتبة الثالثة : مرتبة الإدراك الوهمي
وهي المرتبة التي تَدرك فيها النفس المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات المادية إدراكا جزئيا متعلقاً بهذه المحسوسات وبالقياس إليها، مثل حب الأم والأب، وعداوة الذئب للأغنام.
المرتبة الرابعة: مرتبة الإدراك العقلي للمعاني العامة الكلية المجردة عن التجسم والعوارض الجسمانية
كمعنى العدل والحرية والكرامة والإنسانية، هذه المعاني الكلية تسمى بالمعقولات، بإزاء المحسوسات والمتخيلات وهذه المرتبة الرابعة تسمى بالتعقل، وهي التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات.
وبعد بيان مراتب الإدراك الأربع نقول: إن حركة الذهن عند الإنسان قد تكون في الصور الحسية، كالمشاهدات الحسية المتتالية، وقد تكون في الصور الخيالية كتخيل صور الحوادث الماضية، وقد تكون في الصور الوهمية وقد تكون في صور المعقولات الكلية.وهذه الحركة الإرادية في المعقولات الذهنية يسميها الحكماء بالتفكير، وهي حركة تبدأ من المعلومات الحاصلة في الذهن عندنا بقصد تحصيل المعلومات المجهولة عنا، ومن هنا يتبين أن عملية التفكير تهدف إلى اكتساب المجهول بالمعلوم وبالتالي إنتاج وتوليد الفكر الإنساني.
وهذه الحركة التفكيرية كظاهرة طبيعية، محكومة كغيرها من الظواهر الطبيعية في العالم بقوانين وقواعد علمية طبيعية، قد تم اكتشافها وتدوينها في علم المنطق على يد المعلم والفيلسوف الأول(أرسطو) فى القرن الرابع قبل الميلاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق