الترجمة عبر الحضارات
Alhambra, Granada, Spain
تعد حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية في إسبانيا واحدة من الأساطير التأسيسية للثقافة الأوروبية، فلهذه الحركة مكانة سامية في تاريخ العالم القديم، بوصفها المحرك الأول للنهضة في القرن الثاني عشر، والانطلاقة الحقيقية للغرب في مجال العلوم الطبيعية والإشارة لثقافة جديدة لمثقفي العصر الوسيط، وكبداية للفترة الطويلة التي ساد فيها التصور الأرسطي عن العالم في الغرب، أو بمعنى آخر، بداية للعصر الوسيط الطويل الأمد الذي سينتهي بانهيار المجتمع الإقطاعي الزراعي. رغم ذلك، غالباً ما يتم وصف الحدث، أي حركة الترجمة، دون توضيحه وشرحه؛ إذ كثيراً ما يأتي ذكره دون أن يتم فهم المقصود منه. نقرأ عن الدروب التي تجولت فيها المعرفة، من أثينا إلى الإسكندرية ثم من بغداد إلى طليطلة ونسمع عن مترجمين كبار مثل غيرهارد فون كريمونا، لكننا لا نعرف الكثير عن أسباب ودوافع هذه الحركة. وليس هذا بالأمر المدهش، لكن ذلك النقص المعرفي هو غالباً الذي يشكل طابع ذاك الحدث الذي يعد بالنسبة لحاضرنا أسطورياً. لم يتوصل البحث التاريخي لسرد الحداثة، إلى الدرجة التي تجعله يستطيع أن يحدد بثقة تامة مكانة وتصنيف حركة الترجمة. في العقود الأخيرة قام باحثون من الأسبان والإنكليز على وجه الخصوص، مثل فرانسيسكو هيرنانديث وتشارلز برونيت بجمع معلومات جديدة عن حياة وعمل المترجمين من المصادر. ويمكننا توضيح العوائق التي تواجهها عملية البحث من خلال مثال، علينا فقط أن نفكر في عدد الأشخاص الذين كانوا يدعون «يوحنا» في مدينة قشتالة في العصور الوسطى والذين يمكن أن تنطبق عليهم مواصفات المترجم يوحنا الإسباني «Johannes Hispanus»، كذلك فإن وضعية المصادر البحثية فيما يتعلق بالمجال الفكري غير ملائمة، حيث لا يوجد للأسف سوى عدد قليل من وثائق هذه الفترة، تتناول الترجمات وتتيح إلقاء نظرة من الخارج على هذه الظاهرة. ونظرا لهذه العوائق لا بد من التعامل مع الأسئلة المتعلقة بأسباب ودوافع حركة الترجمة بذكاء وبمدخل منهجي سليم. ويعـد كتـاب «الفـكر اليوناني والثقافة العربية «Greek Thought, Arabic Culture»، للمستعرب ديمتري غوتـاسDimitri Gutas ، وهو أمريكي من أصـل يـوناني، مثالاً واضحاً على إجادة التعامل المنهجي مع هذه الأسئلة. ويتناول الكتاب حركة ترجمة إسلامية مبكرة كانت تعد نموذجاً احتذته حركة الترجمة الأسبانية. وإذا ما قرأنا الكتاب باعتباره طرحا منهجيا ليس فقط في مجال دراسات اللغة العربية بل وأيضاً في مجال دراسات القرون الوسطى، فسيتيح ذلك لنا المجال من أن نطرح السؤال عن دوافع حركة الترجمة الأسبانية. في الفترة من القرن الثامن إلى العاشر الميلادي تم في بغداد، تلك العاصمة التي تأسست عام 762م في ظل الخلافة العباسية الفتية، تم نقل عدد كبير من النصوص اليونانية في مجالي العلوم والفلسفة إلى العربية. ويكمن تميز كتاب غوتاس في تعامله مع عملية النقل والترجمة والتي امتدت لقرنين بإشراف وتمويل النخبة الحاكمة، باعتبارها ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، وباعتبارها عملية مخططة ومنفذة بوعي من قبل الفاعلين في الإمبراطورية، وبوصفها حركة مرتبطة بدرجة كبيرة ببنية المجتمع البغدادي. يصف غوتاس كيفية وصول العباسيين للحكم بعد إسقاطهم للخلافة الأموية وكيفية استخدامهم للترجمات كوسيلة إيديولوجية لتبرير وتثبيت حكمهم. كانت الترجمات بمثابة سلاح ضد الخصوم سواء من العرب أو الفرس، لدى الرعية المسيحية وبين رجال الدين المسلمين. كانت دعاية العباسيين تقول بأنهم أحق وريث لكل الخلافات السابقة عليهم، ولكل العلوم الموروثة وبخاصة العلوم اليونانية.
(...) النص الكامل ك (pdf, 100 kb)
ترجمة: أحمد فاروق
داغ هاسه: مدرس في جامعة فورتسبورغ، متخصص في تاريخ الفكر العربي واللاتيني في العصر الوسيط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق