الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

As-Safir Newspaper - سليمان تقي الدين : إشكالية الإسلاميين في الحراك العربي

As-Safir Newspaper - سليمان تقي الدين : إشكالية الإسلاميين في الحراك العربي
إشكالية الإسلاميين في الحراك العربي

بدأ الإسلاميون يشهرون مشروعهم العقائدي في الحراك العربي. أظهروا في مصر غير مرة عصبيتهم الحزبية مؤكدين تمايزهم عن التيارات السياسية الأخرى. بعد أن التزمت قيادتهم شعار «الدولة المدنية» خرجوا بجمهورهم إلى ميدان التحرير بشعار «الدولة الإسلامية». ليس الهتاف وحده ما يدل على سياسة الفرز والفئوية. منذ اللحظة الأولى يحرص الإسلاميون في مصر على كبح التغيير الجذري. هم أول مَن حاور النظام وأول مَن راهن على المؤسسة العسكرية وأول مَن سعى إلى إعادة تكوين السلطة قبل تنظيم الثورة صفوفها.
يضبط الإسلاميون تحركهم تحت سقف تجديد النظام السياسي العربي بدور أساسي لعصب النظام وهو الجيش، وبتوسيع قاعدة النظام الشعبية لإضفاء الشرعية عليه من خلال الإسلاميين. هذه الوصفة الأميركية الشاملة للمنطقة لم تكتمل فصولها. لا يعمم النموذج المصري في بلدان أخرى لا يشكل الإسلاميون فيها قوة جماهيرية منظمة. في غياب الحد الأدنى من الحريات السياسية يظهر الإسلاميون كجماعات سلفية متطرفة وهامشية وعنفية ومسلحة. الإسلاميون ليسوا على نمط واحد لا في تفكيرهم ولا تجربتهم ولا نضجهم ولا تنظيمهم ولا ممارستهم. ما يحكى عن مرجعية النموذج التركي لا يمتلك الشروط نفسها حتى الآن في العالم العربي.
ليست التجربة التركية أصلاً متجذرة في الحكم وعمرها لا يتجاوز العقد الواحد من الزمن. تتعرض تركيا نفسها إلى تجارب بين مؤسسات الدولة العلمانية الراسخة منذ قرن تقريباً وبين الحكم الإسلامي المعدّل والمخفّف.
في تركيا اليوم غموض خيارات على المستوى الإقليمي رغم النجاحات الاقتصادية. ليست العقائدية أولوية الإسلام التركي كما هي حال الإسلام السياسي العربي الذي ما زال في مرحلة التعبئة والتحشيد والسعي إلى اكتساب الشرعية. لم يتمرّس الإسلام السياسي العربي في الديموقراطية لكي تصبح جزءاً مهماً من ثقافته. جاء الإسلاميون العرب في كل مكان إلى المنافسة الديموقراطية بعد معارك صدامية عنيفة دامية في مصر والجزائر وسوريا الآن في أول الطريق. يتكيّف الإسلاميون على المدى الطويل مع الديموقراطية ثقافة وممارسة وقد حصل ذلك على مستوى بعض النخب لديهم، غير أن هذا مسار محكوم بتوازنات القوى في المجتمع والدولة. في الحراك العربي الراهن يتقدم التطرف الشعبوي على السياسات العقلانية. يصادر الإسلاميون ثقافة الأمة ويستمدون شرعيتهم من تديّن البسطاء وطقوسهم ووسائلهم والإيمان بالعدل السماوي. لكن الإسلام السياسي ليس مشروع الفقراء والبسطاء بل هو هوية ينتسب إليها معظم أهل النفوذ والسلطة ويستخدمونها وعاء لمصالح اجتماعية متنافرة. لا يملك الإسلام السياسي مشروعاً لتغيير نمط الإنتاج الاقتصادي لكنه يملك تعديلات على ممارسة السلطة وبعض العلاقات الاجتماعية. الإسلام السياسي يغيّر على مستوى السلطة ولا يغيّر على مستوى الدولة بما تعنيه في منظومة العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية.
من حق الإسلاميين أن يمارسوا حياتهم الفكرية والسياسية مهما كانت متعارضة مع وقائع العصر واحتياجاته ومتصادمة مع تيارات الحداثة. لكن مطلب الحرية هذا يقف عند حدود حرية الآخرين وضرورة استبعاد وسائل العنف المادي والمعنوي من الصراع. لا يتفق الإسلاميون أنفسهم على مضمون «الدولة الإسلامية». الإسلاميون تيارات وجماعات. المسلمون هم الأكثرية الساحقة من التكوين الاجتماعي للأمة.
شعار «الدولة الإسلامية» إقصائي استبدادي حصري للمسلمين في دائرة تيار ثقافي وسياسي. لا يمارس الإسلاميون «الدعوة» فقط بل يمارسون سلطة الحكم والتحريم والإلغاء. فكرة «الدولة المدنية» لها تراث كبير في الفقه الإسلامي. تاريخ المسلمين الطويل منذ إنشاء دولة الإسلام هو تاريخ مدني لا ديني. ما يسميه الإسلاميون «جاهلية العصر» أي العودة إلى ما قبل الإسلام، والسعي إلى فرض الإسلام السلفي الأصولي هو إلغاء للتاريخ وللبشر الذين صنعوا ويصنعون التاريخ المدني.
يكفّر الإسلاميون المسلمين كلهم ويحذفون تاريخهم ونشاطهم ووعيهم من أجل «طوبى» لم يسبق أن قامت واقعياً في التاريخ. من حق هؤلاء الدعوة إلى هذه «الطوبى» مثل كل أصحاب العقائد، ومن حق الآخرين أن يقاوموا مصادرة حرياتهم ووعيهم وتفكيرهم وحقهم في ممارسة نشاطهم الإنساني. لا يمكن فئةً اجتماعيةً أو سياسيةً أن تحتكر القداسة وتضع نفسها خارج المجتمع والتاريخ وفوقهما.
لكل عقل إنساني «قداسته» ولكل ثقافة جماعة كذلك. يخضّ المجتمعات العربية ويقلقها استخدام «الشارع» أداة سيطرة بدلاً من الاحتكام إلى صندوقة الاقتراع. ويمزق المجتمعات ويستفز توترها العنف الذي صار وسيلة أساسية للتغيير في أكثر من بلد عربي. يستخدم الإسلاميون امتيازات غير مشروعة ضد شركائهم في المجتمع. كانوا في ظل أنظمة الاستبداد الأكثر قدرة على نشر دعواهم وتنظيم صفوفهم في بيئة المؤسسات الدينية ذات الشرعية الرسمية. مارسوا المشاركة مع معظم أنظمة الاستبداد على الملعب العقائدي. تحدثوا بلغة مشتركة واحدة. تعاونوا على تعزيز ثقافة تقليدية واحدة. تواطأوا على تبرير الكثير من السياسات الاقتصادية والاجتماعية. انسحبوا إلى حد بعيد من المواجهة الوطنية وتحدياتها. أخضعوا السلطة لمعايير تفكيرهم العقائدي السلوكي ولم يخضعوها فعلاً للمساءلة عن خياراتها الاقتصادية التي جلبت الفقر والبطالة والتهميش والإقصاء والامتيازات والفساد. ليس الإسلام السياسي إلا جزءاً من عملية تغيير سياسي سلطوي يحمل ملامح استبدادية ضد قيم الحرية والتقدم. يشارك الإسلام السياسي في الثورة المضادة حين يراهن على تجديد بنية النظام القديم وتعديل توازناته والتماهي مع السياسة الأميركية في أهدافها لصياغة السلطة والنظام الإقليمي. لا جواب على الإسلام السياسي إلا بإيضاح مشروعه ومواجهته ببرنامج جدي للتغيير وبالمزيد من الحيوية والتنظيم المقابل وملء الشواغر والفراغات الكبرى في الحياة السياسية العربية.
الإسلام السياسي بكل أطيافه إشكالية معقدة في مسيرة الديموقراطية والتغيير والتقدم. إقحام المقدس في السياسة ينتقص أو يشوّه القداسة والسياسة معاً. العنف المعنوي والمادي الذي تمارسه جميع تيارات الإسلام السياسي وأطيافه ومذاهبه محرّض على انقسام المجتمع على أساس عقائدي. هذا نفسه امتياز كامتياز أي سلطة أخرى أو حزب أو جماعة. ما رافق الحراك الشعبي السوري من شعارات وممارسات صدرت عن «مرجعيات خارجية مرموقة» أو عن وسائل إعلام خاصة بفئة من هؤلاء «السلفيين» تجاوزت حد الحذر والقلق من هذه الفئة إلى حد الخوف الحقيقي. هذا النوع من المشروع أو التفكير تصعب محاورته، أكان مسلحاً أم بغير سلاح. لكن محاصرته في عواطف الجمهور لا يمكن أن تكون من طريق واحد هو الردع.
كلما فرضت هذه الفئة العنف على العلاقات بينها وبين الدولة كسبت بعض الشرعية من طريق ضحاياها. العقائد لا تضعف بواسطة العنف وحده. ما يجري الآن تحوّل إلى صدام عقائد ونخب مسلحة. هذا مسار خطير في تأسيس للحروب الأهلية. إذا لم تصبح مهمة مواجهة التطرف والعنف والتكفير مهمة وطنية لا تنجح هذه المواجهة، خاصة وهي تستظل كل هذه المداخلات الخارجية. وحده الحوار الوطني المرتبط بخطوات عملية لمشاركة واستنفار واستنهاض كل قوى المجتمع الحية المؤمنة بالوحدة والخيار الديموقراطي والملتزمة بالحريات تستطيع أن تحتضن مشروع الدولة. إدارة التنوع في المشرق العربي مسألة غاية في الأهمية لكي لا تكون في مسؤولية منطق القوة. هنا لا يمكن المركزيةَ السياسيةَ أن تنشئ دولاً قوية، خاصة إذا كانت مرتبطة بنخبة أو فئة من دون سائر النخب والفئات.

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |