الخميس، 4 أغسطس 2011

جريدة الشرق الأوسط ::.. العلماء المسلمون ومتغيرات العالم العربي, آفــاق إسـلامـيـة

العلماء المسلمون ومتغيرات العالم العربي, آفــاق إسـلامـيـة
العلماء المسلمون ومتغيرات العالم العربي
رضوان السيد
ما صدرت عن علماء المؤسسات الدينية الإسلامية مواقف يمكن فهمها وتقديرها أو الإفادة منها، وتتعلق بالمتغيرات الكبيرة التي جرت وتجري في العالم العربي. فهناك اثنان من كبار العلماء، حرم أحدهما التغيير أو السعي إليه بذريعة التوجس من العنف، ووجوب طاعة السلطات، بينما دعا الآخر إلى استخدام العنف من أجل تغيير الحاكم الظالم. وكلا الموقفين خطابي ولا ينم عن فهم واسع وعميق بمهمات وواجبات ومسؤوليات العالم، كما أنهما لا يشعران بتدبر ووعي بالموقف الذي نحن فيه، وأوضاع الناس، والعلائق بالعالم المعاصر. والطريف وغير الظريف على الإطلاق، أن رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد علي لاريجاني أدلى بدلوه الملآن في هذا الشأن عندما ذهب إلى أن الأزهر ما كان له موقف محمود من التطورات بمصر، وهو يقصد أن علماء الأزهر الكبار ما دعوا لاستخدام العنف ضد السلطات، في حين لم يلاحظ السيد لاريجاني أن علماء السلطة بجمهورية إيران الإسلامية - بمن فيهم رئيس السلطة القضائية - يتهمون كل يوم المتظاهرين المسالمين في المدن الإيرانية بالخيانة والحرابة، ويدعون لقتلهم من دون تردد! والحق أن علماء أهل السنة، ومنذ أيام الإمام أحمد بن حنبل، لا يقولون بالخروج بالسيف على الظلمة، ويدعون للإصلاح من جهة، والطاعة والجماعة من جهة أخرى. وهم يعللون النهي عن العنف أو عن السعي للتغيير بالعنف بثلاثة أمور: الخشية من الانقسام الداخلي أو الفتنة (الفوضى أو الحرب الأهلية بالمصطلح المعاصر)، والخشية من سفك الدم الحرام واستحلال المال الحرام، والخشية أخيرا من تجرئة الخارج المعادي، على انتهاك حرمات دار الإسلام. على أنهم من جهة أخرى، وبمقتضى واجبهم (وواجب كل مسلم) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحملون الدعوة إلى الإصلاح على محمل الجد. والإصلاح من وجهة النظر هذه لا يكون بالدعوة إلى ذلك على المنابر وحسب، بل وإمكان إقرار تصعيد الاحتجاج والتظلم إلى حدود التظاهر والإعراض عن التعاون، واشتراع آليات لذلك تحاول دائما تجنب الأخطار الثلاثة التي سبق ذكرها. وما أذهب إليه ليس اجتهادا من عندي، بل هو ثابت في كل كتب الفقه الإسلامي في باب «أحكام البغاة» منذ قرره الإمام الشافعي (204هـ) في مسوداته لكتاب «الأم». ويرجع الفقهاء المسلمون في الفكرة والسلوك بشأن حق المعارضة إلى ما جرى أيام الخليفتين عثمان وعلي، وكيف تعامل علي، على الخصوص، مع الذين اعترضوا عليه، ومع الذين قاتلوه. أما عثمان فقد أقر للذين أتوا إلى المدينة بحقهم في المطالبة بتغيير ولاتهم، كما قرر النظر في شكاواهم بشأن تقسيم الفيء. بيد أن بعضهم تجاوز ذلك لمطالبة الخليفة بالاستقالة أو العزل، وعندما رفض عثمان الاستجابة لذلك، أقدموا على قتله. وما أقر أحد من كبار أهل المدينة للثوار هؤلاء باستخدام العنف، ولذلك طالبوا الإمام علي بعد البيعة بمحاكمة القتلة، ليس لأنهم عارضوا الخليفة، بل لأنهم استخدموا العنف للوصول إلى مطالبهم. ثم استجدت اعتراضات على أمير المؤمنين علي لهذا السبب (أي لأنه أخر محاسبة قتلة عثمان لحين استتباب الأمور للسلطة الجديدة)، ولأسباب أخرى تتصل بالصراع على السلطة، كما تتصل ببعض سياسات علي (مثل موافقته على التحكيم). وقد ذكر علي لكل فئات المعارضين، أن من حقهم المطالبة والاعتراض، ومن حقهم أن تصغي السلطة لمطالبهم، وأن تحقق الممكن والمشروع من طريق التفاوض، وحتى التحكيم. إنما ليس من حقهم استخدام العنف لتحقيق تلك المطالب، كما أنه ليس من حق فئة منهم الإصرار على خلع أمير المؤمنين الذي بايعته جماعة المسلمين من دون إكراه. والمعروف تاريخيا أن علي اضطر لمقاتلة مختلف الفئات التي واجهته بالعنف، على الرغم من استعداده للتفاوض معهم جميعا. وعندما انتصر عليهم ما تعرض لأحد ممن ألقوا السلاح بدم أو مال أو انتقاص حرية. فصار تصرفه مع المعارضين في حالتي الثوران والإخماد «سنة»، ظل الفقهاء يعيدون قراءتها والتفريع عليها، والتدقيق فيها، إلى حين انقضاء الأزمنة الإسلامية الوسيطة. ذلك أن السلطة لدى «أهل السنة والجماعة» هي حق الناس، والسلطان وكيل عنهم في إدارتها، بما تقتضيه المصالح العامة. والمسلم إنسان كسائر البشر، أولوياته: رفض الظلم، ورفض الفساد، ورفض الاستبداد، ورفض إضعاف الأمة أو التسبب في ذلك، بحيث تتكالب عليها الأمم.
وما شهدت الأزمنة الحديثة والمعاصرة متابعة من جانب الفقهاء أو تطويرا بحسب مقتضيات الزمان، لأولويات وآليات التعامل بين السلطة والمعارضة. والفقهاء أو العلماء لا ينفردون بالمسؤولية عن ذلك. فقد قامت منذ أواخر القرن التاسع عشر، أنظمة سياسية «وطنية» (أي على أساس قومي حقيقي أو موهوم)، اعتبرت الفقهاء (تبعا للنموذج الأوروبي) منافسين لها أو أعداء. وكان من حسنات تلك الدول والأنظمة في بداياتها، تقليد الأوروبيين في اصطناع آليات ومسارب للمراقبة والمحاسبة والتداول على السلطة. ثم جاءت الانقلابات ومعها الأنظمة الثورية، التي دفعت الناس بعد وقت قصير، إلى الترحم على الاستبداد الإسلامي السلطاني الكلاسيكي. وما صار علماء المؤسسات بالطبع رؤوسا للمعارضة، بل قادت المعارضات أحزاب قومية وأخرى يسارية، تسعى كل منها لفرض نموذجها في التحديث والتغيير، ثم ما لبثت تلك المعارضات أن اندمجت في السلطات الانقلابية القائمة، وعملت على التنظير لها في ظروف الحرب الباردة. وقد اختلف كل المنظرين على أشياء كثيرة، باستثناء إجماعهم على رفض التقليدية الإسلامية ونموذجها في علاقة الدين بالدولة، ومعنى الحكم الرشيد. ومرة أخرى ما واجه علماء المؤسسات تنظيرات القوميين واليساريين؛ بل هب لمواجهتهم «الإسلاميون الجدد»، وهم حزبيون مثلهم، ويقولون بالعنف والانقلاب، ويتبنون نظاما لاهوتيا في السلطة الإسلامية المثالية، ما عرفته الحقب الإسلامية، وإنما كان المقصود به مواجهة السلطات المتدهرة، والمنظرين العلمانيين التحديثيين الذين قالوا بالفصل بين الدين والدولة، على النمطين الفرنسي والشيوعي الروسي، مستوردين إشكاليات ما عرفها الاجتماع الإسلامي في القديم والحديث. وانتهى الأمر وسط هذا الاصطفاف والانقسام إلى سواد عدة ثنائيات متضادة: سلطة/ جمهور، وقومي وتقدمي/ إسلامي، وتقليد وأصولية/ حداثة وتقدم. فكان أن انكسرت بقايا الفقه الإسلامي (التقليدي والإصلاحي)، وتضاءلت تأثيراتها وسط الأجواء الراديكالية والانقسامية التي كانت تضغط بثقلها بالطبع على الجمهور بشكل عام. فقد عانى ذلك الجمهور من تبعية مزدوجة: التبعية للسلطات العسكرية والأمنية القامعة، والتبعية للمهيمنين على النظام العالمي السياسي والاقتصادي.
وما بذل الفقيه المسلم جهودا بارزة للدفاع عن النموذج القديم، الذي كان قد انقضى على أي حال على كل المستويات، كما لم يبذل جهودا بارزة لفهم متغيرات الأجواء السياسية والثقافية بالداخل والخارج. وما بذل أخيرا جهودا حقيقية لفهم الإسلاميين الجدد، وبالتالي استكشاف ما بقي له من مهام مع وجودهم. إنما جل ما قام به كبار علماء المؤسسات على مدى العقود الأربعة أو الخمسة الماضية هو رفض الراديكاليات الإسلامية والتحديثية؛ في حين انحاز البعض منهم للسلطات وسكتوا عن كل شيء. كما انحاز بعض آخر إلى «الفقه الثوري» للإسلاميين الجدد، وانكفأت كثرتهم الكاثرة في المؤسسات التعليمية، ودوائر الفتوى، التي ما عاد العمل فيها ولها مقصورا عليهم.
إن الذي أراه أن الفقيه المسلم يملك الآن فرصة نادرة لاستعادة دوره وموقعه وتكليفه ومسؤولياته. فبعد أن عجز كثير من الأنظمة العسكرية والأمنية في العالم العربي عن القيام بالمهام الأساسية للدولة، وبعد أن انسدت كل مسارب التغيير السلمي، وألغيت آلياته، وبعد أن توقع كل المراقبين أن ينفجر العالم العربي في قطبين متنازعين: الإسلام السياسي الأصولي، والأنظمة المؤبدة؛ انتشرت حركات شبابية واسعة في شوارع المدن العربية، داعية للتغيير السلمي، من مثل التداول على السلطة، ومكافحة الجمهوريات الوراثية، ومكافحة الفساد والاستبداد، وفتح آفاق للتطوير والتغيير، والعمل على استعادة الشرعية والنظام العام، وحكم القانون. وغالبية هؤلاء الشبان متدينون، لكنهم ما كانوا ضمن حزبيات الإسلام السياسي. والفقيه المسلم كان يلعب دور الضمير الأخلاقي للحفاظ على صحة وسلامة وشرعية الجماعة وإرادتها. وهو ما قال ولن يقول أبدا بالعنف، ولو من أجل تحقيق الخير والمصلحة، وهؤلاء الشبان يسيرون في المسار نفسه، ويجذبون معهم كثيرين من الإسلاميين الذين كانوا يقولون بالعنف من أجل التغيير. ولذلك يستطيع الفقيه للمرة الأولى منذ أكثر من خمسين عاما أن يدعم هذا التغيير الذي صار ضروريا في نظر أنفسنا ونظر العالم من حولنا. وما دام العنف غير مستعمل إلا من جانب السلطات التي فقدت شرعيتها وفقدت حتى الكثير من أدواتها الأمنية؛ فإن بوسعه أن يدعم التغيير، دون أن يخشى التردي في النزاع الداخلي، أو الانقسام الذي يحصل بين طائفتين (فئتين) بحسب القرآن الكريم. فالقرآن الكريم يذكر حالة كحالتنا في سورة الحجرات: الآية رقم (9): «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين». هناك إذن خصومة تحدث بين فئات واسعة من الشعب، وبعض الأنظمة العربية. وهؤلاء الشبان يملكون الحق في الاعتراض والمطالبة بالإنصاف. والمسيطرون يردون عليهم بالعنف. والأمر الإلهي في هذه الحالة موجه إلى «جماعة المسلمين» بأن تحول دون هذا البغي ولو بالقوة، ثم تعمد للتغيير وإنجاز المطالب المحقة، بما في ذلك المحاسبة على ما كان، مع الاحتفاظ بروح القسط والإنصاف والمصالحة. إن هذا الدور الحاسم والكبير للتغيير السلمي والإصلاح بين الناس بما يؤدي إلى استعادة الشرعية والعدالة، باسم الأخلاقيات العليا للإسلام، هو دور لا يستطيع القيام به إلا العلماء المسلمون الذين حرصوا دائما على ثلاثة أمور: وحدة الجماعة، والعدالة، ورفض العنف من أي جهة أتى. إنما ذلك يقتضي منهم وعيا متجددا بالمتغيرات في مجتمعاتنا، والإحساس بالمسؤولية عن صحة وسلامة تلك المجتمعات بشكل شامل، وليس عن سلامة فئة بعينها، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة.
لا يستطيع الفقيه المسلم أن يكون داعية للعنف من أجل التغيير، أو من أجل منعه. لكنه بالاستناد إلى أصوله الدينية والأخلاقية، يستطيع تسهيل التغيير والتطوير واستعادة الشرعية للجماعة، من واقع تكليفه ومسؤوليته في تحقيق الأهداف العليا للاجتماع الإسلامي.

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |