الأحد، 21 أغسطس 2011

حركات التغيير العربية من منظور مقارن - Houna Loubnan


حركات التغيير العربية من منظور مقارن
20-07-2011 مؤسسة الدراسات الفلسطينية
نيفين مسعد

في سبعة أشهر هي الفاصلة بين منتصف كانون الأول/ديسمبر 2010 ومنتصف تموز/يوليو 2011 نجحت الشعوب العربية في تغيير وجه المنطقة من خلال مجموعة من الحركات المتتالية التي وصل بعضها إلى حد إطاحة النظم القائمة والتأسيس لعقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم (مصر - تونس)، وما زال بعضها يخوض صراعاً شرساً لبلوغ هذا الهدف (ليبيا - اليمن)، فيما تمكن بعضها الثالث من إدخال إصلاحات سياسية بدرجات متفاوتة من العمق والشمول (سلطنة عمان – المغرب)، وأثار بعضها الرابع والأخير قضايا ما كان أحد يجرؤ على إثارتها من قبل (قضية إنشاء الأحزاب في السعودية وقضية إلغاء قانون الطوارئ في سورية).

حركات التغيير في الوطن العربي تحدت العديد من المقولات النظرية التي انبنت عليها النظريات التي تتناول الثورات والحركات الاجتماعية والعنف السياسي. ويرتبط ذلك بالطابع السلمي الذي غلب عليها وعدم انجرارها إلى العنف إلا من باب الدفاع عن النفس، كما يرتبط باعتمادها على شبكات التواصل الاجتماعي لإشعال فتيل التغيير، وبتجاوزها الاختلافات الدينية والمذهبية في بعض النماذج (مصر - العراق – لبنان) على الرغم من وقوع بعضها الآخر في شرك تلك الاختلافات (البحرين - سورية). وفي تلك الحدود فإن حركات التغيير في الوطن العربي قدمت مادة أولية خصبة للتحليل المقارن لا شك في أنها ستؤثر على أدبيات دراسة الثورات والحركات الاجتماعية والعنف السياسي في المستقبل.
ولعل أول مظاهر الاهتمام النظري بتحليل تلك الحركات يكمن في محاولة التعرف على العلاقة فيما بينها وانتقال شرارتها من المغرب إلى المشرق إلى الخليج العربي. وفي هذا الخصوص يمكن الحديث عن ثلاثة إسهامات نظرية مختلفة في محاولة التعرف على العلاقة المتبادلة فيما بين حركات التغيير العربية.

الإسهام الأول يعتبر أن تلك الحركات تمثل تطبيقاً عملياً لنظرية الدومينو المعروفة على أساس أن الثورة في تونس أدت إلى ثورة مماثلة في مصر ومن بعد، وبحكم الوزن الإقليمي لمصر انتشرت حركات التغيير من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه.
الإسهام الثاني يصف تلك الحركات بأنها تماثل التسونامي الذي عصف بالمنطقة بعد عقود طويلة من الركود السياسي كانت سبباً في وصف المنطقة بأنها تمثل استثناءً من الانتشار الديمقراطي في أنحاء واسعة من العالم.
أما الإسهام الثالث فهو يتعامل مع تلك الحركات بوصفها تعبر عن موجة رابعة من موجات الديمقراطية بعد الموجة الأولى التي شملت جنوب أوروبا والثانية التي غطت أميركا اللاتينية والثالثة التي امتدت إلى أوروبا الشرقية.
وينطلق هذا المقال من تبني وجهة النظر الثالثة لأن افتراض أن الثورات العربية تعبر عن نظرية الدومنيو يعني أن البداية كانت من تونس، وواقع الأمر أن تونس وإن قدمت أول النماذج الثورية العربية الناجحة إلا أن مظاهر الاحتجاج الشعبي لم تتوقف في العديد من البلدان العربية (في طليعتها مصر واليمن خصوصاً) منذ عام 2005، أما كون تلك المظاهر لم تنجح في بلوغ غايتها (قبل تونس) فهذا مرده افتقاد التنسيق الداخلي بين مختلف مكونات الحركة الاحتجاجية في كل بلد على حدة.
على صعيد آخر فإن وصف حركات التغيير العربية بالتسونامي أمر لا يصدق لأن الوصف يشير إلى ظاهرة طبيعية غير متوقعة تفاجئ هذا القطر أو ذاك فتعصف به وتنزل به خسائر جمة، وهذا ليس الحال مع تلك الحركات. فقد أشار العديد من المحللين السياسيين إلى أن البيئة العربية حبلى بعوامل الانفجار التي تتمثل في تأييد السلطة وانتشار الفساد السياسي واتساع الفجوة الطبقية وتعاظم دور الأجهزة الأمنية وتقييد الحريات العامة، فضلاً عن الاختلالات التي تعاني منها السياسات الخارجية للدول العربية.
يقول آخر، ربما لم يكن بمقدور أي محلل أن يتنبأ بلحظة انفجار الثروات العربية لكن أكثر المحللين لم يساورهم شك في أن الانفجار آتٍ لا محالة. يضاف إلى ذلك أنه على العكس من التسونامي الذي تخلف ضرباته خسائر مادية وبشرية ملموسة فإن حركات التغيير تتمثل في انطلاقة نحو تعويض الخسائر التي خلفتها نظم حكم فاقدة للشرعية والمصداقية، ولا أدلّ على ذلك من القول إن الأموال المنهوبة من مصر وتونس تساوي المديونية الخارجية الإجمالية لهاتين الدولتين بدرجة أو بأخرى.
وفي تلك الحدود يمكن القول إنه كما كانت موجات التغيير الثلاث التي عرفها العالم منذ 1828 تقوم في مناطق توجد بين وحداتها درجة عالية من التشابه في الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن ما يحدث حالياً في الوطن العربي هو أقرب ما يكون إلى تلك الموجات. ولئن كانت موجة التغيير العربية هي أقرب ما يكون إلى تلك الموجات، بل الكبير من الموجة التي اجتاحت أميركا اللاتينية في الثمانينات - بحكم محدودية تأثير العامل الخارجي في تحريكها على خلاف التغيير في أوروبا الشرقية الذي تولد عن انهيار الاتحاد السوفياتي- إلا أن الموجة العربية مع ذلك لا تتطابق مع موجة أميركا اللاتينية التي اتخذ التغيير فيها شكل الانقلاب العسكري ضد النظم القائمة فيما كان محرك التغيير في الوطن العربي شعبياً بامتياز. وحتى فيما يخص الحالة المصرية التي تسلم فيها الجيش السلطة فإن هذا تم بعد أن كانت القوى الشعبية قد قطعت معظم الطريق إلى التغيير، فضلاً عن أن تسلم الجيش للسلطة جاء بطلب من القوى الشعبية وليس رغماً عن إرادتها. وبالتالي فإن الفارق واضح بين أداة التغيير في أميركا اللاتينية والوطن العربي حتى تاريخ كتابة هذا المقال. كما أن الفارق واضح بين حركات التغيير التي توالت خلال الشهور الأربعة الأخيرة وبين النموذج الموريتاني الذي شهد انقلابين عسكريين خلال ثلاثة أعوام أسفر أولهما عن تسليم السلطة إلى قوى مدنية فيما كرس الثاني حكم العسكر.
وفيما يلي مقارنة بين حركات التغيير العربية:
1- تشابهت نقطة البداية التي أطلقت شرارة حركات التغيير العربية، والبداية هي عنف من جانب الشرطة في تفريق المتظاهرين الذين يرفعون شعارات الإصلاح السياسي، علماً بأن سقف مطالب تلك الحركات في البداية لم يكن يتعدى مكافحة الفساد وإفساح المجال لمزيد من الحريات وفصل السلطات وتداول رئاسة الدولة. حدث هذا في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، إلا أنه مع مرور الوقت ومع عناد النظم الحاكمة ارتفع سقف المطالب إلى مستوى الدعوة لإسقاط تلك النظم بالكامل.
2- كررت النظم الحاكمة بشكل مذهل استخدام الأساليب نفسها في تعاملها مع مطالب التغيير. في البداية يكون هناك اتهام المتظاهرين بالخيانة والعمالة للخارج مع التأكيد على محدودية نطاق الأحداث واستخدام أقصى عنف في قمعها، ثم يبدأ إطلاق وعود محدودة بتعديلات وزارية أو برشاوى مادية. وهذه ظاهرة شملت كل الدول العربية خصوصاً النفطية حيث سمحت مداخيل النفط المرتفعة بتقديم مزايا اقتصادية سخية كما حدث مثلاً في السعودية. وفي مرحلة لاحقة تُوجه الدعوة لحوار وطني تشارك فيه قوى المعارضة، ثم يعلن رئيس الدولة نيته عدم الترشح مجدداً أو توريث السلطة لابنه، ثم يفوض بعض صلاحياته لنائبه (مصر) أو يعرض ذلك (اليمن) ثم يتم إنهاء حكمه عبر فراره للخارج (تونس) أو تنحيته فعلياً بواسطة الجيش (مصر).
لكن هذا لا يمنع أن هناك بعض التفاوتات بين نظام وآخر: فالعقيد القذافي لم يمر بكل تلك المراحل لكنه انتقل من مشاركة المتظاهرين تظاهرهم على نظامه (!) إلى وعود الإصلاح بواسطة ابنه سيف الإسلام، إلى سبّ المتظاهرين واتهامهم بالعمالة واستخدام كل ما في حوزته من سلاح لإخماد حركتهم في معركة لا شبيه لها إلا في الصراع بين قوى التحرر وجحافل الاستعمار.
يرتبط بما سبق، مستوى العنف المستخدم في قمع المتظاهرين والذي اختلف من حالة إلى أخرى، حيث أنه تدرج من أقصى درجات القمع في ليبيا واليمن وسورية بالترتيب، إلى درجات متوسطة من العنف في باقي الحالات الأخرى كسلطنة عُمان والبحرين والأردن.

3- أعادت الحركات العربية الاعتبار لدور الطبقة الوسطى في عملية التغيير الاجتماعي بعد أن ساد الاعتقاد بتآكل تلك الطبقة تحت وطأة تزايد عملية الخصخصة. وبدا ذلك أوضح ما يكون في حالتي مصر وتونس حيث أن من أشعل فتيل الثورة هم الشباب من أبناء الطبقة الوسطى الذين استطاعوا التحايل على تضييق النظم الحاكمة على كل سبل العمل السياسي عبر اعتمادهم بشكل مكثف على شبكات التواصل الجماعي (أساساً الفايس بوك) من أجل التعبئة والحشد والتوجيه.
4- فيما يخص قيادة حركات التغيير، فبعضها توفرت له هذه القيادة ووجّهته من البداية كما هو الحال حين قاد "الاتحاد العام للشغل" في تونس الثورة، خاصة أن الاتحاد يمثل المظلة الجامعة لنشاط القوى والأحزاب السياسية التونسية، وفي البحرين حيث تولت حركات المعارضة الشيعية قيادة عملية التعبئة والتوجيه.
أما في مصر فقدا بدأ الأمر بدعوة وجهتها حملة خالد سعيد (وهو شاب قُتل على يد الأمن في محافظة الإسكندرية من دون ذنب) للتظاهر يوم 25 (كانون الثاني) يناير ثم اتسع نطاق الانضمام للمتظاهرين من دون أن تكون هناك قيادة موحدة ومُوجهة. وفي سورية جرى الأمر على نحو مماثل حيث انطلق متظاهرو درعا من دون قيادة، ومن بعد امتدت شرارة التغيير إلى حمص وحماه ودمشق وغيرها من المدن السورية. أما في ليبيا فمع امتداد أمد المعركة بين كتائب القذافي والثوار برزت الحاجة إلى كيان ينسق جهود الثوار ويصبح الجهة الشرعية الممثلة لليبيا بعد سقوط شرعية نظام القذافي.
5- ثمة حركات للتغيير في بعض دول المنطقة اتسمت بحكم طبيعة التركيبة الديمغرافية بالطائفية، والنموذج الواضح هو البحرين حيث قادت المعارضة عملية التغيير علماً بأن المعارضة في قسمها الأكبر تنتمي للمذهب الشيعي. لكن عدداً آخر من حركات التغيير تميز بأنه عابر للطوائف كما حدث في العراق، حيث وحدت قضايا مثل مكافحة الفساد وتحسين الخدمات العامة شيعة العراق وسنته. هذا فضلاً عن أنه في دولة مثل لبنان انطلقت فعاليات حركة شعبية هدفها إسقاط النظام الطائفي، ومثل هذا الهدف فرض تكوين الحركة من مختلف الأطياف والطوائف.
على صعيد آخر، فإن غلبة التكوين القبلي على بعض الدول العربية جعل سلاح القبائل يستخدم من طرفي النظام الحاكم وحركات التغيير الأمر الذي أدى وما زال إلى إطالة أمد الصراع من جانب، مترافقاً مع دموية هذا الصراع من جانب آخر وقد يترتب عليه تقسيم البلاد وتفتيتها من جانب ثالث. وتمثل ليبيا واليمن نموذجين واضحين للاصطفاف القبلي.
6- تثير حركات التغيير العربية مسألتين، الأولى الشرعية الثورية مقابل الشرعية الدستورية. والثانية الثورة مقابل الثورة المضادة. ولقد أثيرت هاتان المسألتان بوضوح تامٍ في كل من مصر وتونس مع ملاحظة أن تونس اعتمدت الشرعية الدستورية نتيجة نقل السلطة طبقاً للدستور إلى رئيس مجلس النواب، فيما تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر تغليب الشرعية الثورية عن طريق تسلمه للسلطة و"قبوله استقالة" مبارك. على صعيد آخر تتفاعل جملة عوامل تجعل من الثورة المضادة في مصر أشد ضراوة بما لا يقاس من نظيرتها في تونس. من أهم تلك العوامل ان الثورة المصرية لم تتبع في بناء النظام الجديد الأسلوب المتدرج الذي اتبعته تونس بل كانت أقرب إلى استخدام أسلوب الصدمة الأمر الذي يعني البناء قبل التطهير وهذا يسمح بظهور القوى المضادة. عامل ثان يرتبط بتعقيدات الخريطة السياسية المصرية وما تعنيه من وجود قوى مضادة للثورة وإن لم تكن بالضرورة موالية للنظام القديم. عامل ثالث يرتبط باحتدام الصراع الدولي والإقليمي على تشكيل واقع ما بعد الثورة في مصر، بما يتجاوز بكثير الصراع على تونس.
7- النقطة الأخيرة تتصل بالموقف الخارجي من حركات التغيير في الوطن العربي. والقاعدة التي كشفت عنها تلك الحركات هي أن الغرب حليف لكل النظم الاستبدادية وأنه يظل يدعمها حتى يتبين أنها عاجزة عن الصمود أمام رياح التغيير فعندها يقرر أن ينفض يديه منها. حدث هذا مع تونس ومصر، وتكرر في اليمن، بل وحتى في ليبيا، نلاحظ أن التدخل الدولي لفرض الحظر الجوي تأخر كثيراً رهاناً على أن النظام قادر على استعادة الأمن وقمع المتظاهرين. لم يشذ عن هذه القاعدة إلا موقف الغرب من النظام السوري وهو الموقف القائم على إدانة قمع المتظاهرين من أول لحظة وذلك لاعتبارات تتعلق بالسياسة الخارجية لبشار الأسد وتحالفاته الإقليمية.

وفيما يخص القوى الإقليمية، فلقد ميزت إيران بين دعمها للثوار في مصر وليبيا واليمن وتونس ودعمها للنظم في سورية والعراق. كما اتبعت تركيا سياسة تتميز بالعقلانية في تعاملها مع الثورات العربية أولاً بتلافي ازدواجية المعايير في الحكم على تلك الثورات. وثانياً بطرح وساطتها السياسية في الحالة الليبية قبل الإقدام على قطع علاقتها بنظام القذافي نفسه، أي الانتقال من مرحلة التأييد اللفظي إلى البحث عن تنقية الأجواء السياسية.
أما فيما يخص إسرائيل فإنها بعد أن استوعبت مفاجأة اندلاع حركات التغيير العربية سعت إلى الاستفادة من معطيات تلك الحركات من خلال خلق أمر واقع على الأرض، وهي نقطة يجب التنبه لها تماماً وعدم ترك قضايا بناء الداخل تهمش القضية المركزية التي هي القاسم المشترك بين كل شعوب المنطقة.
على صعيد آخر، وضعت حركات التغيير في دول عربية عدة نخب في دول عربية أخرى في موقف حرج لأن تأييد هذه النخب للتغيير في الدول الأخرى سيعني التمهيد لانتقال شرر التغيير إلى أراضيها. ومع ذلك فإن دموية الصراع الدائر في ليبيا دفعت الجامعة العربية إلى خطوة غير مسبوقة مؤداها قبول قرار مجلس الأمن فرض حظر جوي على ليبيا إنقاذاً للمواطنين من قصف كتائب القذافي. وقد كانت خطوة الجامعة العربية موضع جدل واسع وانتقاد مبعثه الخوف من تكرار سيناريو العراق، إلا أن الجامعة تصرفت بواقعية لجهة عدم قدرتها على رفض مساندة المجتمع الدولي للمواطنين الليبيين في وقت من غير الوارد فيه أن تقدم لهم هي مساعدة عسكرية.
ونظراً لحساسية الوضع في البحرين بالنسبة لكل منطقة الخليج العربي انفردت أزمة البحرين في محاولة احتوائها بإرسال قوات عربية ممثلة في درع الجزيرة بمشاركة سعودية – إماراتية بالأساس الأمر الذي أثار بشدة حفيظة إيران. كما أن حساسية الأزمة اليمنية هي التي حركت تقدم مجلس التعاون الخليجي بمبادرة للوساطة.
إن حركات التغيير العربية ما زالت تتوالى، وهي بربيعها الديمقراطي قد فتحت صفحة جديدة على مستقبل أفضل وأكرم وأكثر ازدهاراً بإذن الله.

http://www.palestine-studies.org/ar_index.aspx

ليست هناك تعليقات:

شارك

Share |